فتاة القطيف: قضية فتاة أم وطن!



نذير الماجد
2007 / 11 / 30

من منا لم يعرف، عن حادثة "فتاة القطيف" التي قيض لها أن تكون قضية دولية بامتياز؟ أحاديث كثيرة يمكن أن تقال حول هذه القضية "المأساة" و الكاشفة عن عنف بدأ يعلن عن نفسه في صور من السلوكيات الجانحة التي لم تخضع تماما لتحليل جاد يكشف ملابساتها و أسبابها و جذورها، تلك الفتاة المثكولة في إنسانيتها و حقها في الحياة و الشرف و السمعة تعرضت للظلم مرتين: الأولى حين تم ابتزازها بشرفها، و الثانية: حين صدر ضدها ذلك الحكم الشهير و الذي قضى بإدانتها و هي الضحية، في حالة تعكس تآزر صنفين من أصناف العنف الموجه ضد المجتمع، عنف السلطة و العنف المرتد على المقهورين من الشعب!

أيا تكن ملابسات هذه القضية فإن ما يعنيني هو تداولها في أكثر من محفل و مناسبة دولية و على لسان قادة دوليين ناهيك عن التظاهرة التي خرجت في الهند و التي نددت بهذا الحكم و طالبت بإلغائه في مذكرة قدمت إلى القنصلية السعودية هناك، لقد انتقلت من مجرد قضية جنائية هزت المجتمع و الوجدان الإنسانيين إلى قضية أصبحت مادة للتعاطي الدولي و مسائلة المسؤولين في مؤتمراتهم الصحفية، كل هذا جعل من كلمة القطيف تقترن بحادثة اغتصاب و لعل في ذلك إشارة لواقع هذه المدينة الغنية و المغيبة و المهدورة في ثرواتها و خيراتها و إنسانها..

مدينة القطيف، تلك المدينة التي تطل على ساحل الخليج العربي المزدانة بتاريخها و تراثها و مجتمعها الحي النابض بالقدرات الأدبية و الفكرية، و المليئة بمائها و ينابيعها و عيونها الجوفية التي هي الأخرى تعرضت لصنوف شتى من الإهمال و حتى الحرمان، و بنخيلها المنغرسة في الأرض و التاريخ. تلك المدينة الجميلة الفتية قد حالفها القدر مرة أخرى لتشكل إحدى المدن و الحاضرات التي تمد الدولة و الوطن بالذهب الأسود، بعد أن كانت تمدها بالتمور و الخراج، فهي و الأحساء تشكلان المحطة الأولى لكل من أراد التوسع في السلطة من قبائل و مشيخات نجد في تلك الصحراء المقفرة الشاسعة، كانت عيون أمراء الحرب هناك مصوبة باتجاه الأحساء و القطيف في كل مرة يرومون فيها توسيع رقعة ممالكهم و سلطاتهم، لماذا؟ لأن الخير وفير، و الأرض منبسطة، و المياه وافرة.

منذ ذلك الحين بدأت قصة "الاغتصاب"!!

على طريق العوامية - صفوى تبرز لوحة كبيرة معدة بإتقان تشير باتجاه الشرق لحقل القطيف للنفط و الغاز، إنه يحتل مساحة مترامية الأطراف، و له قدرة إنتاجية عالية، إذ ينتج يوميا قرابة المليون برميل من النفط هذا عدا عن قدرته الإنتاجية الهائلة في الغاز، إنه ثروة دولة بكاملها!، و على بعد مسافة ليست طويلة تظهر تلك الأدخنة المنبعثة من مصافي التكرير في رأس تنورة حيث أكبر ميناء لتصدير النفط في العالم، لكنك حين تتجه جنوبا باتجاه "العوامية" تفاجئ بالبؤس يجتاح المكان و الفقر هو العنوان الأبرز الذي يلوح في أفق البلدة، بيوت طينية متراصة و أخرى من صفيح و خدمات بلدية هزيلة.. في هذا المكان ولدت و ربت "فتاة القطيف" و بين نخيله اختطفت عنوة ثم اغتصبت، إنها تمثل واقع هذه البلدة أروع تمثيل، فإن كانت اغتصبت ثم عوقبت لأنها جازفت في مغامرة لاسترجاع الشرف، ذلك "الشرف" الهاجس الذي يمثل صمام الأمان للمرأة و عنوان عفافها في واقعنا السعودي، فإن بلدة العوامية و معها مدينة القطيف و الأحساء و كل الوطن، قد تعرضت لعملية اغتصاب و "انتهاك شرف" مماثلة، إلا أن أحدا حتى الآن لم يجازف و لم يغامر في محاولة استرجاع الشرف الضائع لهذا الوطن و لم يتجرأ أحد أبدا في معاقبة مغتصبيه و مفترسيه!

في هذا الوطن المترامي الأطراف تتفاقم دوائر الظلم و الاضطهاد و القهر.. يبدو الإنسان السعودي و هو في أسوء حالاته "المازوشية" قد اعتاد على النهب و الهدر حتى استمرئه و ألفه. هدر الموارد و الخيرات التي يعج بها هذا الوطن أمر لا يحتاج لمزيد من الإثبات، نسبة البطالة لازالت مرتفعة و الفقر في ازدياد، مع انه لازال يتحدد رسميا وفقا لخط منخفض نسبيا رغم تلك الدعوات الاقتصادية الكثيرة التي تدعو لرفعه و تعديله بسبب التضخم و انهيار العملة و موجات الغلاء التي أصبحت أشد وقعا و تدميرا من تسونامي في كارثيته و آثاره!

لم يفلح النظام حتى الآن في ترجمة و توظيف تلك الثروات الضخمة في عملية التنمية على المستوى الإنساني و الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، أخفقت كل المشاريع الإنمائية أو جلها. في كل المجالات و المستويات هنالك ثمة تراجع في الأداء و الانجاز، الجامعات السعودية تحتل مركزا متأخرا بين جامعات العالم، الأداء التنموي وفقا لمؤشر التنمية البشرية التابع للأمم المتحدة يعطي السعودية مرتبة منخفضة جدا هي مرتبة (70).. تتفوق عليها دول خليجية لا تملك ما تملكه السعودية- و ليس هنالك مجال للمقارنة أصلا- كالبحرين و الكويت و غيرها، القطاع السياحي أيضا يعاني هو الآخر من معوقات بسبب التزمت الديني لا تجعله قادرا على خوض المنافسة بين القطاعات السياحية في دول العالم هذا فضلا عن تحقيق مركز مشرف لبلد كبير متنوع مناخيا و جغرافيا تتوفر فيه مقومات السياحة كالسعودية.

قائمة الإخفاقات تطول، لكن في المقابل نجد الفائض في الميزانية قد ارتفع لأرقام خيالية، هذا العام بلغ الفائض 200 مليار دولار، و أسعار النفط قد قاربت عتبة الـمئة دولار و هي قد تضاعفت عشرات الأضعاف في غضون سنوات قليلة، مما يعني أننا أمام طفرة نفطية تفوق تلك التي حدثت في السبعينيات، لكن أين هو المردود؟ هل بوسعنا أن نطمح لتمثل نماذج دول كقطر مثلا التي صنف شعبها هذا العام 2007م كثالث أغنى شعب في العالم حيث يبلغ دخل الفرد أكثر من 28000 دولار سنويا و هو مرشح لاحتلال المركز الأول ليتمكن من منافسة الشعب السويسري. المواطن القطري يحظى بامتيازات عديدة ، الكهرباء مجانا، و الهاتف المحلي أيضا، و علاوة السكن، و أرض لكل مواطن مع قرض عقاري بمتوسط 600 ألف ريال، هذا بالإضافة لعدم وجود شاب واحد عاطل عن العمل، أما في الإمارات فحدث و لا حرج، آخر الأخبار السارة - و هنيئا لإخوتنا في الأمارات كما في قطر!!- رفع رواتب الموظفين في القطاع العام بنسبة 70% دون أن يكون ذلك بمثابة منحة أو منة بل هذا ليس إلا حق من حقوق الشعب الذي حباه الله يهذه الخيرات و النعم، على عكس ما يحدث في السعودية، فعندما رفعت الرواتب في العام 2005 بنسبة ضئيلة جدا لا تتجاوز 15% اعتلت أبواق السلطة مطالبة بتلاوة الصلوات والأدعية لإطالة عمر هذا النظام "النبيل" الذي ما انفك يقدم المنحة تلو الأخرى و كل هذه بمثابة أعطيات للشعب العزيز - إحنا كرام و هو يستاهل!!- لم تلبث هذه الزيادة المزعومة حتى أكلتها فرامة جشع التجار و المتنفذين بنهمهم و جشعهم، و المصيبة أن هؤلاء التجار هم أنفسهم الأمراء و أصحاب السلطة! فإلى من المشتكى!

أما فيما يتعلق بالتحديث السياسي، فلعمري إنه حديث ذو شجون، لازال الاستبداد هو المعيار الأمثل في هذا البلد، كل المطالب السلمية التي طالبت بهذا التحديث في محاكاة مع قرار الإصلاح المزمع من قبل الملك عبد الله، قد تعرضت للقمع و عوقب أصحابها بالاعتقال، لازالت البلاد تفتقد الحياة البرلمانية و ثقافة الانتخاب، هنالك مجلس شورى معين من قبل الملك، ليست له صلاحيات تشريعية بل لا يعدو أن يكون مجلس استشاري، و إن كان له حق المحاسبة فمن المؤكد أنها لا تطال وزارات معينة كوزارة الداخلية أو الدفاع أو الخارجية أو .. الخ، لماذا؟ السبب أتركه لكم! دول الخليج الأخرى كالكويت و البحرين، و لاحقا، قطر و الإمارات و عمان قد أنجزت خطوات كبيرة على هذا الطريق، الانتخابات البلدية و التشريعية في كل من قطر و الإمارات و عمان قد بدأت في الأعوام القليلة الماضية و هي ماضية قدما في طريق التحديث السياسي و فرض دولة الدستور و المؤسسات و المجتمع المدني.

لكن الشعب السعودي قد اجتاف الظلم و التأخر و التخلف، فالتغيير بعيد المنال و التحديث السياسي و الاجتماعي غير مقبول بذرائع واهية كأسطورة "الخصوصية" التي ما فتئ النظام يرددها و يكررها،الخصوصية أن تبقى السعودية هي الوحيدة في حظرها قيادة السيارات للمرأة، الخصوصية في الطبيعة القبلية التي لا يمكن أن تصدق إلا على نجد و بعض الأقاليم، هي التي تجعل من عائلة واحدة بمثابة الموازن الاستراتيجي و الرادع للصراعات القبلية! "أسطورة الخصوصية" هذه أصبحت هي الإجابة الجاهزة و الحاسمة لمجابهة أي دعوة للتحديث و التغيير و التطوير. يجب أن يبقى الوضع كما هو، أوليست الطبقة الحاكمة هي المستفيدة أولا و أخيرا من الوضع القائم؟ إذاً ليذهب الشعب إلى الجحيم !

لئن كانت قضية الاغتصاب هذه قد استرعت انتباه قادة دوليين من أبرزهم هيلاري كلينتون المرشحة الأبرز عن الديموقراطيين لخوض المنافسة على البيت الأبيض و بعض النواب في الكونغرس و أصبحت مادة خصبة يتم استثارتها و استدعائها في المؤتمرات الصحفية و الدردشات التي يجريها المسؤولون مع الصحفيين، فإن من المؤلم حقا أن تبقى القطيف مدينةً و شعبا ، تغتصب ليل نهار بثرواتها و خيراتها دون أن تسترعي انتباه أحد. على الرغم من هذا كله يعكس هذا الاهتمام الدولي فداحة الانتهاكات لحقوق الإنسان التي ترتكب يوميا في هذا البلد، قضية فتاة واحدة استرعت كل هذا الاهتمام! أليس هذا أمر غريب عند سلطة اعتادت على هدر مكانة الإنسان و كيانه و حقوقه و إنسانيته؟!

أعادت هذه القضية الأنظار من جديد إلى ما يحدث من فظائع في مملكة الصمت هذه، إنها ليست أزمة فتاة و حسب، إنها أزمة وطن مزور و شعب مغتصب مقيد ليس له من ثروات الوطن و خيراته إلا الفتات!!