(مجرشة الكرخي)...ملحمة شعبية عن مظلومية المراة العراقية لا تسقط بالتقادم



ابراهيم البهرزي
2007 / 8 / 21

لا يكاد الوضع يختلف كثيرا بين العام 1930,وهي السنة التي كتب الملا عبود الكرخي قصيدته الشعبية (المجرشة) عن زماننا هذا,فعملية استغلال وتسليع المراة لم تزل تجري على قدم وساق ون اختلفت تمظهرات ذلك التسليع,فبالرغم من كل التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية .التي حدثت وتحدث منذ كتابة هذه الملحمة الشعبية حتى الان ,وبرغم كل الدعاوى الاشتراكية والثورية التي يزعق بها هذا الطرف او ذاك,فان هذا العصب بقي على شلله المستديم ,فكل ما حدث من تغيرلت ان هو الامظهر شكلي لاغير افرزته تطلعات القوى والحركات السياسية التي قامت بالتغييرمن اجل استقطاب زخم اضافي مجاني يديم هيمنتها وسلطتها فقط!
كنت في كل فجر امر به عند تقاطع بغداد- بعقوبة-الخالص اتذكر قصيدة المجرشة للشاعر الملا عبود الكرخي تلقائيا وانا اشاهد حشود النسوة الملثمات والمجللات بالسواد وهن يتدافعن للركوب في الحوض الخلفي للسيارات الحقلية(البيك اب) التي يقودها ملاك البساتين وهي تذهب بهن الى (معسكرات)العمل الشاق في جني الفواكه والخضار اوجز الحشائش الشائكة الضارة في البساتين
ان (نسوة المساطر )اللواتي برزن في العقدين الاخيرين من الزمان اثر تدهور الوضع الاقتصادي وانحدر دخل الفرد العراقي الشهري الى ما دون الدولارين في الشهر!لا يختلفن كثيرا عن عاملة المجرشة المنكودة تلك التي خلدها الكرخي بلمحمته الشعبية الطويلة,والتي لا تختلف عن الملاحم الشعبية المروية شفاها لدى الشعوب الاخرى,فان كنا لانعرف بدقة واقع اوشخصية تلك المراة التي يظنها البعض من نسيج خيال الشاعر,فاننا نعرف بدقة شخوص وضروف عاملات البسلتين المياومات..
لقد استطاع صديقي الشاعر والصحفي الراحل اديب ابو نوار ان يقنع احد اصدقائنا من ملاك البساتين في مرافقته ذات فجر لمواكبة عملية (استعمال)هاته النسوة للتعرف عن كثب على ظروفهن الاجتماعية والاقتصادية,وقد حصل من جراء ذلك على ريبورتاج صحفي غني بالمثير والمدهش من الاجابات القاسية حقا ,فقد اكتشف بين هاته النسوة طلبة جامعيات وموظفات ومعلمات مدارس,والاكثر غنى من ذلك فقد تعرف على ظروف عمل لا انسانية تمارس مع هاته النسوة المسحوقات ,فمنهن من روت عن عمليات اغتصاب جنسي في تلك الحقول البهيمة ومنهن من روت عن حالات اخلال بشروط الاجور ,بل واحيانا طردهن من الحقول وتركهن معلقات في دروب البساتين الشائكة عرضة للحيات والكلاب السائبة والذئاب البشرية,يحدث هذا حين يرفضن الاستجابة لنهم الفلاحين الحيواني...
وقدحاول الراحل ابا نوار نشر ذلك الريبورتاج في اكثر من صحيفة فكان بعد المماطلات والتسويف يتلقى الاجابة الصريحة الوحيدة (ان نشر مثل هذا الموضوع يعد تشهيرا بحرائر العراق!) وظل الموضوع حبيس ادراجه حتى رحيله الماساوي الباكر حيث لا احد يعلم اين اصبحت اوراقه..
كتب الملا عبود الكرخي قصيدته (المجرشة)كما اسلفنا في العام 1930 اي بعد بضع سنوات على تاسيس المملكة العراقية ,وكان الملا عبود كما هو واضح من لقبه شخصا قد تعلم الكتابة وقراءة القران وحفظه في (الكتاتيب) وهي شبه مدارس شعبية ملحقة بالمساجد والتكايا ايام كان التعليم الرسمي يكاد يكون مقتصرا على بعض ابناء الوجهاء والطوائف العراقية غير المسلمة..
والملا عبود الكرخي كان يعمل في تجارة التمور والحبوب وتبعا لذلك كان يطوف في البلاد العراقية طولا وعرضا وترى في قصيدته هذه وغيرها فهرسا جغرافيا لكافة قرى وقصبات العراق,وكان الكرخي لوقوع منزله في صالحية الكرخ من بغداد قريبا من سكن معظم الطبقة السياسية الجديدة حينذاك كما ان الملاهي التي كانت تقع على شواطيء دجلة في تلك المنطقة كانت ملاذا للكتاب والصحفيين وبعض رجال الساسة الذين كانوا يتجمعون في المقاهي المجاورة لحين وقت افتتاح الملاهي وبذلك قد تعرف الملا عبود على معظم النخب الثقافية في ذلك الحين واصدر اكثر من جريدة كانت لاتلبث ان تغلقها السلطات لصراحتها الساخرة ونقد الكرخي اللاذع الذي كانت تزخر به قصائده الشعبية
وحال نشر قصيدة المجرشة في جريدته (الكرخ) تلقفها صديقه رائد المقام العراقي محمد القبانجي وغنى بعضا من مقاطعها واذيعت من دار الاذاعة حينذاك فاصبحت اغنية الجماهير الاولى.
ان قصيدة المجرشة الطويلة نسبيا تتحدث على لسان امراة دفعتها الظروف لان تعمل بالسخرة (اي باكل بطنها)عند رجل اقطاعي ,ويبدو من سياق القصيدة ان هذه المراة المسكينة تحمل وعيا طبقيا عفويا كبيرا,فكانت دائما تقارن بين حالها وحال نسوة اخريات متعطلات متبطلات وتشكو هم هذا التمايز الظالم:
(ساعةواكسر المجرشة بحركه واعيط بعيطه
ومن راسي انزع فوطتي والبس انا البرنيطه
دنياك خربطها الوكت صارت يول خربيطه
الكرعة صفت وام الشعر خلاقك مساويها)

فهي من شعورها بالاضطهاد تقارن نفسها بلابسات البرنيطة ,وهي غطاء راس للمراة كانت تلبسه بعض نساء الطبقة الارستقراطية انذاك والوافدات من فنانات الملاهي...
والمجرشة بالنسبة لمن لا يعرفها من العراقيين هي عبارة عن قطعتين من الحجر الخشن المدور تركب احداهما فوق الاخرى وتثقب الصخرة العلوية ليدار من ثقبها بذور الحنطة او الشعير ويشد بالعليا مقبض صغير للتدوير (ولازلت اذكر في طفولتي جدتي وهي تدير الرحى وتترنم بخفوت بانغام حزينة لا افهم كلماتها)
وهي يبلغ بها الحنق ان تشتم مستغلها فهي اجيرة ويسمى صاحب العمل الاستاد ..
( ساعة واكسر المجرشة والعن ابو استادي لعن
وانصب جواين بالعرب والبس انه ثياب الحزن
دنياك عشرة تلابست ويه النذل دبس ودهن
والمثلي وامثالي غدت كاس الصبر تسكيها)

ان حال الدنيا اي ظروفها الاجتماعية التي ولت عليها نذلا وهي الحرةتدفعها الى الرغبة في شتم مستغلهاوالهروب الى الفلوات متلفعة باثواب احزانها,بل انها ولسوء الاستغلا ل تضيق ذرعا بالحياة وترى ان السكن في المقابر اهون من معايشة الظلم..
( ساعة واكسر المجرشه واسكن بحي المكبره
كلبي ليحزن واستجن وحدي ولا غيري مره
اوله امن اظل بهالكبر ومعذبه وامرمره
اكرب لي خطوة لومتت اكرص وانامن بيهه)
بل انها تلعن المجرشة وكل ما يتعلق بعمل الجراشة لان مستغلها(استادها)يخبر الاخرين بانها ليست الا عبدة اشتراها من اسواق النخاسة:
(ساعة واكسر المجرشة واضرب على متوني ضرب
والعن ابو الكير وزفت والمجرشة ويده وكطب
استادي على راسي النذل كل ساعه لنه منتصب
ويكول هذي عبدتي من السوك انه شاريها)
ويبدو ان الملا عبود الكرخي لايتحدث في هذه القصيدة عن امراة بعينها بل هو يتحدث عن مهنة كان الاستغلال يتم عبرها بطرق شتى ,من هذه الطرق مثلا تزويج الفقيرات صغيرات السن من كهول بدافع الحاجة للمال,مما يضطر ازواجهن ولاجل تعويض المهور المدفوعه الى استغلالهن بالعمل اليدوي اضافة الى الاستغلال الجنسي:

(ساعة واكسر المجرشة والعن ابو اليكطع مهر
طفله على شايب هرم يفطن على حفر البحر
وصله سختيانه الوجه واللحيه تشبه للابر
الله ما يقبل هل بشع لرويحتي سابيها)
وتظل هذه المقهورة تستجير بالمجيرين ارضا وسماءافطورا تريد ان تكون كالنبي موسى تصعد الى جبل طورسيناء وتشكي لله مباشرة دون وسيط سوء حالها
وتارة تريد الهروب الى امبراطورية النمسا والمجر بعد ان تطوف كل مدن وعشائر العراق بل تفكر بالذهاب الى صنعاء وعدن ,ويبدو انها اول من فكر من العراقيين بالهجرة هربا من الاضطهاد وكانها تمتلك نبوءة بان شعبها سيغزو بقاع الارض بعد عهدها طلبا للامان:


(ساعة واكسر المجرشةواصعد على- الطور الجبل
سينا- واناجي مثل ما ناجاه موسى وانذهل
واشجيله همي وسوء حظي جرحي خزن والامل
يلي جرحها الجبدتي لابد ان يداويها

ساعة واكسر المجرشة وانحر على النمسه ومجر
وهناك اانكر- تبع وقحطاني والطائي ومضر
ترضه يالمسير سفينة -نوح- يارب البشر
-عبيان-ابوها كحيله وحصان الجرد يشبيها)
ولو ان احدا في زماننا هذا كتب انه سيهجر هذه العشائر العربية التي ذكرها الكرخي وانه سيلتحق بدلا منه بمنفى في النمسا اوهنغاريا لقيل عنه شعوبيا وشتم على رؤؤس الاشهاد ولكن يبدو ان مجتمع 1930 كان اكثر سماحة من مجتمعنا هذا ..وتطوف هذه المراة العراق كله وبمختلف قبائله باحثة عن نصير فهي تذهب لل-جفل- و-صلبه- و-الشوملي-و-الخرم-و-المناوي-والنجف-والهندية-و-العمارة-و-البومحمد-والصيرة-و-الكرادي-و-قلعة سكر -والشطره-ووبركنيه-و-بهرز-و-شفته-و-الهويدر-و-هبهب-و-زاغنيه-و-و-الدغارة-و-عفج-و-الجعارة-و-العكر-و-ابوصخير-و-الفيصليه-و-بعقوبه-و-الحيرة-و-سامراء-و-الفلوجة-و-الحلة -و-..
انها تطوف العراق جميعا بحثا عن مغيث يخلصها من الاضطهاد وتفطن اخر الشيء الى الملا عبود نفسه ليوصلها لجلالة الملك بحد ذاته:
(ساعة واكسر المجرشة اتكسر وامشي بليله
البغداد للشاعر الكرخي اعتني واحجيله
عن السهر والتعب والجوع وعطشي اشجيله
يكتبها-بالكرخ-الجريدة وللملك يحجيها.....)
فان لم ينفع هذه المسكينة كل هؤلاء الذين تستجيربهم فبمن تستجير ؟

(هم هاي دنيه وتنكضي وحسلب اكو تاليهه؟ )
لقد ذهل شاعر العراق الاكبرمعروف الرصافي حين سماعه القصيدة وهو من هو في صناعة الشعر ومن حقه هذا الذهول فلقدكتب الملا عبود الكرخي ملحمة شعبية عن مظلومية المراة العراقية لم يتجاوزها شاعر حتى الان ,,,ولاحتى السياب العظيم في -المومس العمياء-................

صدق الرصافي الكبير:
وصف لنا ابنة بؤس ذات مجرشة تقطع الليل في هم وتسهيد !!