زكية زكي: اغتيال امرأة شجاعة



عبدالله المدني
2007 / 6 / 18

في أواخر الشهر الماضي أطلق الطبيب الأفغاني المقيم في الولايات المتحدة خالد حسيني عمله الروائي الثاني تحت عنوان " ألف شمس مشرقة ". و مثل روايته الأولى "طواف الطائرة الورقية" التي أطلقها في عام 2003 فظلت على مدى عامين من ضمن أكثر الكتب مبيعا في العالم، بدليل طباعة أكثر من أربعة ملايين نسخة منها، جاءت الرواية الجديدة لتتناول صورا من العلاقات الإنسانية المضطربة على خلفية الأحداث التاريخية و التحولات السياسية التي شهدتها أفغانستان ما بين عامي 1959 و 2003 ، مع فارق أن مضمون العمل الأول كان عن علاقة جمعت ما بين صبيين، بينما الكتاب الثاني يتناول صداقة جمعت ما بين امرأتين لكل منهما خلفية اجتماعية وثقافية مختلفة، لكنهما تلتقيان في تجسيد طموحات المرأة الأفغانية الباحثة عن الحرية و الانعتاق من اسر التقاليد الظالمة و هيمنة الذكورة المتشددة.

ولو أن المؤلف تأخر بضعة أسابيع في إطلاق عمله الثاني، لكان حتما أضاف إليه صورا جديدة من واقع ما تعرضت له اثنتان من نساء بلاده النجيبات مؤخرا. فمن بعد قيام مجهولين باغتيال مذيعة الأخبار الشابة في قناة "شمشاد" التلفزيونية الخاصة شكيبة سانجا أماج (22 عاما) في منزلها في كابول في 13 مايو المنصرم، قام متشددون يعتقد أنهم من أتباع نظام طالبان البائد في السادس من يونيو الجاري باقتحام منزل التربوية و المذيعة زكية زكي (35) في شمال كابول و افرغوا في جسدها بوحشية ثمان رصاصات على مرأى و مسمع من صغيرها ذي السنوات الثمانية، دون أن يرق قلبهم لصرخات ودموع و توسلات الأخير.

وبطبيعة الحال فان ما حدث لزكية، التي نعاها بيان رسمي من منظمة اليونيسكو، حدث من قبل وبصور مختلفة للكثيرات غيرها من نساء أفغانستان ممن تحدين القهر و الإذلال و امتلكن الجرأة لمقاومة الفرمانات الخاصة بالتزام المنزل وعدم الخروج للعمل أو الدراسة أو التسوق و عدم الاختلاط أو التحدث مع الغرباء أو ارتداء الملابس غير التقليدية أو وضع المساحيق أو الاستماع إلى الموسيقى طيلة سنوات حكم طالبان الأرعن ما بين عامي 1996 و 2001 . تشهد على ذلك الصور الموثقة الكثيرة لعمليات إعدام النساء في ستاد كابول الرياضي أو غيره.

غير أن حادثة تصفية هذه السيدة لها دلالات مختلفة، و يمكن إدراجها ضمن محاولات الطالبانيين وأشباههم من قوى الإسلام السياسي المتشددة التي تعي جيدا دور جهازي الإعلام و التربية في تشكيل ثقافة المجتمع، فتستميت من اجل الهيمنة و فرض الوصاية عليهما، فان حالت الظروف دون ذلك لجأت إلى إخماد صوت العاملين فيهما، و لاسيما الإعلاميات و التربويات من ذوي الفكر المنفتح والمبادرات الجريئة، بالتهديد و القتل.

وزكية لم تكن بطبيعة الحال مجرد امرأة أفغانية عادية مهمومة بقوتها و قوت عيالها، و إلا لما صارت هدفا للتصفية، و إنما كانت من أولئك الطليعيات اللواتي أخذن على عاتقهن في حقبة ما بعد طالبان الاضطلاع بمهام تنوير المجتمع و تثقيفه وإطلاعه على حقوقه الآدمية من خلال العمل في مجالي التربية و الإعلام. ليس ذلك فحسب، و إنما امتلكت أيضا شخصية قوية ذات ملكات ومواهب متعددة و قدرات مشهودة على إطلاق المبادرات، يسندها تفاؤل دائم بمستقبل أكثر إشراقا لوطنها، و تعززها روح جميلة منفتحة على كل الأطياف.

فأثناء محاولات الطالبانيين في عام 1997 التقدم شمالا لاكتساح مواقع الزعيم الراحل احمد شاه مسعود، و على خلاف الأخريات اللواتي هجرن منازلهن و رحلن بعيدا، لم تأبه بما كان يدور حولها من قصف صاروخي و إحراق للمزارع، و فضلت البقاء داخل منزلها مع أطفالها ومواشيها، رغم ندرة الطعام و شح المياه، و ذلك من منطلق تفاؤلها بأن الأيام الصعبة لا بد و أن تتلوها أيام جميلة. و هو ما حدث فعلا بعد سبعة اشهر حينما تم إجبار الميليشيات الطالبانية على التقهقر وعاد زوجها من جبهة القتال سليما إلا من بعض الإصابات التي لم تكن تختلف عما أصاب جسده طوال 28 عاما من القتال في جبهات مختلفة.

وحينما زاح كابوس طالبان عن البلاد في عام 2001 بادرت إلى إطلاق إذاعة محلية بقوة 500 كيلووات و يصل بثها إلى كابول و خمس ولايات أخرى تحت اسم "راديو صلح" أو إذاعة السلام، و ذلك إيمانا منها بان البث الإذاعي هو وسيلة نموذجية في بلد يعج بالأميين و الأميات كأفغانستان لمد الناس بآخر التطورات، وتحريرهم من الأوهام و الخرافات و التقاليد البالية، و تعويدهم على التفكير المستقل و الحوار الديمقراطي، وتشجيع النساء على الاضطلاع بدور محوري في المجتمع، و إطلاعهن على حقوقهن المنتهكة. ومن هنا فان أكثر ما ركزت عليه زكية في إذاعتها إلى جانب الفقرات الدينية و الموسيقية، كان البرامج الحوارية من خلال استضافة نماذج حية من الأفغانيات الناجحات في ميادين العمل المختلفة، و برامج تلقي الرسائل و المكالمات الهاتفية حول المشاكل والصعوبات التي تواجه المرأة الأفغانية في البيئة الحالية المضطربة. ورغم المصاعب المالية التي واجهتها بسبب خلو إذاعتها من الإعلانات التجارية إلا لماما، و التي لم تخفف منها مسارعة محبي برامجها الكثر إلى مد يد العون، و رغم التهديدات المتتالية من القوى القبلية المحافظة بإخراس إذاعتها، فإنها ظلت مؤمنة بفكرتها و مستمرة في عملها بحماس و نشاط.

غير أن هذا لم يكن نشاطها الوحيد. فإضافة إلى عملها الإذاعي بمساندة من زوجها و طاقم مكون من 8 مراسلين و محررين للأخبار، عملت زكية بالتزامن كمديرة لإحدى مدارس البنات في منطقة "جبل سراجي" بولاية "باروان"، وسط ظروف صعبة ناجمة عن إحجام الكثيرين عن إرسال بناتهم إلى معاهد العلم، فضلا عن النقص الكبير في الكتب المدرسية ووسائل التربية الحديثة وافتقار المدارس إلى التجهيزات العلمية و مياه الشرب الصحية و وسائل الإيضاح و المكتبات ودورات المياه النظيفة. لكن كل هذا لم يزرع اليأس في نفسها، بل كان دافعا لها للتحرك في كل اتجاه طلبا للمساعدة. و هو ما تجلى في التحاقها في عام 2005 بوفد من التربويات الأفغانيات لزيارة الولايات المتحدة، حيث تلقت مع زميلاتها دورات في اللغة الإنجليزية و الكومبيوتر وأساليب التربية و الإدارة الحديثة في جامعة نبراسكا، وزرن المدارس المحلية، و عقدن حوارات مع طلبتها و مديريها، كما قمن بالتعريف ببلادهن و ما تحتاجه من دعم في قطاع التعليم بمراحله المختلفة.

لم تكتف زكية بكل هذا، و إنما دفعها حبها للعمل من اجل بلدها فحسب إلى خوض أول انتخابات نيابية حرة في تاريخ أفغانستان قبل عامين، و هي الانتخابات التي لم تفز فيها، لكنها أبرزت مواهبها كانسانة واقعية تعرف ما تريد و تجيد مخاطبة الناخبين. من ذلك أنها لم تناقش في حملاتها الانتخابية قضايا الحجاب و الخمار و السفور كغيرها، قائلة إنها أمور ثانوية من الأفضل تجاوزها إلى قضايا أهم مثل العنف المتفشي ضد المرأة، و تعليم الإناث الذي هو مفتاح الاستقلالية والشعور بالمساواة و الاندماج في سوق العمل، و حماية الأرامل الكثر اللواتي فقدن دخولهن بمقتل أزواجهن في حروب العقدين الأخيرين من الإذلال و الاستجداء في الشوارع، و توفير الملاجيء اللائقة للأيتام والفقراء و المعوزين.