محمد علي الباني رائد تحرر المرأة العربية



وديع العبيدي
2007 / 10 / 19


عوامل النجاح والمعارضة
لا يمكن أن يغفل الدور الاشعاعي لمصر في مختلف مجالات الحياة والمعرفة، كمقدمة لدراسة المجتمع العربي المعاصر وتطوره الاجتماعي والثقافي. مع التأكيد على أهمية العامل الزمني المحدد بـ(العصر والحداثة)، في توصيف الدور المصري السياسي والثقافي والنسوي. فعلى الرغم مما تذهب إليه بعض الطروحات على (فرادة) المرأة المصرية عبر التأريخ، والخاضعة أو المنطلقة من منظور أيديولجي ثقافي أو سياسي غير منفصل عن مفهوم (المركزية العروبية) في إطارها العام، أو (العصبية القومية) في تفاصيلها الداخلية، والتي تبقى أسيرة الاجتهادات والتأويل المفتوح، فأن الثمار الحقيقية لتينك الريادة لا يمكن تلمسها أو الاشارة إليها (عربيا) قبل دولة محمد علي الألباني [1805- 1848م] في رؤيته المبكرة والمتقدمة لقضية [الحداثة والتحديث]، التي ما زال البتّ فيها والانتهاء من خياراتها بعيداً غير منظور. يعتبر محمد علي الألباني هو أول من تنبّه إلى مسألة تحسين حياة المرأة وتغيير وضعها الاجتماعي، ليس على صعيد الفكر والاجتهاد، وانما تحويل الفكر إلى فعل ومؤسسات تنفيذية. فقد كانت نزعته التحديثية وايمانه بالنهضة الأوربية [Renaisance] وراء عنايته بالبعثات التعليمية في ديار الغرب. ومنح المبعوثين فرصة تقديم أفكارهم الجديدة وتوفير الامكانيات اللازمة لترجمتها على أرض الواقع. فـ[ بعد عودة الطهطاوي [1801- 1873] من باريس (الذي) كتب موصياً بتعليم البنات إسوة بالأولاد. ونشر(ه) كتاباً يؤكد فيه أن تعليم المرأة (المصرية) هو أحد الشروط التي تمكن البلاد من الالتحاق بالأمم المتحضرة. (..) أعجب الخديوي بكتاب وآراء الطهطاوي]/ص195. ان معنى (الاعجاب) هنا ليس الاكتشاف والانبهار بشيء جديد. فلم تكن الحياة الغربية وآفاقها خافية عليه، بدليل اتباعه نظام البعثات لاكتساب الأفكار الجديدة وتخصيبها في البيئة المحلية. قد يقال أن نظام البعثات كان متبعاً في (الأستانة) من قبل وليس من بنات أفكار محمد علي. لكن المهم هنا ليس (النظام) بذاته، وانما مغزاه ونتائجه. ان الهدف العثماني كان مقتصراً على تأمين الأجهزة الادارية والتنفيذية لمؤسسة الحكم وليس (الاصلاح) (الاجتماعي). وإذا كان الفساد الإداري صفة للدولة العثمانية فا(لفترة المظلمة) صفة للحياة الاجتماعية والثقافية في أيامها. ورغم قلة أعداد المدارس (الرشدية) فأن غرض الدراسة فيها كان (اعداد) موظفين للحكومة والجيش. وساعد إطباق أجواء الجهل والتجهيل الثقافي على اختفاء أية دعوات اصلاحية أو أفكار اجتماعية قبل ظهور محمد علي. ولذا يمكن توصيف سياسة محمد علي بأنها اعتمدت (1) الاستفادة من الأفكار وطرز الحياة الغربية عن طريق ارسال أبناء البلاد للخارج. (2) المضمون الاجتماعي لسياسة البعثات واستهداف الاصلاح الاجتماعي. (3) العمل على توفير الامكانات والظروف لتطبيق الافكار الجديدة ووضعها في متناول المجتمع وحياته اليومية. (4) ان ارسال البعثات للخارج (بدل) استقدام (أجانب) لقيادة وإدارة عملية التحديث وتدريب أبناء الأهلين عليها، يتضمن عنصراً ضمنياً من العمدية وسبق الاصرار على اختطاط طريق خاص (مختلط) لا يتم فيه أخذ عموم التجربة (الجديدة/ الغربية) على علاتها بدون تمحيص.
أن الطهطاوي ومحمد عبده والأفغاني وقاسم أمين وطه حسين، ظهروا جميعاً من خلال التيار الديني المحافظ، ليتبوأوا صدارة التحديث والنخبة المثقفة. وبالتالي، فأن تداولهم للتحديث، كان نابعاً من دراسة [النموذجين] وليس عن انحياز أعمى لأحدهما وجهل بالآخر. وقد انعكس في طابع (الحكمة) و (العقلانية) في التطبيق، وعنصر المحاججة (النص بالنص) والاقناع بين المتحاورين.
من هذا المنظور يكون معنى (الاعجاب) هو التشجيع والمباركة التي ستنعكس ضمنياً على الأفق الرسمي وحركة الرأي العام. أن إشكالية التجديد أو الاصلاح ليست في ذاتها، وانما في ضراوة العوامل التقليدية الواقفة في طريقها وصعوبة زعزعتها. وهي المشكلة التي تبدو على اشدّها اليوم على أعتاب الألفية الثالثة. لقد قام النبي ابراهيم بتحطيم التماثيل في المعبد للتعبير عن فكرة (التوحيد)، وكانت النتيجة ازدياد معارضته واضطهاده ونفيه من البلاد. لكن محمد علي الألباني اتبع ما يسمى بعلم نفس الأعلام [ Medienpsychologie] والتوجيه عن بعد [Remote Control] للتأثير في الرأي العام الشعبي أو الجمهور. يترتب على هذا (الاعجاب) عدة نتائج جوهرية حاسمة في سياسة التحديث.
- الاعلان والاشهار. فالنتيجة الأولية المترتبة على كل ما يقوله أو يفعله (الحاكم) هو انتشار الخبر وايصاله إلى أبعد مجال ممكن.
- منحه طابعاً تاريخياً وأهمية سياسية لأن شخص (الحاكم) أو المسؤول هو الذي ينشغل به.
- (الاعجاب) هو التعبير الايجابي (الموجب) عن الشيء، يترتب عليه أن ردّ الفعل الشعبي يكون موجب [positive reaction].
- صفة (الزام ضمني). لا ينبغي هنا التقليل من أثر التيارات السائدة في المجتمع والتي تمثل دور الوصاية على تقاليد الآباء والأجداد، وتتميز هذه التيارات بعدم الاقتناع أو القبول بأية فكرة تزحزح (قناعاتها) المقدّسة. وعلى صاحب الفكرة الجديدة التحرز والتحسب لها ولردود أفعالها. ولكن ردود الأفعال - هذه-، تختلف حسب هوية [المقابل] وصفته. وعندما يكون (المجدد) شخصا عاديا بدون صفة أو مرجعية مهيبة، فأن مصيره مجهول (!). وتاريخ البشرية حافل بشتى صنوف الاضطهاد والتصفية الوحشية. ولكن عندما يكون ذا صفة سلطوية سياسية، أو في قمة دولة مهيبة، سيكون هؤلاء من رعيته، وعليهم واجب (طاعته) و(عدم الخروج عليه). وإذ لا يقبلون أمره برحابة صدر، فأنهم يقبلونه – على مضض-. أو أن رفضهم سيكون صامتاً أو خافتاً أو ضمنياً. وسوف يساعد هذا على إضعاف نفوذهم في أوساط العامة المندفعين لتأييد التحديث. ومن جهة أخرى، فأن أية ردود أفعال محتملة (تبقى) تتخذ صفة (سلمية) وقانونية.
- ان التمهيد الاعلامي/ السياسي لقرار التحديث، يساعد على ضمان الخطوات التنفيذية اللاحقة، وتوفير دعامات الدعم والانخراط الشعبي. وفي هذا الخصوص، لن ينخرط الجميع في تغذية مؤسسات التحديث فحسب، وانما لن يستطيع (المحافظون) الوقوف بوجه المنخرطين على صعيد المجتمع أو عوائلهم الخاصة.
- تخفيف حدة الرفض من الكلّ إلى الجزء، ومن المبدأ إلى الطريقة والمساحة. وكان من الثمار اليانعة لهذا، انتشار تعليم الإناث، سواء في مدارس عامة أو خاصة، مختلطة أو منعزلة. في صفوف المجتمع أو صفوف المحافظين. وظهور نشاطات ومؤسسات نسوية مختلفة، بما فيها جمعيات نسوية تدعو للمحافظة. ان جدارة هذه النقطة، ان الرفض (الجزئي) سمح للفتاة باقتسام مسرح الحياة مع الفتى في الدراسة والعمل والمشاركة الاجتماعية والسياسية، مع اعتماد (تحفظات) وشروط محدودة. ولم يعزلها عن حركة المجتمع ويضرب عليها في قيعان المنزل أداة للخدمة والانجاب والمتعة.
*
إشكالية الخطاب النسوي
من وجوه الإشكالية في موضوعة المرأة بكافة مستوياتها ومجالاتها، أنها لا علاقة لها بالمرأة في الأساس. ومن المؤلم القول، أن المرأة (سيدة البشر) (الانسان النبيل المبدع والخلاق)، (منبع الحنان والطيبة والعناية)، (جوهر الحبّ والجمال)، كانت (وسيلة) في ظل الفكر الرجولي البابوي الذكوري – باختلاف مسمياته- ومجالاته، وبقيت (وسيلة) في ظل الفكر الحداثوي الاصلاحي والثوري الاجتماعي. القيمة الحقيقية هنا، أنه إذا كان النظر إلى موضوعة (المرأة) في إطار فكري شمولي واسع وعدم الفصم بينها وبين القضية الاجتماعية والسياسية، أمراً تشكر عليه حركات الاصلاح والتنوير؛ فأنها بالمقابل، زادت من أعباء (المرأة) وتشابكات قضيتها ومحنتها في السجال الاجتماعي والسياسي. أن قضية تحديث المجتمع، القضية السياسية، القضايا الاقتصادية، معضلات، ما زالت، عسرة الهضم والبلع في الجسد العربي ، فكيف نتوخى النجاح لقضية (تحرير) المرأة إزاء كل ذلك. ففشل، أو نكوص حركة المرأة العربية بعد أكثر من قرن من الحركة والمراوحة، ليس فشلاً ذاتياً، في جوهر القضية، قدر ما هو فشل الاسلوب والنظرية، المرتبط بفشل مشروع التحديث العربي. ان التفكيك والتبسيط، عنصر فاعل في التجارب العلمية والمختبرية للتوصل إلى نتائج دقيقة، وضرورية كذلك في العملية الاجتماعية لضمان نتائج خالصة. بينما العجز وتجهيز مبرراته، وراء خلط الأوراق وإشاعة الفوضى، للادعاء، أن الوقت لم يحن، بعد، لحسم هذه الاشكالية. غريب حقاً، أن يكون الغرب، رائد حركات التنوير والبحث والتحديث، على صعيد الفكر والسياسة والمجتمع، ولا يجري الانتباه ، إلى أن قضية المرأة في أورباً لم تخلط أوراقها بأية أوراق إشكالية ثانية. المرأة الأوربية حتى اليوم، برغم تألقاتها ومنجزاتها، لم تكن رمزاً للوطن أو حتى الجمال في الأدب الأوربي. الوطن هو الوطن، والثورة هي الثورة، والمرأة هي المرأة. والجنس هو الجنس، والحب هو الحب. في الثقافة العربية والأدب والفكر تختلط كل هذه الأوراق. وتنتج عقلية العجز صورة مجازية استعارية تفرض على المرأة أن تكون كلّ ما يحلم به ويعجز عنه. كل شيء بعيد عن المنال حدّ الاستحالة، يجد (تعويضه) الاستعاري في المرأة بكل تجلياتها واستحالاتها المصطرعة في عجينة واقع ملتبس. قضية المرأة الأوربية كانت (نظيفة) صافية ونقية، واجهت إشكالية محددة بالمنظور الديني ولم تحسم حتى الآن بشكل كلي، لإشكالية الرؤية المسيحية للموضوع مقابل الانفتاح والاعتبار الذي تحظى به في اليهودية والاسلام والديانات الأخرى. هذا يزيد غرابة ما يحصل على أرض الواقع، في ضوء النتائج المعكوسة.
*
هذا الاستطراد الجانبي، كان ضرورياً، للتنبيه إلى إشكالية قضية المرأة في عهد الخديوية. كون الموقف أو المواقف المترتبة عليها، تأثرت بعوامل مختلفة ضمن المشهد العام لا يمسّ بالضرورة عنصر النسوية [feminism] ، ومن تلك العوامل..
1- الموقف من تبعية محمد علي غير المصرية. ان المصريين أحد المجتمعات العريقة المعروفة بخصوصيات عميقة وراسخة في البنية والوجدان الاجتماعي. ويختلفون في ذلك عن المجتمعات العربية الأخرى قاطبة. ذلك هو علاقة المصري بأرضه وشعبه وتاريخه، كثوابت غير قابلة للقسمة والطرح في أي معادلة أو جدول ضرب. فعلى الرغم من عمل الظواهر والموجات الوافدة إلى مصر على التحول والذوبان في الخصوصية المحلية، منذ أيام الاغريق والهكسوس وصولاً إلى الخديوية. إلا أن درجة الرفض تبقى قريبة من سطح البشرة، وقابلة للاستثارة باستمرار الوخز. وذلك ما نجحت حركات سياسية معينة في توظيفه لصالح رفض إصلاحات الخديوية التي لم تضاهها أية حركة إصلاحات وبناء دولة عصرية قبل قرنين من الزمان.
2- حساسية الهوية غير المصرية لعائلة محمد علي الألباني، اتحدت مع تداخل تيارات النفوذ الغربي [انجلترا- فرنسا- أمريكا- ألمانيا]، لتنقذف نحو الخارج في صورة رفض عام لكل أجنبي، وفي هذه المعادلة، يتساوى الباني المصلح مع الغازي المعتدي. ويأخذ الرفض صورة رفض سياساتها واجراءاتها، وكانت حلقة امرأة بينها أضعف الحلقات المستهدفة. ان حركة معارضة تحديث أوضاع المرأة المصرية لم تكن في بداياتها بتلك السعة التي وصلت إليها بعد أن بلغت تلك السياسة خطوات متقدمة، وحققت نقلة حقيقية نوعية في حركة المجتمع.
3- ان حركة المعارضة النسبية في مسألة المرأة انحصرت في مجال التيار (الديني) المحافظ واستغرقت في سجالات حول الاختلاف في تفسير وتأويل النص. وهي الإشكالية أو المعضلة المتوارثة غير القابلة للحسم. بيد أن هذه المعارضة حصلت على عنصر تغذية جانبي منعش مع انتقال الحركة السياسية إلى مستوى جديد.
4- في 1906 تم إجازة كذا حزب مصري، وكانت هذه الاحزاب، شأن كل حركة سياسية تتبارى لتأكيد (وطنيتها) ومصداقيتها النضالية، برفع شعارات المعارضة أو المقاومة أو شعارات الاصلاح وتحرير المرأة. وإزاء جدّة فكرة الاصلاح الاجتماعي والنسوي يومذاك قياسا للمجتعات العربية والشرقية، فقد ضاعت موضوعة المرأة بين عجلات المباريات السياسية والحزبية.
5- شكّل ظهور النفوذ الغربي بتنوع أطيافه اللونية دوراً سلبياً على موضوعة المرأة. أولاً بإدخال نموذج غربي جديد على المجتمع المصري، يختلف عن النموذج المصري الخديوي أو النموذج المصري المحافظ ، ورفع هذا من وتيرة الرفض. ليس برفض النموذج الأميركي أو الغربي في مسألة المرأة وانما رفض الموضوع بأسره.
6- ظهور النفوذ الغربي زوّد الحزبية المصرية بعنصر تغذية معارضة أو موالية، وفي الحالتين كانت موضوعة المرأة (الطعم) والضحية السهلة لمباريات الجانبين.
7- ان درجة معارضة التيار الديني للاصلاحات كان محدوداً في البداية. لكن هذا التيار حصل على دعم حقيقي بدخول النفوذ الغربي، فكان ازدياد نفوذ التيار الديني طرديا مع ازدياد النفوذ الغربي في السياسة المحلية. وبعد تراجع نسبي خلال عهد عبد الناصر [1952- 1970] عاد هذا التيار النفوذ للتعاظم واستفحل بعد سقوط المعسكر الاشتراكي واستفراد الامبريالية الأمريكية بقيادة العالم، فكانت المرأة العربية والشرقية، أكبر ضحايا العولمة التي زادت من وطأة القيود الاجتماعية المحاصرة لكيانها ووتيرة معاناتها. وبينما يزداد العالم انفتاحا وتقاربا، تزداد المرأة العربية عزلة خلف عزلة خلف ثيابها وجداول ممنوعاتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- د. فاطمة با بكر محمود – المرأة الأفريقية بين الإرث والحداثة / كمبردج للنشر/ لندن- 2002