جرح العنوسة.. الطوق والأسئلة



عبد الإله بوحمالة
2007 / 12 / 31

العنوسة، لفظة قبيحة وجارحة أكثر من كل الألفاظ الأخرى التي تطلق لوصف حالة إنسانية واجتماعية مرفوضة أو مخزية. ويزداد قبحها بشاعة حينما ندرك أن ضحاياها لا يملكن وسيلة لرفعها والتخلص منها بإرادة حرة ومستقلة لأسباب كثيرة مرتبطة بما هو ديني وثقافي ومرهونة لمنظومة الأخلاق العامة والعلاقات الاجتماعية والأعراف والتقاليد السائدة.
كما أن المجتمعات العربية، بمثقفيها وعلمائها وهيئاتها الحقوقية ومؤسساتها السياسية لا زالت تتعاطى مع هذه المشكلة بمزيد من التجاهل والتعامي لكون الشريحة المتضررة لا يمكنها، بدافع الحياء والأنفة والكرامة الشخصية، أن تجأر بالاحتجاج الصارخ والمظلومية وتكتفي بالأنين المكثوم والموت البطيء خلف أستار المجتمع المنغلق، رغم أنها شريحة واسعة ورغم أن الظلم الواقع عليها تتحمل فيه كل أوزار الدنيا بدءا من الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة المتوالية التي قادت المجتمع إلى النفق المسدود وانعكست بالتالي على وثيرة الزواج وتكاليف الحياة الأسرية ومتطلباتها، وانتهاء بمخلفات الحرب الإيديولوجية الشعواء التي تدور بين الحداثة "الكاثوليكية" التي سدت أبواب بعض الحلول الدينية التقليدية أو ضيقتها، وبين الأصولية السلفية التي شيأت المرأة في الاتجاه المعاكس، وجعلتها موضوعا هامشيا مسلوب الإرادة منزوع الحقوق ومن ضمنها الحق في تقرير مصيرها الخاص كذات تتمتع بكامل استقلاليتها وأهليتها.
إن جرح العنوسة، الذي يغور يوما عن يوم، لا يمكن أن يحس بفداحة آلامه إلا الضحايا اللواتي يعشن وضع الطيور الذبيحة، أو من أسعفه حسه المرهف وتعاطفه على استشعار هذه الآلام على سبيل التخمين. فالفتاة في مجتمعات كالمجتمعات العربية المحافظة، حيث لا تستطيع أن تكسر طوق الحياة الأسرية ولا أن تفك أغلال العلاقات الاجتماعية الأبوية التحكمية بتمرد صريح باهض الثمن، تجد نفسها رهينة العوامل المأزقية التالية:
ـ وصاية ذكورية "غاشمة" يمارسها الأب أو الأخ أو أحد الأقارب الذكور.. وهي وصاية تحكم وتشدد مرهونة لثقافة الشرف والعار وتضع المرأة موضع الدونية والانصياع والتبعية، وبالتالي يتحكم الفكر الأبوي والمزاج البدوي والطمع المادي والصفقات الشخصية في مصير الفتاة ويرمي بها إلى براثن العنوسة المزمنة.
ـ انتظار القسمة والنصيب، فبحكم التربية المحافظة في مثل هاته المجتمعات، لا تبادر الفتاة ولا تقرر مصيرها من تلقاء ذاتها، بل في معظم الحالات لا تستطيع حتى أن تختار بملء إرادتها الخاصة. فهي الطرف السلبي الضعيف في المعادلة، وهي العنصر المنفعل المستجيب الذي لا يملك إلا الصبر والانتظار والمعاناة، وحتى في هذا الجانب هناك فرق بين الفتاة التي تنتظر وفي نفس الوقت تعمل وتتحرك في المجتمع بإيجابية وتقابل أناسا جددا كل يوم، وبين الفتاة التي تعيش تفاصيل الانتظار ووطأة الترقب والخوف داخل جدران إسمنتية أو حصار رمزي لا تتجاوز فيه حدود العتبات ولا حدود السلطة الأبوية ولا حدود التقاليد والأعراف..
ـ ثم هناك عامل الزمن: فرغم أن السن الأقصى للزواج لا يحدده قانون ولا عرف ولا دين، كما هو الحال بالنسبة للسن الأدنى. ورغم أن المرأة تستطيع أن تتزوج في كل الأعمار متى ما أدركت سن البلوغ، إلا أن العاملين البيولوجي والفيزيولوجي عاملان أساسيان في هذا الموضوع (مادام المجتمع ينظر إلى المرأة كسلعة)، فزمن الفتوة والجمال عند النساء قصير وزمن الخصوبة محدود وشبح سن اليأس يطارد الفتيات بلا رحمة ويضاعف من إحساسهن بغول العنوسة.
ليس من هم هذا المقال أن يبحث عن حلول لهذه المعظلة الاجتماعية الخطيرة لأن السنوات القليلة الماضية أثبتت أن الحلول الجزئية أو الاقتراحات الفردية المبسطة من قبيل الفتاوى كالفتوى بتحريم المبالغة في المهور أو بتحليل بعض أنواع الزواج المتروك أو إجازة الزواج دون بيت الزوجية أو الحملات الموسمية التي تنظم هنا وهناك لتشجيع الشباب على الزواج، لا يمكنها أن تكون حلولا جذرية فعالة طالما أن المجتمع لم يتجرأ على الاعتراف أولا وقبل كل شيء بهذه المشكلة ولم يطرحها علنا وبصراحة للمناقشة في المؤسسات التشريعية والدينية والمدنية وفي المنابر والمنتديات الإعلامية كواحدة من المخاطر التي تستفحل وتهدد تماسك الأسرة وسلامة المجتمع وقيمه الأخلاقية، لكني في المقابل سأسجل هذه المجموعة من الأسئلة الملحة التي يتعين علينا أن نجيب عليها قبل أن ننهمك في البحث للمعظلة عن حلول إذا كنا نريد لهذه المعظلة أن تحل:
ـ أولا: من هي الجهات التي يمكن أن تكون مخاطبا رسميا في هذا الموضوع الحساس؟. هل هي الجهات الدينية التي تملك مفاتيح الحل والعقد في الأمور المتعلقة بالدين وبمنظومة الحلال والحرام؟. أم هي الجهات القانونية التي تسن القوانين وتسطر التشريعات وتنظم شؤون الأسرة والزواج والتعدد والطلاق؟. أم هي الجهات الحقوقية، على اعتبار أن حق هاته الشريحة في حياة طبيعية سليمة وأمومة قبل فوات أوانها، حق لا يمكن أن ينازع فيه إلا فاقد إحساس أو ناقص تمييز؟..
ـ ثانيا: لماذا توانت الدراسات السوسيولوجية عن تناول مثل هذه الظواهر الاجتماعية مع أنها منتشرة ومرشحة للتفشي ولها عواقب نفسية واجتماعية وخيمة على شريحة كبيرة من المجتمع؟.
ـ ثالثا: لماذا لا تطرح الجمعيات النسوية، بصرف النظر عن خلفياتها الفكرية والإيديولوجية، مثل هذه الأسئلة المؤلمة، تماما كما هو الحال بالنسبة لقضايا التمييز والعنف المادي ضد النساء؟. ألا تشكل هذه الوضعية الاستثنائية عنفا ممنهجا من صنف آخر يقع على المرأة في مقتبل عمرها وهو ليس أقل قسوة وظلما؟.
ـ رابعا: ما هو حجم الخسارة التي يمكن أن نجنيها في المستقبل من استنكافنا عن طرح مثل هذه المشكلة التي تتفاعل في الخفاء وبسطها على محك المناقشة والتفكير؟. ألن نجد أنفسنا يوما ما أمام واقع اجتماعي منفلت ومتحلل أخلاقيا نتيجة رد فعل يائس ضد العقلية الذكورية المسيطرة والمستكينة للسكون الظاهري؟.
ـ خامسا: هل هناك إحصائيات رسمية مضبوطة لضحايا العنوسة في مجتمع كالمجتمع المغربي أو المصري مثلا؟. وهل يعني هذا الصمت الواضح أن الوضع طبيعي وغير مقلق بالشكل الذي يبدو لمراقب من الخارج؟.
ـ سادسا: هل مطلوب من ضحايا هذه الظاهرة الاجتماعية ـ إذا اتفقنا على خطورتها ـ أن يعيشوا على هامش المجتمع في انتظار تحسن الوضع الاقتصادي والاجتماعي على الأمد البعيد وهو الذي لا يزداد في الواقع إلا ترديا وتأزما؟.
ـ سابعا: لماذا لا نقول أن العنوسة رد فعل اختياري عند الإناث يقابله ما يسمى بالعزوف عن الزواج عند الذكور؟. أليست العنوسة بدورها تحصيل حاصل نجم عن التغييرات التي اعترت البنية والمفاهيم الاجتماعية وعن اختلال العرض والطلب في ما يخص نظام الزواج؟.
ـ ثامنا: هل يمكن أن نعتبر أن التأخر في سن الزواج عند الإناث شيء إيجابي في كل الحالات كما هو الشأن عليه عند الذكور؟. ألا يضر هذا التأخر بمعدل الخصوبة في المجتمع وبالتالي قد تكون له مضاعفات خطيرة على الهرم الديموغرافي في المستقبل البعيد؟.
ـ تاسعا: كيف صرَّفَتْ بعض المجتمعات المتقدمة مثل هذه الاحتقانات الاجتماعية في ظل منظومة قيمها المحافظة كما هو الحال بالنسبة لليابان أو الصين مثلا؟. هل هناك نماذج لحلول يمكن أن نستوحيها جاهزة طالما لسنا قادرين حاليا على الحسم في المعركة الدائرة بين الخيارين التقليدي والحداثي، تلافيا للكارثة؟.
ـ عاشرا، وأخيرا،: هل العنوسة مشكلة خاصة لا تهم إلا الشابة التي تعاني منها، أم هي مشكلة تقع على عاتق الأسرة بالدرجة الأولى ثم المجتمع بصفة عامة مادام الدين والتربية والتقاليد يزكي، في هذا الباب، نمطا سلوكيا قوامه الخجل والحياء وعدم مطالبة الفتيات بحقهن المشروع في الزواج علانية وبصوت عال تماما مثل الذكور؟.