تاريخ لم يكتب وعنف لم يوصف



رجاء بن سلامة
2007 / 6 / 18

لم تحرق النّساء في العالم الإسلاميّ كما أحرقن في أوروبّا بتهمة السّحر والتّحالف مع الشيطان، لا لأنّ الإسلام يحرّم حرق الأجساد ويجعله حكرا على الله فحسب، بل لأنّ مؤسّسة الحجاب مثّلت جدارا عازلا حدّ من حضور النّساء في الفضاءات العموميّة، ووفّرت جهازا ناجعا نسبيّا للتّحكّم في أجسادهنّ ومراقبة أنشطتهنّ. وفي الوقت نفسه، مثّل الحجاب تطويقا لفتنة النّساء، إذا فهمنا الفتنة بمعنى السّحر، وإذا اعتبرناها الصّيغة الإسلاميّة لتحالف النّساء المفترض مع الشّيطان الذي يسمّى في العربيّة "فتّانا"، أي مع المتعة الجسديّة والمحرّم. الفتنة في رأيي هي السّحر الحلال الذي اتّهمت النّساء به، ولكنّ هذا السّحر لا يكون حلالا إلاّ إذا أسدل عليه حجاب من حجارة أو قماش، وقنّنته كوكبة الممنوعات التي نعرفها، من منع الخلوة المحرّمة إلى منع التّبرّج والمصافحة والخروج بدون إذن.
ومع ذلك لم تتكفّل حواجز الحجاب وحدها بقمع النّساء، لأنّ النّساء كنّ يخرجن إلى الأسواق والمقابر والحمّامات، ولم يكنّ جميعا من ربّات الخدور المترفات، بل كانت الكثيرات منهنّ إماء يكلّفن بالخروج لقضاء الحاجات، وكانت الكثيرات منهنّ يمتهنّ حرفا نسائيّة. وتعجّ كتب التّراث بالأخبار التي تتحدّث عن قرار أصحاب السّلطة منع النّساء من الخروج إلى الحمّامات والمقابر من حين لآخر، وضرب أولياء الأمر والمحتسبين إيّاهنّ بالسّياط. فقد كان عمر بن الخطّاب يؤدّي بنفسه وظيفة المحتسب، ويدور بسوطه في الأسواق، محاولا تطهير المدينة من ظلال الشّيطان : "روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع نائحة فأتاها فضربها بالدرة حتى وقع خمارها عن رأسها. فقيل: يا أمير المؤمنين, المرأة المرأة! قد وقع خمارها. فقال: إنها لا حرمة لها. أسند جميعه الثعلبي رحمه الله." (تفسير القرطبيّ)
ويفيدنا ابن تغري بردي في كتابه "النّجوم الزّاهرة في ملوك مصر والقاهرة" بشيء من أخبار الحملات "البوليسيّة" الدّينيّة على النّساء. ففي عهد الملك الأشرف برسباي (القرن الخامس عشر م)، كان محتسب القاهرة دولات خجا "يتتبّع النّسوة ويردعهنّ بالعذاب والنّكال، حتّى إنّه ظفر مرّة بامرأة وأراد أن يضربها فذهب عقلها من الخوف، وحملت إلى بيتها مجنونة، وتمّ بها ذلك أشهرا، وامرأة أخرى أرادت أن تخرج خلف جنازة ولدها، فمنعت من ذلك فرمت بنفسها من أعلى الدّار فماتت."
ولم نكتب إلى اليوم تاريخ قمع النّساء كما كتب الأوروبّيون منذ القرن التّاسع عشر تاريخ محاصرة السّاحرات وحرقهنّ، وإعدام أوائل المطالبات بحقوق النّساء إبّان الثّورة الفرنسيّة وبعدها. لا يعود ذلك في رأيي إلى فقر في الكتابات التّاريخيّة العربيّة التي تهتمّ بالحياة اليوميّة وبفئات اجتماعيّة غير الطّبقات الحاكمة، وفقر في الدّراسات النّسائيّة التي لا تكتفي بالحديث الورديّ المبستر عن رائدات النّهضة النّسائيّة. بل يعود هذا النّقص إلى أنّ هذا الماضي الذي يجب أن نكتب تاريخه لم يمض بعد، وإلى أنّ اللّحظة الحداثيّة التي تجعل علاقتنا بالتّقليد إشكاليّة لم تنتج تراكما معرفيّا كافيا، ولم تنجح في إحداث تغيير جذريّ في الأنظمة الاجتماعيّة والعقليّات السّائدة في الكثير من البلدان العربيّة.
لقد خرجنا من التّقليد، بل ألقي بنا خارجه بالأحرى، ولكنّنا بقينا معلّقين بتلابيبه واقفين على أعتابه، وبقيت بعض أجهزته القمعيّة متواصلة في أكثر الدّول ثراء ونفوذا إعلاميّا، وبقيت متجلّية كأحسن ما يكون في مؤسّسة الحسبة القائمة على مبدإ "الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر". وأبرز دليل على أنّنا خرجنا من التّقليد دون أن نخرج منه هو عجزنا عن إيجاد علاقة تأويليّة بالآيات القرآنيّة التي تكرّس العنف ضدّ النّساء في شكله القانونيّ المنظّم أوفي شكله الفرديّ الاستثنائيّ. فقد أقرّ القرآن بأفضليّة الرّجل على المرأة من خلال الآية : "ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف، وللرّجال عليهنّ درجة، واللّه عزيز حكيم" (البقرة/228)، ومن خلال الآية : "الرّجال قوّامون على النّساء بما فضّل اللّه بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم." (النّساء/34). وفي هذه الآية نفسها، ونتيجة للأفضليّة المعلن عنها، والتي لا يمكن أن ينكرها اليوم إلاّ سفسطائيّ أو مؤسطر للماضي، أباح للزّوج معاقبة زوجته عقابا يمكن أن يصل إلى الضّرب : "... فالصّالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ اللّه، واللاّتي تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ واهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلا."
وليس المقصود بإيجاد علاقة تأويليّة بهذه النّصوص المقدّسة التّحايل في سبل تطبيقها، وفي تلطيف عنفها، كما يفعل أهل الإفتاء "المعتدلين" اليوم، وكما فعل متولّي شعراوي مثلا عندما أفتى بأنّ ضرب النّساء النّاشزات يجب أن يكون "ضربا مشوبا بحنان". إنّما المقصود هو إيجاد مسافة تفصلنا عنها، انطلاقا من موقع تأويليّ مختلف، بوضعها في سياقها التّاريخيّ واعتبار أحكامها غير ملزمة لنا. فانعدام العلاقة التّأويليّة غير ممكن، لأنّه يعني إقصاء العنف ونسيانه وجعله في حكم المكبوت الذي لا بدّ أن يعود. والاجتهاد البائس الذي يطلع به علينا المفتون والفقهاء لم يعد ممكنا أيضا لأنّه يؤبّد العنف وإن حاول تلطيفه، وينتج حلولا مضحكة متناقضة.
بدل أن ينتج المسلمون هذه العلاقة التّأويليّة الجذريّة أنتجوا الخطاب الإنكاري المردّد لـ"الإسلام كرّم المرأة." وتضخّم هذا الخطاب الذي يصرّ على تسمية العنف تكريما، وازدادت أهمّيته بازدياد تفكّك المنظومات التّقليديّة وتعرّي تعارضها مع مطامح المساواة والحرّيّة في المنابر القليلة المنفلتة من رقابة الدّول النّفطيّة الرّاعية للشّريعة وللسّلفيّة السّنّيّة، أو الرّاعية للسّلفيّة الشّيعيّة.

هذا في ما يخصّ واجب الذّاكرة، واجب الاعتراف بالعنف السّابق وواجب كتابة تاريخه، وإيجاد علاقة تأويليّة بالنّصوص المقدّسة التي تبرّره وتبيحه. ولكن يوجد واجب آخر هو ملاحظة أشكال العنف الذي لم يسمّ بعد عنفا، والحديث عنها وطرحها للنّقاش، واقتراح صيغ لتطوير منظومة حقوق الإنسان في اتّجاه مناهضتها. فمن طبيعة العنف أنّه لا يسمّي نفسه عنفا، ومن طبيعة حقوق الإنسان أنّها ليست منزّلة ولا مقدّسة، بل قابلة للتّطوّر، وللاكتشاف المستمرّ لمناطق اللاّمساواة واللاّكرامة.
العنف الذي أقصده ليس مصنّفا ضمن أنواع العنف "اللّفظيّ والمادّيّ والنّفسيّ"، ولا يكاد يتحدّث عنه النّاشطون في مجال حقوق النّساء، ولا يذكره المنشّطون للدّورات التّدريبيّة عن العنف ضدّ النّساء لكثرة مظاهر العنف والتّمييز في المنظومات القانونيّة العربيّة عموما. وهو لا يسمّى عنفا لدى الفريقين : المدافعين عن الشّريعة والمدافعين عن حقوق الإنسان. المدافعون عن الشّريعة يسمّونه ثوابت وخصوصيّات ثقافيّة، والمدافعون عن حقوق الإنسان يسمّونه "حرّيّة شخصيّة"، بل وكثيرا ما تمتزج الحجّتان في الخطاب الواحد، لنزعة تيّارات الإسلام السّياسيّ إلى الأخذ بالنّموذج الدّيمقراطيّ، ونزعة بعض المدافعين عن حقوق الإنسان إلى تجنّب خدش "المشاعر الدّينيّة" والابتعاد عن المواضيع المحرجة. إنّه عنف الحجاب عندما يجعل المرأة بلا وجه ولا صوت. عنف الوصمة والبصمة التي تحوّل المرأة إلى كائن لااجتماعيّ أسود لا يكاد يظهر ولا يكاد يتكلّم، لأنّ التي يكون كامل جسدها عورة، تكون حركاتها عورة، ويكون صوتها عورة، ويكون ظهورها في حدّ ذاته فضيحة لا بدّ من مداراتها.
فسواء أكرهت المرأة على النّقاب أم اختارته لشعورها بالإثم أو لرغبتها في الاحتجاج السّياسيّ أو الهوويّ على هذا النّحو، لا يمثّل النّقاب سوى انتزاع لبشريّة المرأة، ولكينونتها الاجتماعيّة. هذا الانتزاع تنكشف لك الأدلّة عليه من حين لآخر. تنكشف لك مثلا عندما ترى في المطاعم أو المقاهي منقّبات يصحبن أزواجهنّ، وتراهنّ عندما يشرعن في الأكل والشّرب يطئطئن رؤوسهنّ، ويزحن كمامة الفم ليأكلن. ففي هذه الحركة تشبه المرأة الحيوان مرّتين : بالكمامة التي تضعها على فمها كما تكمّم الكلاب الشّرسة، وبطأطأة الرّأس كما تفعل الحيوانات، لأنّ الدّوابّ باستثناء القردة لم تقدر على الانتصاب للمشي والأكل.
هذه بعض تفاصيل الواقع الحيّ المعيش التي لا نقرأها في الكتب وليست موضوع حلال وحرام، ونحن لا نوردها قصد التّهكّم من المنقّبات والتّعريض بهنّ، لأنّ السّخرية من الضّحايا لا تجوز. إنّما نوردها لأنّنا يجب أن نشهد على العنف وأن نتحدّث عنه ، ولأنّ العدوّ الألدّ للعنف هو الكلام والوصف وتسمية اللاّمسمّى واللاّبشريّ.
للإنسان الحقّ في الاسم والجنسيّة والعمل والصّحّة والمسكن اللاّئق وغير ذلك، ولكن له الحقّ في الوجه والصّوت وحرّيّة الحركة. والنّقاب اعتداء على هذه الحقوق التي لم تخطر على بال محرّري الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان في منتصف القرن الماضي، ربّما لأنّ المنقّبات آنذاك لم يخرجن بعد من جدران الحجاب، ولم يفرض حضورهنّ في الأماكن العامّة الأسئلة التي يفرضها اليوم. ربّما لأنّ هؤلاء المحرّرين لم يدر في خلدهم أنّ حرّيّة اللّباس يمكن أن تكون غطاء لتمرير أشكال جديدة قديمة من امتهان النّساء.
تحضرني صورة السّاحرة ذات الشّال الأسود، كلّما رأيت ذوات النّقاب الأسود. كلتاهما متّهمة بالتّحالف مع الشّيطان. كلتاهما غارقة في السّواد والعزلة الاجتماعيّةّ. تقول فرجينيا وولف عن ساحرات أوروبّا في كتابها عن "الغرفة المنفردة" : "الأكيد أنّ كلّ امرأة ولدت ولها موهبة في القرن السّادس عشر أصبحت مجنونة أو قتلت نفسها أو أنهت أيّامها في كوخ على أطراف القرية، وهي نصف ساحرة نصف مشعوذة، وهي مصدر خوف وعرضة للسّخرية."
السّاحرة سلط عليها عقاب العزل والحرق في ماض طويت صفحته، والمنقّبة يسلّط عليها إلى اليوم عقاب الصمت والامّحاء واللاّهويّة واللاّتحدّد، وعقاب التّحوّل إلى حيوان أليف مكمّم في الأماكن العامّة.

وتحضرني العبارة التّوراتيّة التي توعّدت المرأة بآلام الولادة : "سوف تلدين في الألم"، ولكنّها لا تحضرني كلّما رأيت امرأة حاملا، بل كلّما رأيت محجّبات ومنقّبات ينؤن تحت وطأة أغطيتهنّ وأكمامهنّ وقفّازاتهنّ.
ذلك أنّ الإله التّوحيديّ في صيغته الإسلاميّة لم يمنع الشّهوة ولم ينزل اللّعنة على الجسد البشريّ، بل أنزل لعنته على النّساء، وكأنّ لسان حاله : "سوف تتحجّبين في الألم."