المعراج وأزمة فكر الأنثى!!!



يوسف هريمة
2007 / 11 / 19

الواقع والمثال
ترددت كثيرا قبل أن أحاول خوض غمار هذه الرحلة بتساؤلاتها وإشكالاتها وصعوباتها المنهجية، وفي ذهني أن الكثير من القراء قد يظن بأن موضوعا يتناول الأنثى من زاوية معرفية، قد يكون حاملا لأفكار رجعية تستهدف هذا الكائن، وترجع بنا إلى عصور تكريس قصور الأنثى عموما. إذ أن موضوع الأنثى كان ولا زال محط تساؤلات كثيرة، ومثار جدل كبير بين مختلف الفعاليات السياسية والفكرية في عالمنا المعاصر. لكن الخطير في الأمر أن تناول المرأة أو الأنثى عموما، غالبا ما يتم احتواؤه سياسيا لخدمة مصالح معينة، أو ضرب اتجاهات مناوئة ترى في الأنثى مصدرا للشر والتخلف بكل مستوياته.
قلت ترددت وأنا أحمل القلم من جديد لمباشرة موضوع يلامس الأنثى، وفي ذهني أيضا أين يمكن أن يتم إدراجه بين ساحات منتدى المعراج، هل في ساحة المعراج كما تم احتواء الكثير من المواضيع الخاصة بها؟ هل في ساحة الدين واسترجاع كل الإشكالات المتعلقة بهذا الكائن الإنساني؟ هل في ساحة النهضة باعتبار الموضوع جزء من الأزمة النهضوية لعالمنا العربي الإسلامي؟. ترددت لأستقر على وضعه بين طيات ساحة النهضة باعتباره جزء من أزمة التخلف العربي، ومناقشته هنا اعتمادا على معطيات واقعية بعيدة عن ابتزازت السياسة وإكراهات الدين.
إن موضوع هذه المقالة سيحاول الإجابة عن سؤال عميق، محاولا تلمس الإجابة من مظانها اعتمادا على كل ما ستجود به الأقلام المشاركة والمتفاعلة فيه سلبا أو إيجابا، إنه سؤال: لماذا تغيب الأنثى عن منتدى المعراج؟ أو لماذا تغيب الأنثى على الساحة الفكرية؟. إن سيادة المنطق الذكوري والثقافة الذكورية على الساحة الفكرية، لم يسمح للمرأة المثقفة أن تخرج إلا نادرا بمسار فكري معين خارج نسق الذكر ولو حاولت في الكثير من الأحيان لذلك سبيلا. والمنتدى المعراجي الكريم جزء من هذا الفضاء الكبير والفسيح الذي يسمح لكل الاتجاهات أن تبرز أفكارها يبين حجم الأنثى داخل المجال الفكري، باستثناء أربع نساء أو خمس استطاعت كل واحدة منهن أن تقاوم المد الفكري الذكوري الجارف، الذي لا يكاد أن تظهر إحداهن أمامه أو تبرز إلا في القليل من الأحيان. وأحب أن أؤكد من جديد على أن الموضوع لم يطرح من زاوية إيديولوجية تستهدف الأنثى داخل منتدانا، بقدر ما سيحاول أن يستجمع أعصاب الإشكالية كما أراها وفتحها للنقاش من بابه الواسع. فهذا الغياب أو الضمور لفكر الأنثى على البروز يضعنا أمام مجموعة من التساؤلات المصيرية: لماذا لم تستطع الأنثى أن تجابه المد الفكر الذكوري المسيطر على الساحة الفكرية؟ لماذا لم تستطع أن ترسم أفقها بعيدا عنه؟ هل سبب ذلك تكوينها النفسي والبيولوجي؟ أم هو سيطرة الثقافة الذكورية وإحاطتها بعقل الأنثى؟ ووو....
إن مجرد طرح موضوع في حجم ما نحن بصدده يثير العديد من التساؤلات المعرفية والإشكالية. ويرجع الفضل فيه لأخت كريمة داخل منتدانا التي اقترحت عليَّ أن أثير هذا التساؤل، وكتابة موضوع حوله يمكن أن يستجمع كل الآراء داخل المنتدى بمختلف توجهاتهم الإيديولوجية والثقافية والدينية، وذلك من أجل ملامسة جوانبه المختلفة بما فيها أفكار الثلة المتبقية من جنس الإناث التي لا تجاوز الأربعة. وكل أملي أن يساهم الجميع كما اعتادوا في وضع لبنات هذا السؤال المعرفي، بعيدا عن ما قلناه سابقا من ابتزازات رجال السياسة والدين. كما أرجو أن يُوَفَّرَ الجو لحوار هادئ بعيدا عن منطق الإقصاء والتجاهل والتخوين، فقد أصبحتُ في نظر البعض سهما في حلق الأنثى، ومكرسا للأزمة التنقيصية التي تعرفها مجتمعاتنا العربانية بشتى الألوان والطرق. ولكن حجم ما تجمعه الساحة من أقلام الفكر لا أقلام السب والشتم، يجعلني مطمئنا لسلوك الموضوع من بابه الواسع دون وصاية أو حجر فكري.
وستكون المقاربة المعتمدة للموضوع من خلال التصور التالي:
1- نقص العقل بين الواقع والمثال:
قبل أن أخوض غمار هذا السؤال، أحب بداية أن أشير إلى أن الثقافة الروائية ساهمت ولا زالت تساهم في تكريس دونية الأنثى بكل ما تحويه بين طياتها من نصوص. ولم أكن يوما مع هذه الثقافة، بل كانت مختلف مقالاتي خاصة بدايات انطلاقتها مرتكزة على هذا الأساس، وهو نسف كل القواعد المنشئة لهذه الثقافة من قريب أو من بعيد، ولعل أبرزها مقالة:" علم مصطلح الحديث وتأسيس الثقافة الروائية " التي كان من نتائجها تكفيري في موقع الشهاب والتحريض ضدي بشكل مباشر. أقول هذا لأن اعتمادي على سؤال نقص العقل أو عدم نقصه يتجاوز النظرة التبسيطية الاختزالية التي قد يظن ظان بأنني متمسك بها. فالقصد أكبر من ذلك ويتجاوز كل منطق تبسيطي في معالجة مثل هذه الظواهر الفكرية.
يبقى غياب أو ندرة فكر الأنثى داخل منتدانا، بصفته جزء من منظومة كبرى تعكس ثقافتنا، ينبئ بتكريس ما تم تداوله مثلا في مجموع هذه الروايات المنتقصة من حق الأنثى عموما. وعندما أتحدث عن الأنثى فإني أقصد العربية منها على وجه الخصوص، ولا علاقة لي بالأنثى الغربية التي قطعت أشواطا وأشواطا في التحرر الفكري بمختلف مستوياته اتفقنا معه أو لم نتفق. وأعتقد بأن الرواية المنتقصة من عقل المرأة لم تكن نابعة من فراغ معرفي أو ثقافي، بل كانت تصاغ لتعبر بدرجة من الدرجات على العمق الاجتماعي لثقافة ذلك العصر. فلقد كانت الأنثى بفعل عوامل كثيرة مغموطة الحقوق مسلوبة الكرامة، لم يسمح لعقلها أن ينشأ خارج إطار فقه الذكر والسرير، بل ظلت لعصور طويلة المدى ينظر إليها من خلال تكريسها لهذا البعد الفقهي الجنسي.
وبالرغم من كل الدعوات المناهضة لتعطيل فكرة النقص هذه، فما زالت لعنتها تتابع الأنثى بشكل من الأشكال، بل تجد هذه الروايات التاريخية والثقافية مصداقيتها من عمق الواقع، الذي لم تجرأ أنثانا أن تتحول أو تحيد عنه. فكل ما في الأمر أن هناك دعوات وشعارات كبرى تنادي هنا أو هناك، بمنطق السياسة أو الدين بما يحكم الواقع الفعلي بخطئه ابتداء. إذ لا زال الفقه الذكوري هو المستحكم على الساحة الفكرية، ولا زالت الأنثى غير قادرة إلا في حالات نادرة أن تستوعب ما هو ثقافي لتخرج من أزمتها المثالية. إذ لا يكفي أن نتحدث عن حقوق المرأة وتبوؤها المكانة اللازمة، إلا في ظل واقع ستنشئ فيه خطها التحريري بعيدا عن الذكر وإشكالاته.
ومن هنا يأتي سؤال الانتقاص ليكرس أزمة واقعية بعيدا عن أضرب المثال والشعارات الجافة. فسؤال العمق الفكري يحتاج منا دراسة في أبعاد هذه الظواهر، لا التعبيء معها أو ضدها تعبيئا سياسيا يفقد الموضوع مصداقيته أو حتى موضوعيته. والباب مفتوح ليدلي كل بدلوه داخل إطار العلم المتجاوز لحدود رغباتنا وأمانينا، فليس كل ما يتمناه المرء يناله، ووجود أربع إناث من بين أكثر من خمسمائة مشارك ومسجل في منتدانا، يلقي بظلاله على حجم الهوة الثقافية والفكرية لما طرحناه سابقا من سؤال النقص بين الواقع والمثال.
2- الأنثى بين الجسد والفكر:
تنتابني الحيرة في العقلية الشرقية والعربية عموما، والأنثى تكرس كل وقتها للجسد كأحد أكبر مظاهر أزمتها الفكرية. فمهما كان مبلغ هذه الأنثى من علم، لا زالت لا تستطيع أن تجاوز جسدها في محاولة لتبرير ما قد تكون تشعر به من النقص اتجاه غريمها الذكر. فغالبا مستواها العلمي لا يجعل منها مترفعة عن هذه النظرة الشرقية المنحبسة وراء قضبان الجنس. فعوض أن يكون الفكر هو مجال التنافس والتدافع بين الأنثى والذكر في جدلية مستمرة ترفع من مستوى كلا الطرفين، تتحول العملية إلى عملية صراع إيديولوجي يحضر فيه جسد الأنثى، كأحد أكبر الأسلحة فتكا بالقدرات الذكورية لمجتمعاتنا العربانية.
هذا السؤال الإشكالي في دلالاته يجعل المرأة تكرس ما قد قلناه سابقا مصداقية الروايات الثقافية والتاريخية، والمرتبطة بواقعها الجغرافي ويعطيها بعدا يستغله رجال الدين من أجل إحكام القبضة على زمام هذه الإشكالية. وهو سؤال كسابقه لا يكفي فيه التنظير والتجميل كما هي مقارباتنا المعرفية والمنهجية، كما لا يكفي فيه منطق التخوين والاتهام، إذ الواقع أكبر من هذا أو ذاك، ومفاتيح التغيير تكون عبر الإقرار بالداء أوَّلاً، لنستشرف بوادر ما يمكن أن يكون علاجا للأزمة أو طريقا نحو فكِّ رموزها وطلاسمها.
3- الأنثى بين السياسة والدين:
تبقى مشكلة الأنثى متجسدة في توسطها بين مجموعة من الثنائيات التي تتقاذفها، وقد ظلت لمدد طويلة تنعم بدفئ هذه المتناقضات ولم تشأ أن تخرج من بينها سالمة معافاة ولو تطلب الأمر عناء ومشقة الفطام الكبير. ولعل أخطر هذه الثنائيات هي جدلية الدين والسياسة، فهي بين مطرقة هذا وسندان ذاك، يتقاذفها كل من رجال الدين والسياسة ليلعبوا بها دور الضحية كل ما سنحت لهم الفرصة لذلك، وإن كانت لم تمثل لهم في واقع الحال إلا نزوات عابرة على مختلف العصور والحقب التاريخية. فإلى متى ستظل تهوي الأنثى بنفسها تحت رحمة هذا الصراع المفتعل ضدها؟، وفي الوقت نفسه تكرس أزمتها الفعلية من خلال معطيات الواقع باهتمامها بمشاغل الجسد على حساب ما هو فكري وعقلي.
وختاما أقول:
أتمنى أن أكون قد وفقت في نقل الصورة عبر ثنائات متعددة تركن الأنثى بينها، لتصنع لنفسها ما قد صنعته الثقافة يوما ما، وتكرس أزمتها بنفسها من خلال عيشها في عالم المثاليات الأفلاطونية مبتعدة عن الاصطدام بمرارة ما تجسده على الواقع الفعلي من ضمور لفكرها ونقص لقيمتها، أنتجه دخولها داخل مضمار الثقافة الذكورية وإن رفعت شعار التحول التحريري والفكري.
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وتقبلوا تحياتي الأخوية