دور المرأة العراقية في أواخر العهد العثماني



وعد العسكري
2007 / 11 / 9

تمثل دور المرأة العراقية في أواخر العهد العثماني بداية بشخصية الفتاة البغدادية من القرن السابع عشر الميلادي ، والتي عاشت مغامرة إنسانية عجيبة مع زوجها الإيطالي ، حيث عثرنا على صورة مرسومة لها تعتبر أقدم رسم حي لإنسان عراقي لحد الآن إسمها ( ماري تيريز أسمر)( ) ، استقرت في بغداد منذ قرون كما كانت تفتخر بأنها من سلالة عشتار ، في الوقت الذي كان أغلب رجال العراق يغطون في سبات عميق ويعانون من الحكم العثماني الجائر ، نجد هذه الفتاة تتحدى وتطالب بمدرسة للفتيات وتصف الجهد في تأسيسها والتعاون والتكاتف بين النساء في مجتمعها للتدريس مما يدل على وجود وعي ورغبة للتقدم ونشر المعرفة ، حيث تقول : " في قرية صغيرة التي يملك أكثرها والدي وجدت بقايا دير صحراوي غير بعيد عن مكان إقامتنا ، أخذت ما أحتاج إليه وكما بالسابق ، بدأت أقضي أوقاتي في الصلاة والتأمل وقسم من وقتي خصصته لكتابة وتأليف الكتب الدينية بعد مرور وقت على بقائي قررت أن أنشىء مؤسسة تعليمية للنساء واتفقت مع صديقتين لي واحدة من بلاد ما بين النهرين والأخرى من بلاد فارس ... إن عدم المساواة بين الجنسين يثير حفيظتي ، وجدت النساء المسيحيات يعاملن معاملة الرقيق والعبيد ، وعيهن لم ينبت أو يثمر وتركن للتجاهل ، وقد أستولى الجهل عليهن ، في حين إن الرجال يتمتعون بكل ما يتيح لهم فرص التعليم لذا صممت على أن أبذل كل ما في وسعي من قوة إلى تثقيف بنات جنسي ... واحدة من بنات عمي قررت أن تدرسهن اللغة الكردية والفارسية والكلدانية ، وكانت هناك سيدة أعرفها على قدر كبير من الثقافة والحصافة تطوعت معنا وكذلك عدد لا يستهان به من النساء جذبهن معهدنا الذي لم نهمل أي مادة تدريسية فيه وانظمت إلينا الكثير من النساء من الطبقات العليا وقدمنا هذه الخدمة بدون حساب للخلفيات الاجتماعية وقبلنا الفتيات الفقيرات أيضاً( ).
إن ما قامت به السيدة ماري تيريز أسمر يجعلها حقاً فخراً لبنات جنسها وسليلة عشتار وسمير أميس وما دورها هذا إلا شرفاً لنساء ورجال العراق في الوقت الذي لم يذكر لنا التاريخ في تلك الحقبة من الزمن دوراً ثقافياً بارزاً لا لرجل ولا لإمرأة .
إن التعصب الاجتماعي الذي كان سائداً في أغلب مدن العراق في أواخر العهد العثماني أنعكس بدوره على مكانة ونظرة المرأة في المجتمع وعد حجر عثرة في طريق نهضة المرأة العراقية .
فالمرأة في العراق كانت محاطة بتقاليد صارمة جداً ، وقد كان الناس في العهد العثماني يعتقدون بأن مجرد تعليم المرأة القراءة والكتابة يؤدي إلى فسادها وخروجها هن الطريق ، وذكر الدكتور علي الوردي إن الفقيه البغدادي المعروف وهو الشيخ نعمان بن أبي الثناء الآلوسي ألف كتاباً في عام 1897م عنوانه ( الإصابة في منع النساء من الكتابة) حيث يقول الوردي إن الكتاب لا يزال موجوداً في مكتبة الأوقاف ببغداد ، وقد جاء في هذا الكتاب قوله( ): " أما تعليم النساء القراءة والكتابة فأعوذ بالله منه ، إذ لا أرى شيئاً أضر منه بهنَّ ، فإنهنَّ لما كن مجبولات على اضرر ، كان حصولهن على هذه الملكة من أعظم وسائل الشر والفساد وأما الكتابة فأول ما تقدر المرأة على تأليف كلام بها فإنه يكون رسالة إلى زيد ، ورقعة إلى عمرو ، وبيتاً من الشعر إلى عزب ، وشيئاً آخر إلى رجل آخر ، فمثل النساء والكتب والكتابة كمثل شريه سفيه تهدي إليه سيفاً ، لو سكيراً تعطيه زجاجة خمر فاللبيب من الرجال هو من ترك زوجته في حالة من الجهل والعمى ، فهو أصلح لهنَّ وأنفع " ( ).
ويقول الدكتور علي الوردي إن هذا الرأي لم يكن رأياً شاذاً ، بل كان يمثل الاتجاه العام في العراق يومذاك وقد ظل هذا الاتجاه سائداً في بعض الأوساط العراقية حتى عهد متأخر ، وظل الناس يتصلبون تجاه مدارس البنات( ).
أدركت المرأة العراقية بأن التعليم بالنسبة لها هو الخطوة الأساسية والأولى لنهضتها وثورتها من أجل حقوقها من التسلط الذكوري الذي فرض عليها طوال سنين في نهاية القرن التاسع عشر عندما كان العراق تحت سيطرة الحكم العثماني ، وقد عظم شأن المعارف بسرعة بعد الدافع التقدمي العظيم الذي جاء به مدحت باشا () ، وقد أسست مدرسة ابتدائية للبنات في عام 1898م في بغداد( )، والتحقت بها (90) فتاة من فتيات بغداد( ).
وفي إشارة أخرى إلى التعصب الاجتماعي الذي كان سائداً في معظم مدن العراق ما ورد في كتاب البغداديون مجالسهم وأخبارهم حيث ذكر لنا مؤلف الكتاب " أراد الوالي العثماني عبد الوهاب باشا وبناءً على الطلب السلطاني الصادر من دار الخلافة الإسلامية في استنبول عام 1904م أن يسجل عدد النساء في العراق ومنح كل واحدة منهن تذكرة عثمانية ( دفتر نفوس) إسوة بالرجال ولما شاع الأمر بين أهالي بغداد قامت قيامتهم لما يحتفظون به من تقاليد موروثة وعادات عربية معروفة معتبرين هذا الأمر الذي أقدم عليه الوالي يمس شرفهم ويحط من قدرهم وكرامتهم فخرج الرجال من أهالي بغداد يتقدمهم السيد أحمد أفندي النقيب ومعه رؤساء المحلات ( وجهاء المناطق الشعبية) معلنين سخطهم واستيائهم ، واصطدموا مع الجندرمة قبل أن يقصدوا سراي الوالي الذي لم يخرجوا منه إلا بعد قرار الوالي تأجيل أمر التسجيل( ).
لقد كانت هذه الرواية واقعية عما كان عليه مجتمع بغداد آنذاك ، وعلينا أن نتصور جسامة الأمر لدعاة تحرير المرأة وكما سنورده لاحقاً .
عندما أعلن الدستور العثماني في تموز 1908م ، وأقيمت المهرجانات أحتفالاً بهذه المناسبة خيل للشاب الأستاذ في مدرسة الحقوق جميل صدقي الزهاوي() إن الفرصة مواتية ليطلق أفكاره التحررية فنشر في جريدة المؤيد المصرية وتحت اسم مستعار مقالته الشهرية حول ضرورة تحرير المرأة من عبوديتها داعياً المحاكم الشرعية إلى منحها حقوقها أسوة بالرجال مستشهداً بالآية القرآنية الكريمة  ولهن مثل الذي عليهن  ()، وما أن وصلت هذه الجريدة إلى بغداد وأطلع عليها الأهالي حتى ماجت الأرض بأهلها ، وتعرض إلى ما تعرض إليه الشاعر الزهاوي من إعتداء وهجوم عنيف من قبل خصومه ما دفع بـ ( ناظم باشا) والي بغداد آنذاك إلى فصله من وظيفته تحت ضغط الجماعات المتشددة على الرغم من تراجع الزهاوي وإنكاره لتلك المقالة بعد إهدار دمه( ).
ونتعرف على شخصية نسوية عراقية أرمنية عرفت بصلابتها وشجاعتها ودخلت تاريخ العراق الحديث من أوسع أبوابه وهي السيدة ( سارة أوهانيس هوفهانيس) فتاة بغدادية إبنة أحد وجوه الأرمن ببغداد ، وقد أوتيت من جمال الوجه مالم تأته فتاة ، وقعت بسبب هذا الجمال بأحداث عصبية وأليمة ، بسبب وقوع الوالي العثماني ناظم باشا في حبها ورفضها لهذا الحب وتصديها له ، ولدت سارة في بغداد عام 1889م ، وفقدت والدتها صوفي ( 1856ـ 1895) وأختها الصغيرة زابيل ثم والدها قبل أن تبلغ سن الرشد ، وتبقى تحت رعاية عمتها صوفي ووصاية عمها ( سيروب) ، وكانت سارة قبل مولدها قد فقدت أخاها إسمه كيروب ، بعد خمسة أشهر من مولده ، ( ولد في 22 آب ـ أغسطس 1886 وتوفي قي 28 كانون الثاني ، يناير 1887) وحرص العم على التمسك بالوصية على سارة لإنتفاعه منها ، وقد خلف لها والدها ثروة طائلة جداً ، تتضمن أموالاً وبساتين وأراضي زراعية في بغداد والصويرة والحلة ومنطقة الشوملي ، فضلاً عن أراضي واسعة ضمن حدود أمانة بغداد قسمت وبيعت لتغدو فيما بعد منطقة سكنية تعرب بـ ( كمب سارة) وكان المنزل الفخم لأهل سارة يقع في شارع الرشيد ببغداد على ضفاف نهر دجلة . وكان والدها المحسن قد أوقف أحد بيوته الكبيرة إلى الطائفة الأرمنية بعد وفاة أبنته زابيل في عام ( 1897م) وهي في سن السادسة من العمر ، لتكون مدرسة سميت تخليداً لذكراها باسم ( المدرسة الزابيلية)().
بدأت قصة سارة مع الوالي العثماني ناظم باشا ، تلك القصة التي وصلت أخبارها إلى أسطنبول وربما إلى أوربا ، ذات ليلة من شهر آب أغسطس 1910م عندما أقام ناظم باشا ، متظاهراً بالتجديد ومدعياً تأثره بالمجتمع الفرنسي ، الذي عرفه أثناء إقامته في باريس فترة من الزمن ، أقام حفلة راقصة على ظهر باخرة نهرية من أجل إنشاء مستشفى الغرباء ببغداد ، وكانت الحفلة مختلطة حضرها القناصل وزوجاتهم وأفراد الجاليات الأجنبية وبعض العائلات المسيحية ، وقدزينت الباخرة بالأنوار والأعلام وصدحت فيها الموسيقى ، وكانت بغداد تشهد لأول مرة حفلة من هذا النوع ، وقد حضرتها سارة مع أفراد عائلتها وهي تلبس الإزارؤ والخمار ( البوشي) على الطريقة التي كانت مألوفة يومذاك ولم يكد الوالي يشاهدها حتى شغف بها حباً على الرغم من الفرق الكبير بين عمريهما ، إذ كانت سارة في السابعة عشرة من عمرها بينما هو كان في الخمسين( ).
وحسبما ورد في الكتب والمصادر إن ( سارة خاتون) الفتاة الأرمنية الغنية عانت أشد أنواع العذاب النفسي والاضطهاد من قبل الوالي العثماني آنذاك عندما رفضت الزواج منه ، حيث أعتبر الوالي رفض الصبية والزواج منه مهانة كبيرة لشخص الوالي الذي تهابه الناس وتطيع أوامره ، وبقي يطاردها ويضايقها فترة من الزمن مفتعلاً تارة ومقترباً تارة أخرى وهنا دخلت السياسة بطرفها في هذا الحادث ، إذ كان في بغداد آنذاك أعضاء لكل من حزب الاتحاد والترقي وحزب الحرية والإئتلاف والذي كان ناظم باشا أحد أبرز أعضائه ، واستغل حزب الانحاد والترقي ذلك التذمر الشديد وسخط الشارع البغدادي على الوالي وتصرفاته واستنفروا شهامة أهل بغداد وحميتهم ونظموا الاحتجاجات للتنديد بناظم باشا وسياسته وتنظيم حملة ضده وضد حزب الحرية والإتلاف ، أثناء ذلك وصل إلى بغداد إسماعيل حقي بابات ، من أسرة البابان العراقية المعروفة ، في جولة انتخابية وصحفية باعتباره مراسل صحيفة ( طنين) المعروفة بولائها لحزب الاتحاد والترقي ، وتم إطلاع بابان على جلية الأمر لكي ينبري لفضح أعمال الوالي على صفحات صحيفته أو في مجلس المبعوثان إن هو فاز بعضويته . ونظم لقاء لسارة في مجلة ( الصابونجية) ببغداد ، والتقت سارة في دار سليم باشا بالسيد إسماعيل حقي بابان وأطلعته على كل ماجرى ، وقد وجدت فيه من الحماس والإندفاع ما زادها شجاعة وصلابة وعاد بابان إلى اسطنبول ليبسط موضوع سارة هناك ، وقام نواب العراق ( نائبا الموصل ونواب بغداد والديوانية وكربلاء وكركوك) في مجلس المبعوثان العثماني بتقديم تقرير عما جرى في هذا الموضوع في 12 كانون الثاني ـ يناير و 6 شباط ـ فبراير 1911 . وقد أنتقد طلعت باشا وزير الداخلية ناظم باشا على سلوكه ، ملوحاً بالتحقيق وعزل ناظم باشا ، وفي 17 آذار ـ مارس 1911م وةرد الأمر من اسطنبول بعزل ناظم باشا من ولاية بغداد( ).
وعلى أثر عزل ناظم باشا نظم الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي قصيدة بعنوان ( طاغية بغداد) وفي ما يأتي آبيات منها :
رام هتكاً لما تصون بنت قوم لم يدنس العرض منهم أبيها المصلح الكبير أهذا يا مهين العراق هل كنت تدري سر بعيداً إلى سلانيك عنا
فتاة كسبت في أمر العفاف اشتهارا بقبيح هم من سراة النصارى ما يسميه بعضهم إعمارا أهل العراق ليسوا غيارى إن فيها كواعباً أبكاراً( )

بالإضافة إلى الدور الذي لعبته سارة على الصعيد السياسي والذي على أثره تم عزل ناظم باشا من ولاية بغداد رأينا لها حضوراًُ بارزاً في الجانب الإنساني .
ففي عام 1917م أسست سارة خاتون لها حضوراً مع عدد من النساء الأرمنيات في بغداد الهيئة النسوية الأرمنية لإغاثة المهجرين الأرمن بفعل مجازر الإبادة الأرمنية في الدولة العثمانية عام 1915 م ، والتي راح ضحيتها مليون ونصف المليون من الأرمن وترك عشرات الألوف من المهجرين والمشردين وفي الوقت ذاته قامت سارة خاتون بتوزيع الطعام والملبس على 20 ألف من المهجرين الأرمن في العراق( ).