بنات علم وكرامة



أحمد الخميسي
2008 / 1 / 13

دخلت منذ أيام قلائل مستشفى خاص لإزالة " المية البيضة " عن عيني اليمنى . قيل لي قبلها إنها عملية بسيطة مثل شكة الدبوس تستغرق عشر دقائق لا أكثر وبعدها بنصف الساعة تنصرف إلي بيتك . ومع التهوين من شأن العملية فإن القلق أمر مشروع ومفهوم ، لأنها " العين " التي يقال عنها دون أعضاء الجسم كله إن عليها حارسا طالما سألت نفسي أين كان ذلك الهمام حين تسللت الميه البيضة إلي العين ؟, المستشفى هادئة ونظيفة وتشغى بحركة دقيقة مثل خلية نحل . جلست في صالة استقبال نظيفة حتى استدعتنى ممرضة لإجراء التحاليل اللازمة قبل العملية : رسم قلب وتحليل سكر ودم . قادتني بخطوات واثقة وهادئة لغرفة وسلمت الملف إلي طبيبة شابة صغيرة السن ، فحصت عيني ، وكتبت تقريرا ، وتركتني لممرضة أخرى أخذت عينة دم ، وسلمتني لأخرى قامت برسم القلب . البنات جميعا كن يتحركن بثقة برؤوس مرفوعة ويتكلمن بأصوات واضحة وقاطعة ، كائنات أخرى لسن ألطف الكائنات ، لكن أكثرهن علما ، بنات لا يعتبرن وجودهن عورة ، بل زهرة جديرة بأن ترشق في جبين الحياة . شعرت بفرحة عميقة تشملني حين لم أر في عين واحدة منهن ذلك الترقب الصامت المهذب المؤلم لبقشيش أو هبة ، ولا تلك الاستكانة اليائسة التي تلوح على وجوه الكثيرين في أركان الشوارع وهم ينظرون إليك بما معناه : " أتعلم كم هي شاقة حياتي ؟ " . الكناسون الذين يقتربون منك بدون مناسبة والمقشات في أياديهم وهم يغمغمون : " كل سنة وأنت طيب يا بيه " . لا مذلة ولا مسكنة ، بنات يتحركن في ممرات المستشفى مسلحات بالعلم والكرامة ، حفيدات النساء اللواتي شاركن في مظاهرات ثورة 1919 فألهمن حافظ إبراهيم قصيدته الجميلة :
خرج الغواني يحتججن ورحت أرقب جمعنه
فإذا بهن تخذن من سود الثياب شعارهـــنه
وأخذن يجتزن الطريق ودار(سعد) قصدهنه
يمشين في كنف الوقار وقد أبن شعورهنـه
وغمرني المشهد بسعادة عميقة ، وقلت لنفسي حتى لو كانت تلك مجرد نقطة نور صغيرة على بحر من الحاجة والجهل فإنها نقطة عزيزة جدا . المستشفى تعمل كالساعة ، عندما تتحرك الممرضة بالملف الطبي ، تزحف النقالة بالمريض إلي الأمام ، ويتقدم الأطباء لحجرة العمليات، ويتبدل الزمن ، وتزول الغشاوة عن العين بتفتيت العدسة القديمة بأشعة الليزر وزرع عدسة جديدة . هكذا وجدت نفسي تحت كشافات الضوء الباهر بين يدي الأطباء وعيني اليمنى مخدرة . من تحت قماشة مسدلة على وجهي لم أر سوى شعاع من نور أبيض ساطع هو " الليزر " يدنو ويبتعد عن عيني اليمنى ، بينما تتراقص على حوافه هالات زرقاء خفيفة . لم أشعر بشيء ، كنت أسمع فقط أصوات الأطباء يتحدثون ويمزحون ويتطرقون إلي ما يعن لهم من قضايا ما عدا العملية . قلت لنفسي براحة عميقة لم أعرفها منذ زمن بعيد . لدينا إذن طبيبات شابات تخذن من بيض الثياب شعارهنه، يبعثن على الفرح، ولدينا أطباء من صلب بلدنا قادرون على إجراء جراحات دقيقة بسهولة واقتدار حتى أنهم يثرثرون أثناء إجرائها . بعد أيام من إجراء العملية فتحت عيني وبدأت أرى شيئا، شيئا ما مفرحا مع العام الجديد : لابد إذن أن ثمة تقدما يحدث في مجال ما ، ولابد أن ثمة شعاعا من النور يتخلل أجزاء من نسيج المجتمع المصري لكننا لا نشعر به . التقدم ممكن إذن لكن لابد له من العلم والعدل، وإلا فإن " غشاوة المية البيضة " ستظل تحجب الرؤية عن عين المجتمع بأكمله ، لأن زهرة واحدة أيا كان جمالها وقوة عطرها لاتخلق ربيعا ، إنها تكفي فقط لتحريك الأمل .