كم بدت السماء قريبة منكن يا نسوة العراق ! المرأة : الاغتراب والتحديات والمستقبل



سيار الجميل
2003 / 10 / 21

د. سيّار الجميل
مؤرخ عراقي / تورنتو - كندا
مقدمة :
  هل تسمح لي المبدعة العراقية بتول الخضيري استعارة عنوان روايتها " كم بدت السماء قريبة " لتوظيفه اليوم عن المرأة العراقية ومواجهتها للتحديات القسرية التي اشبعتها  بالقساوة والضنك وكللت حياتها بالالام والاحزان المريرة خصوصا عندما نعلم بأن نسوة العراق كانت لهن مشاركاتهن الحقيقية في بناء اقوى الاجيال . ولا يمكننا ان نحصي الادوار الفاعلة والنشيطة والمبدعة التي انجزتها المرأة العراقية في الحياة ، اذ تبدو في قسمات جغرافية عراقية معينة اكثر قدرة على الانتاج والارتباط بالارض والتنظيم من الرجل .. انها ذات حركة وفاعلية ساخنة منذ مرحلة مبكرة من الطفولة عندما تعتني بنفسها وبذاتها وعزة نفسها والاعتناء بسيرتها والحفاظ على كبريائها وسمعتها والاعتزاز ببيئتها ومواريثها .. وتكبر ومعها يكبر حلمها  ببناء فضاء من الامنيات الجميلة بارتباطها مع مكانها ارتباطا عضويا فعراقيتها مرجعية لها في كل اختياراتها كاملة ، وانها اعمق من ان تكون امرأة عادية قبل ان تحطمها التحديات التي صادفتها في الثلاثين سنة الاخيرة  ولقد زحفت عليها شتى صنوف المعاناة بدءا بالحضرية ومرورا بالريفية وانتهاء بالبدوية  لقد تحملّت النسوة العراقيات ما لم تتحمله اي نسوة اخريات في هذا العالم الفسيح .
من خطوات التقدم الى تراجع الخطوات
    لقد وجدت المرأة العراقية نفسها مندفعة لتحقيق عدة ادوار منذ بعيد الحرب العالمية الثانية ، واسهمت جملة عوامل في تقدمها وصياغة تفكيرها المدني ومنح الفرص لابداعاتها ، فتبلورت شخصية حقيقية لها بعد ان كانت مختفية وراء حجب البوشيه والعباءات السوداء دعا الى سفورها المستنيرون الاوائل وفي مقدمتهم جميل صدقي الزهاوي . لقد بدت المرأة العراقية عند منتصف القرن العشرين براغماتية وتحمل حداثة في التوجهات ، وخصوصا عندما تخرجّت دفعات عدة في كليات الملكة عاليه والحقوق والطب ودار المعلمين العالي ببغداد وبدأت تشارك في الصحافة والكتابة او في اروقة المحاكم او في ردهات المستشفيات او في الصفوف والجامعة .. في حين بقيت غالبية النسوة العراقيات في الريف يعملن في تربية المواشي والزراعة المحلية والموسمية المنتجة للقوت اليومي .. وهي تجّرب تقاليدها القديمة في المدن وتنزع دوما الى التسامح مع الرجل الذي تعتبره كسوة سميكة لها ولاولادها حتى وهو يمارس ضدها ابشع انواع القسوة البرية وهي غير محمية بقوانين مدنية .. فالاعراف العشائرية والقبلية وحتى التقليدية هي التي كانت مسيطرة .. لقد عانت معه الفقر والجوع ومشكلة عدم التكافؤ الاجتماعي خصوصا عندما يجبرها اهلوها على زواجها ممن لا تريده او تطاردها عشائريا حتى تقتل ان تزوجت من دون موافقتهم ! ولعل ما صدر من قوانين تناصرها وحقوقها على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم في مطلع الستينيات قد قلل الفجوة بين الحقوق والتقاليد ، وبرغم ذلك ، فثمة سيطرة مازوشية من قبل الاب والاخوة على حقوقها من مواريث وهي عادات غير اسلامية تشترك فيها بقية الشعوب العربية المتخلفة ! فالمرأة  هي الوحيدة التي تدفع الثمن الباهض لحريتها الشخصية وهي الوحيدة التي تغمط حقوقها الشرعية علانية عن قصد وسبق اصرار . ولعل بعض التقاليد والقيم والعواطف تجبرها على قبول تلك الاوضاع المهينة وحتى الاعجاب بها مع الاسف !
اربعون سنة من القهر الجماعي
     لقد عاشت المرأة العراقية لأربعين سنة وخصوصا للفترة 1963 – 2003  في خضم مشكلات اجتماعية وسياسية لا حصر لها ابدا ، وازدادت في الثلاثين سنة الاخيرة عندما طالت الحروب بتداعياتها السمجة وآثارها الاجرامية حياتها وتفكيرها وعواطفها واساليب استقرارها . وزادت من ضغوطاتها عليها وعلى اوضاعها الاسرية والاجتماعية ، ولم تسلم من الحفاظ حتى على حليها عندما امتدت يد الطاغية الى اشيائها ومقتنياتها الجميلة لتسرقها منها بالقوة تحت ذرائع واهية بعد سرقت منها اعز ما تملكه من فلذات كبدها طعاما للحروب والاعدامات والاسر والنفي والتشرد. وتضررت ايضا في فقدانها للخدمات التي كانت لابد ان تنتشلها من حياتها المنكودة والادران الصعبة وخصوصا في اعماق الارياف العراقية البعيدة سواء كانت في قلب الاهوار الجنوبية ام في فيافي البوادي الغربية ام في القرى الجبلية الشمالية ام في بساتين الشرق واصقاعه الواسعة .  
     لقد كان عهد البعثيين في العراق يوّلد باستمرار الصدمات الصاعقة للمرأة ، ولأول مرة تجد نفسها وجها لوجه معارضة سياسية تلاحق وتعتقل وتعّذب وتعدم مهما كانت تحمل من اتجاهات سياسية ، ولقد فاق العراق غيره في استخدام ابشع وسائل التعذيب الجسدي والمادي والروحي والنفسي ضد العراقيات سواء الراديكاليات الشيوعيات منهن او المسلمات الدعويات او غيرهن ! وبالرغم من وجود تنظيم نقابي عراقي اسمه : الاتحاد العام لنساء العراق ، الا انه كان ربيبا للسلطة ويربط مصالح النظام بالسيطرة على نصف المجتمع العراقي بالقوة والرهبة ويكفي ان رئيسة الاتحاد لها صلات حميمة مع رأس النظام الذي يتسلط على الاغلبية لتنفيذ كل رغباته الشريرة .. فجرى تدمير ذاتي لكل الاعتبارات النقابية التي انهارت جميعها منذ وقت طويل في كل القطاعات المهنية .
    لقد ضيّق البعثيون بسياساتهم في قذف اللهب وتحريكه باتجاهات مختلفة وترهيب الناس على قتل روح التحرر الخلاق ووأد جذوة الابداع وتشويه المثل العليا والقيم والاخلاقيات وخصوصا في شرائح مجتمعات المدن الحضرية القديمة . لقد بدا الخوف والرعب يسيطران كاملا على المرأة ويكبت مشاعرها وينحر تفكيرها .. وهي تسمع ما حّل بعراقيات في الزنزانات المخيفة او ما تعرّضت له نسوة حرائر سواء من الابكار او الثيبات من الاعتداءات القاسية والمنكرة التي طالت استخدام اعراضهن امام محارمهن بكل بشاعة من اجل سحب اعترافات لا اساس لها من الصحة او الحقيقة !
المهمشات المحطمات : مستودع الاسرار والاحزان
    لم تكن النسوة العراقيات مجرد توابع هشة ومهمشة لرجال كانوا قد كسرت انفتهم وسحقت نفسيتهم ولم يكن لهم من مستودع لاسرارهم المؤلمة الا المرأة سواء كانت زوجة او حبيبة او رضيعة .. وهي تشاركه ذلك الثقل التاريخي المريع من المعاناة في مواجهة التحديات الصعبة .. دعونا نفكّر قليلا معا في الملايين من نسوة العراق اللواتي كانت الالام تعصرهن ايام الحرب ضد ايران ؟ وهل من يفكّر قليلا في اعداد الارامل والثكالى وشظف الحياة يسحقهن سحقا ! دعونا نفكّر في نسوة يغلفهن السواد وقد اصبح السواد جزءا من سايكلوجيتهن المعبرة عن ذاتهن المقهورة  حتى لتجدها امرأة مقطعة الانفاس ومحبوسة الدموع ! لنفكر قليلا ايها الاحبة في الالاف المؤلفة من نسوة عراقيات فقدن فلذات اكبادهن  اطفالا وشبابا يموتون ويتساقطون يقتلون ويتشردون يفقدون ويعدمون ..  ! ماذا نقول لنسوة لم يعدن يميزن ابدا بين المتوازيات والتراصفات ولا بين التواشجات والافتراقات .. ماذا تقولون لالاف مؤلفة من نسوة تركن بيوتهن وجنانهن ليتيهوا في بلدان هذا العالم الموحش .. من دون ان يستسلمن للعواصف الهوجاء ؟ هل شاهدتم نسوة عراقيات وهن ميتات تطوف اجسادهن على مياه الباسيفيك ؟ هل قال العالم كلمة منصفة واحدة بحق تلك الالاف من النساء والاطفال الذين اختنقوا بالغازات الكيمياوية في كردستان ؟ او تلك الشابات والعجائز اللواتي افرتشن عباءاتهن السوداء ارصفة الشوارع في الاردن ؟؟ ام تلكم الكتل البشرية التي هجرّوها وراء الحدود في الشمال والجنوب ؟؟
    صحيح ان نسوة بعثيات قد اتخذن لهن مواقعهن في السلطة والمؤسسات والجامعات لكنهن بقين مهمشات ولا تأثير فعال لهن مع ضحالة تفكيرهن وارتهان ارادتهم للحزب وللسلطات .. واستخدامهن في شتى الوسائل سواء مخابراتية ام تسلحية والاسماء معروفة للجميع .. اما البقايا من نساء العراق اللواتي روجن للنظام فقد اتخذن من السيدة العراقية الاولى سابقا مثلا صارخا للتفاهة في الغرور وتلطيخ دمامة الوجه بالمساحيق الملونة المضحكة !
المرأة العراقية اقوى من كل التحديات
    ان المرأة العراقية كانت وستبقى اقوى من كل التحديات التي مرت بها كونها جابهت اقسى الحروب المأساوية بشجاعة نادرة .. وثمة قناعة راسخة عندي أن المجتمع العراقي بكل تنوعاته معين لا ينضب من ولادة نسوة مبدعات في كل المجالات .. مبدعات يلاحقن مبدأ التغيير لتفعيله في الحياة خصوصا اذا ما تمتعن بكل الحريات السياسية والثقافية والشخصية .. مبدعات يعرفن كيف ينتجن اللحظات الثمينة والفرص المتاحة من دون اي غطاء او تعقيدات او مكبوتات ! مبدعات يعرفن بأن ثمة رموز نسوية عراقية ستكون امثلة لهن في التكوين والبراعة وخلق الجماليات والمخلوقات السحرية والادبية والنماذج التشكيلية العظيمة . ان مبدعاتنا يمتلكن عيونا مفتوحة وآذانا صاغية وخيالا جامحا وعواطف مشبوبة وانفعالات ساخنة .. وان قدراتهن على خلق النماذج في فضاءات المجتمع المتنوع من تربية وصحة وتعليم وشعر ورسم وقصة ومقالة وعمارة ورواية وقانون وتشكيل وموسيقى واعلام .. تجعلنا نشعر بالسعادة والفخر ولكن يحزنني جدا ان اجد عراقيات لا يعرفن اساليب المنازلات الفكرية ولا صياغات الجدل في الثقافة السياسية .. وكنت اتمنى ان يضم مجلس الحكم الانتقالي الحالي في العراق نسوة بارعات مع احترامي للنسوة فيه ، ولكن هناك عدة نسوة عراقيات لهن قدرات وامكانات كما ان العراق يزخر بنسوة لهن مكانتهن الممتازة على صعيد المجتمع الدولي !
المرأة العراقية والمستقبل
    واخيرا ، اتمنى عليها ان تستعد اليوم لمجابهة تحديات في كيفية نيل حقوقها كاملة والتمتع بحرياتها المشروعة .. وان تسعى بكل فعالياتها لتأسيس المجتمع المدني بعيدا عن الممارسات المخجلة لاناس بدائيين ومتخلفين ومكبوتين ووجوب ان يعاملها الرجل ككائن له شخصيته وقوته لا كسلعة او بضاعة من المفاتن ! وعليها واجب ان تخلق من الوحوش المفترسة بشرا سويا بوسائل تربوية وعلمية واخلاقية..  وان تسعى لتحقيق ذاتها والدفاع عن قضاياها وتخوض دراما سياسية اجتماعية لممارسة ضغوطات حقيقية من اجل التغيير ، وان لا تقبل بقوانين وتعليمات مجحفة طالت حقوقها المشروعة .. فضلا عن خلاصها من جملة التناقضات الاجتماعية التي ادخلت المجتمع في نفق من الانعزال .. عليها التخلص من احادية التفكير وان تنفتح سياسيا على كل النوافذ وان تؤسس التجمعات والهيئات والمنتديات وتحقق امنياتها الخصبة لتمتد في كل الفضاءات المتسعة . وعلى دستور الدولة الجديدة ان يقر عنايته بالمرأة ويجيز القوانين والتشريعات الخاصة بها وبادوارها وبتنمية قدراتها ومعالجة اوضاعها وتطوير مواهبها من اجل الاجيال القادمة .