الخطاب النسوي: ربط خلاَّق بين السياسي والاجتماعي



فيحاء عبد الهادي
2007 / 9 / 9

مع ازدياد انخراط المرأة الفلسطينية بالعمل المسلح، بعد عام 1965؛ ازداد السؤال إلحاحاً، حول علاقة الاجتماعي بالسياسي: هل ربط الخطاب النسوي بشكل خلاّق بينهما؟
في كتابها: "مقدّمات حول واقع المرأة وتجربتها في الثورة الفلسطينية"، أجرت "خديجة أبو علي"، دراسة ميدانية لتجربة الكوادر والعناصر النسائية سنة 1967- 1971، تبيّنت فيها بواكير وعي عند الكوادر النسوية، حول أهمية طرح قضية المرأة، وضرورة مبادرة قيادة الثورة، تبني القضايا الاجتماعية والنضالية للمرأة، من خلال طرح شعارات خاصة ببعض المشاكل التي تواجه المرأة، فيما يتعلق بمشاركتها في المجتمع، ووضع قضية المرأة ودورها في النضال، على جدول أعمال كافة التنظيمات السياسية، والنقابية، والشعبية.
وأكدت الدراسة الميدانية التي أعدَّها "غازي الخليلي"، في كتابه: "المرأة الفلسطينية والثورة"، أن اشتراك المرأة في الثورة في مرحلة التحرر الوطني، ولو وصل إلى حمل السلاح، لا يحرّرها بالكامل، بل يشكّل مقدمة طبيعية لتخليصها من بعض القيود الاجتماعية.
هذه الاستنتاجات تنسجم مع غالبية حركات التحرر الوطني: حيث تنشط النساء؛ فهناك حركة تراجع في دورهن، وهذا يصبح حقيقة الحياة، بعد التحرر الوطني وتحقيق الدّولة. ومن الملحوظ أن الكثيرات من الاشتراكيات، واللواتي آمنَّ طويلاً باستحالة تحقيق العدالة الاجتماعية دون تحقيق الاشتراكية؛ عدن ليتحولن إلى النسوية، علهن يجدن إجابة على الأسئلة الكثيرة التي لم تجب عليها الاشتراكية.
ألقت العديدات من الشيوعيات والاشتراكيات السابقات اللوم على اليسار، لعماه النسوي أثناء الثورة وبعدها. وقد اتفقت الكثير من الكاتبات على أن العمى الطبقي عند بعض النسويات، يقود إلى خطأ في الاتجاه مثل الماركسية الميكانيكية، التي لا تنظر إلى النسوية بعين الاعتبار.
وانتبهت النساء الفلسطينيات أواخر السبعينيات، في فلسطين المحتلة، إلى ضرورة تأطير أنفسهن كنساء، لطرح قضاياهن، بشكل مختلف عن الجمعيات والروابط النسائية، وبشكل مختلف عن الرجال؛ فتأسست الأطر النسوية كأجنحة نسائية للتنظيمات السياسية الكبيرة المنضمة تحت لواء "م.ت.ف". كان هدفهن الرئيس: هو تنظيم النساء السياسي، من خلال تعميق الصلة بجماهير النساء؛ الأمر الذي استقطب الكثيرات ضمن هذه الأطر، ومهَّد لمشاركة واسعة من المرأة، فترة الانتفاضة الأولى، التي انطلقت أواخر الثمانينيات في 9 كانون الأول سنة 1987.
وإذا كانت الانتفاضة الأولى، قد مثَّلت مرحلة متميزة في سجل نضال المرأة الفلسطينية، فهل صاحب تميّز المرأة على الصعيد السياسي، تميّز يذكر على الصعيد الاجتماعي؟
تؤكّد العديد من الدراسات، التي اعتمدت رصد أحداث الانتفاضة، وتأثيراتها على المجتمع الفلسطيني، حدوث تغييرات اجتماعية يجدر تتبعها، منها: ازدياد ثقة المرأة بنفسها ونشاطها، واتساع المساحة التي تتحرك ضمنها، واحتلال مكان متميز في الإعلام، بعد ترسيخ وجودها وفعاليتها، وإدخال تقسيم جديد للعمل بين الجنسين، كما أضيفت مهمات جديدة للنساء، واختفاء كثير من التقاليد الاجتماعية المعتادة، ورفع شعار: "الأرض قبل العرض" عملياً، حيث تمَّ تسييس موضوع الشرف.
وإذا حاولنا تقييم تلك التغيرات، ومدى ديمومتها؛ لاحظنا أن معظم هذه التغيرات قد تراجع بانتهاء الظاهرة السياسية المحددة؛ ما يؤكد موسمية التغيير.
وهنا تبرز أسئلة ضرورية أخرى: هل كانت التغيرات نتيجة تغير اجتماعي؟ أم نتيجة عوامل سياسية؟ وإذا كانت التغيرات الاجتماعية تمارس بشكل مختلف، حسب الطبقة، والجيل، والوعي السياسي؛ فهل امتد الوعي النسوي ليشمل الريف، بالإضافة إلى المدينة، والمرأة العادية بالإضافة إلى المرأة الطليعية؟
وإذا كان من الطّبيعي حدوث بعض التغيرات الاجتماعية، المتسقة مع الوعي السياسي، ومع الجيل، والمتناسبة مع الطبقة؛ إلا أن معظم التغيرات الاجتماعية الأكبر، استدعتها وحمتها اللحظة السياسية المحددة؛ الأمر الذي يستدعي عملاً أوسع، لإشراك فئات متنوعة من النساء، في عملية التغيير، لضمان عمق التغيير وديمومته.
وفي أواخر الثمانينيات، ونتيجة تراكم وعي نسوي، وتبلوره؛ تأسست مراكز لدراسات المرأة، ومؤسسات نسوية، فضَّلت الاعتماد في تمويل مشروعاتها على التمويل الخارجي، بغية الاستقلال عن التمويل الحزبي، الذي سيؤدي إلى السيطرة على المراكز. حاولت هذه الأشكال الجديدة، الخروج من عباءة الأحزاب السياسية، والعمل النسائي التقليدي، من خلال تقديم خدمات لتمكين المرأة، والنهوض بالوعي، وتقديم نشاطات تدريبية، ودراسات بحثيّة؛ لإحداث تغيير في وضع المرأة، وتنظيم النساء، وتدعيم دورهن في العمل السياسي، وصنع القرار، وقيادة شرائح متنوعة من النساء؛ لإحداث تغيير مجتمعي.
هل طرحت هذه المراكز والمؤسسات، برامج ترسي نهجاً جديداً متميزاً، في العمل النسوي، وتسدّ النقص الذي طالما صاحب هذا العمل، من تغليب العمل السياسي، وتأجيل القضايا الاجتماعية، وفي ربط هياكل العمل النسوي بالهياكل السياسية؟ وإلى أي حد نجحت هذه الأشكال في تحقيق أهدافها؟ وهل استبدلت الحركة النسوية أولوية بأخرى في العمل النسوي؟ وهل أثَّرت أولوياتها إيجاباً أم سلباً، على حجم العمل النسوي وجماهيريته؟
أعتقد أن التركيز في البرامج والأنشطة على قضايا المرأة الاجتماعية، أدى إلى تراجع في التركيز على القضايا الوطنية، لمسه معظم نشطاء العمل الجماهيري؛ لكني أعتقد أن ضعف التركيز على القضايا الوطنية لدى النساء، مردّه إلى تراجع أشكال العمل الجماهيري ككل، ما أدى إلى انفضاض كثير من كوادر العمل الوطني، وفي القلب منها: النساء. هذا التراجع الذي تجسد بشكل واضح في "انتفاضة الأقصى".
وأتفق مع الرأي الذي يرى في استبدال المتطوعين بالموظفين، انعكاساً مدمراً على الامتداد الجماهيري لبعض اللجان النسائية. وأضيف عاملاً آخر يفسّر ذلك الانفضاض عن التنظيمات النسائية: تلك الهوة الواسعة التي لمستها الجماهير النسوية بين الشعارات والبرامج، التي طرحتها الحركة النسوية الجديدة، وبين ما جسَّدته على أرض الواقع من ممارسات. تلك الممارسات التي أعادت إنتاج السلطوية، والفئوية، والفردية، بأشكال برَّاقة جديدة؛الأمر الذي أفقدها المصداقية لدى جماهير النساء.

*** ***
واليوم، وبعد أن تعالت الانتقادات من داخل الحركة النسوية حول أولوياتها: هل تعود إلى السير على قدم واحدة مرة أخرى؟ هل تعود إلى السياسي الذي أهملته اليوم لتهمل الاجتماعي الذي أهملته بالأمس؟ إنها اللحظة المناسبة، لوقفة نقدية جريئة، أمام مراجعة الشعار والبرنامج المرتبطين بالممارسة، والتفاعل الخلاَّق ما بين السّياسي [دحر الاحتلال وإنجاز مهمة التحرر الوطني] والاجتماعي [النضال الطبقي والنوع الاجتماعي].

* كاتبة وباحثة فلسطينية من مدينة نابلس