صفحة من مذكراتي عام 1994



سينثيا فرحات
2007 / 11 / 20

شوارع مصر لغز طويل ومحير جعلني أقرأ حوالي عشرة أعوام في علم النفس لأجيب على سؤال راودني في طفولتي: ليه مش قادرة أمشي في الشارع؟
بوادر التساؤل راودتني وأنا في الرابعة عشر من عمري عندما تعرضت للموقف الذي سأقصه عليكم. عائلتي عائلة مصرية مثقفة ومتفتحة، ولكن أيضا محافظة بحكم ما يسمي بالعادات و التقاليد.

في أحد الأيام في بدء إجازتنا الصيفية اتصلت بي صديقتي وقالت لي: "سينثيا، تعالي نعمل حاجة مجنونة." قلت لها: "خير!" قالت لي: تعالي نتمشي في الشارع ونركب تاكسي (لأني في هذا السن لم تكن عائلتينا تسمحان لنا بالتنقل بالمواصلات بمفردنا)، ثم أضافت: ولكن لا تقولي لعائلتك عن تلك الخطة، فقط قولي لهم إني سأمر عليكِ وآخذك معي للنادي، وهم سيظنون أني أتيت مع والدتي كعادتنا واعدك إنك لن تكذبي....
فوافقت وتمت المؤامرة...
مرت عليَّ صديقتي وخرجت معها يملؤني شعور غريب بالحرية والمسئولية ممزوجة بالخوف لعدم مصارحة أمي، ولكنى الآن كبرت وخرجت للحياة.... الآن أسير في ضواحي القاهرة بمفردي وأبدأ رحلة حياتي في التفرد، فأنا رسامة منذ طفولتي ولم أرسم منذ الرابعة من عمري إلى الآن شيئا غير الإنسان، فلم أر حتى الآن ما هو أجمل وأغرب منه...
مشيت مع صديقتي أتفحص وجوه المارة، ملابسهم، ألوانهم، تعبيراتهم، بعين حرة، لعلي أجد وجها يلهمني... مشينا نبتسم، نضحك، واستمرت تلك الحالة حوالي ربع ساعة.
ثم بدأت المأساة! تعرفت علي تابوه جديد علي إدراكي... وهو جريمة أن تسير فتاه في الشارع! تخيلوا معي الكارثة الفادحة والمصيبة الزرقا لو مشيت وكمان وهي تبتسم للمارة أو للحياة أو لأي شىء آخر حتى لو حظها اسود وافتكرت نكتة! جريمة أن تبتسم فتاه لأبناء وطنها، وبدأت غربتي...
تجمع حولنا مجموعة شباب بسيل من السباب والألفاظ الغريبة، محاولين أن يتحرشوا بنا ونزعوا من رقبتي سلسلتي الذهبية، وقال لي أحدهم بتضحكي يا....
جرينا بعد ذلك حوالي ساعة متواصلة دون انقطاع ونحن نبكي من الخوف الهستيري والدهشة. هم لم يأتوا خلفنا، ولكني أمسكت يدها وجرينا وجرينا إلى أن انقطعت أنفاسنا، ثم توقفنا وقالت لي: إيه اللي حصل، إحنا عملنا إيه؟؟!
قلت لها كنا بنبتسم، الولد قال كدة
(ولكننا لم نكن نبتسم لهم بل للحياة...)
ثم سألتني: ما الخطأ في الابتسام؟! قلت لها لا أعلم الآن ولكني أعدك أن أجيب عليك يوم ما... وبعدها بأسابيع قليلة أجبتها... جريمتها أنها فتاه جميلة، فهل هناك ما هو أقبح من الجمال في دولة الفقر والتطرف والحرمان!
منذ ذلك الحين إلى الآن المشي في الشارع أصبح أكثر إجراء يومي يؤرقني.. أمشي متحفزة، عصبية، علي وجهي غضب ربنا كأني رايحة أصور قتيل... ولكن ليس بسبب موقف الماضي بل بسبب المواقف اليومية التي أتعرض لها برغم تأمين نفسي بنظرات الشر المفتعلة والملابس الفضفاضة المهرولة التي تسمي بالمحتشمة! وخضوعي للانحرافات الجنسية والفتنة التي لا رحمة منها ولا إجازة ولا مفر! فتخيلوا معي كم هو مشهد قبيح أن يكون التعدي عليك جسداًَ ولفظاً، وإن لم يكن أيهما فحتماً سيكون بالأعين والهمسات من الرجال، وأحيانا من بعض السيدات المحجبات. ففي تلك الأحوال التحرش من الأشياء التي أصبحت مقبولة مجتمعياً وأمنياً، بدليل أنها ليست محاربة، وكأن، والعياذ باللـه، ربنا غلط لما خلقني ست! وكأن، وكأن استغفر اللـه العظيم، غلط أكتر لما خلق الجينات التي تحدد جنس الجنين!!
فإذا كنت من أحد الرجال المشككين (لأن سبحان اللـه مازال في مصر من ينكرون تلك المصيبة)، أنصحك أن تلبس باروكة وغويشة وفستان وتركب أتوبيس أو ميكروباص، أو تمشي في الشارع، وبغض النظر عن فحولتك وبغض النظر عن مدي بعد شكلك عن المظهر الأنثوي، أوعدك وعد شرف إنك هتشوف الويل
هتتباس يعني هتتباس يا عباس...

أتعلمون لماذا احرص علي السفر للخارج كل عدة أعوام؟ لما ربنا يكون فتحها في وشي... عشان أمشي في الشارع... هل تصدقون أنني حقاً أسافر دولة غربية وادفع تكليف فرق العملة و الاقامة... عشان أمشي في الشارع... وأحياناً أمشي عشر ساعات في اليوم وكأني في ماراثون.. ألبس الشورت وتي شيرت... وأمشي وأمشي وأمشي، وأبتسم للمارة وألقي التحية علي الغرباء وأرفع رأسي ولا أفزع من أن عيني قابلت عيونهم، فحتما دائماً يبتسمون... وإن لم يلمحوني أمضي في طريقي كأي شخص عادي... وأقول يااااااه ده أنا فعلاً شخص عادي، وكم أفتقد هذا الشعور.. كم أفتقد أن يشعر من حولي أني إنسان...
ومرة اتعاكست وأنا ماشية في لندن...
أعطاني شاب وردة حمراء وقال لي: هل تسمحي أن تقبلي مني تلك الوردة؟ من فضلك؟
وذهلت من رد فعلي... لم أبحث علي طوبة أخبطه بيها، لم أنهال عليه بالتهديد والوعيد ولعنات السماء، لم أحاول أن أجعل عيوني تطق شرا وجنونا، فقط ابتسمت وأخذت الوردة وقلت له أشكرك. ثم انحني برأسه وقال لي يومك سعيد وذهب في طريقه! في داخلي كنت علي يقين أنه حقاً فقط يريد أن يعطيني الوردة... كنت أعلم جيداً أنه لا يقصد غير الوردة، وفرحت ووجدت حالة من الأمان والحزن تملؤني.... وقلت... يا خسارتك يا وطني....