السعودية:المرأة و السيارة و جدل لا ينتهي



نذير الماجد
2008 / 3 / 11

مطعم تشيليز الأميركي الذي يقع على ساحل مدينة الخبر بالقرب من سلسلة مطاعم أجنبية و أميركية كثيرة و متراصة إلى درجة تكاد تحجب رؤية الشاطئ، يعتبر أحد الأماكن التي ترتادها الطبقات الراقية في المجتمع السعودي، حيث المتنفس الوحيد والمكان الذي لا تصل إليه السلطات الدينية، لكن تشيليز يتميز عن سائر المطاعم ليس فقط بما يقدمه من أطباق فاخرة و شهية بل بسبب المناخ المميز الذي يوفره لزبائنه، مناخ يتسم بقدر كبير من الحرية، على الأقل في نظر زبائنه الذين يفضلون فيه قضاء السهرة.

الفتاة التي تُلزم بتغطية كل الجسد من رأسها حتى أخمص القدمين يخلف الكآبة و الحزن و يلون حياتها و واقعها بالعتمة، و تشعر معه بشيء من المرارة، بإمكانها أن تحظى في مطعم تشيليز ببعض الوقت بعيدا عن وصاية الرجل و التزمت الديني و حتى العباءة، فما إن تطأ قدماها داخل تشيليز حتى تنزع الوشاح لتترك شعرها ينسدل و يتهدل على كتفيها و تكشف عن وجهها المزين بالمساحيق و المكياج، لتختال بجمالها و غنجها، و قد لا تتردد في الضحك بصوت عالٍ يشبه صهيل الخيل و هي بذلك تعبر عن حالة تمرد ضد القيود الكثيرة التي تطوق حركتها في الخارج. هذا المكان بمثابة فسحة لكسر التابو الاجتماعي و الديني، و التحرر من الرقابة السلفية التي تحاصر الرجل قبل المرأة، إنها تنظر إليه كأحد الجزر المحدودة من الحرية و "الاختلاط" وسط محيط توتاليتاري و استبدادي.

الحياء و العفة و الستر قيم اجتماعية تعني انكماش المرأة لحماية الرجل، لأنها ذات طبيعة تتسم بالغواية و الإغراء، ويقع على عاتقها حفظ الشرف و الأخلاق و حماية الأسرة –الرجل- من العار، فهي قيمة ذاتية و قيمة نقيضة في ذات الوقت، إنها أداة الرجل في الإنجاب و هي أيضا أداة أو ثغرة في الجدار السميك لشرف الرجل التي من خلالها يتسلل الشيطان و يجلب معه الخطيئة، إنها باختصار ميدان تسرح فيه الخطيئة، لهذا فخطاب المؤسسة استطاع ترسيخ قائمة من المحظورات تستهدف قبل كل شيء حماية الرجل، بوصفه السيد و الحيز الذي تتشكل وتصب فيه سائر القيم و الأنظمة الأخلاقية و الثقافية في خطاب المؤسسة.

و رغم أن هذا الواقع بتموجاته الثقافية و انعكاساته السياسية و خلفياته الدينية المغلقة جعل المكان يرزح تحت سيطرة ذكورية محكمة بيد أنه يحاول إنصاف المرأة بأن يمنحها ميزة أن تكون جوهرة مصونة ، لكن لم يتعد الشيئية و إن كان جوهرا نفيسا. هذا التشييء المضمر و المتواري خلف طبقات سميكة من التوريات و التصورات الدينية و الاجتماعية جعل منها حبيسة المنزل، أو في أفضل الأحوال جعلها متعهدة تموين في المول، أما وراء جدران البيت أو المول التجاري فإن لا شيء يدل على أن هنالك ثمة امرأة في هذه البقعة من الأرض، إن من يتجول في مدن السعودية يكاد يجن حيث لا يجد أثرا للمرأة، و إن وجدها فبذاك الطوق الأسود الذي يحيط بجسدها الغض و يحجب عنه ضوء الشمس وعيون الرجال معا، و الرجل ما إن يلمح طيفها حتى يحدق فيه مليا أملا في استكشاف هذا السر المكنوز خلف ذاك السواد الذي يسمى امرأة. و كلاهما يعاني من تبعات الفصل الحاد الذي لا يترك حيزا و لا مجالا للرؤيا و اللقاء، حتى و إن كان لتقديم التحية.

المرأة السعودية محاصرة تماما، إنها لا تستطيع الخروج بمفردها للسوق، و لا يسمح لها السفر إلا بمحرم حتى و إن كان السفر لغرض ديني كزيارة المدينة المنورة أو الحج، و كانت لا تستطيع استصدار بطاقة هوية خاصة، حيث تطفح بشاعة النسق الفحولي ومنطق الوصاية. وإلى وقت قريب كان يحظر عليها السكن في الفنادق بمفردها أو من دون محرم، إلى أن صدر قرار من وزارة التجارة جوبه برفض المؤسسة الدينية على رأسها المفتي العام الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، هذه المحظورات لا تمثل إلا النزر اليسير من قائمة طويلة لا أدري كيف تحتملها المرأة السعودية، لكن أغرب ما فيها ذلك الاستثناء السعودي الذي يمنح السعودية تميزا خاصا يجعلها منفردة بين دول العالم كله لا تتفوق عليها في ذلك سوى طالبان و نظام المحاكم الإسلامية وهو حظر قيادة المرأة للسيارة.

لا أحد يستطيع التكهن فيما إذا كانت السلطات السعودية قادرة على رفع هذا الحظر فتعلن رسميا عن رفعه أم لا، قرار المنع هذا بدأ كعرف اجتماعي ثم تحول لقانون رسمي أعلنت عنه وزارة الداخلية السعودية رسميا عقب تلك التظاهرة المطلبية الحقوقية التي نظمتها مجموعة من النساء الحقوقيات و الأكاديميات و المثقفات في العام 1991م في شوارع الرياض، و هو ما دعا السلطات الأمنية لمواجهتهن بإجراءات قمعية لا تقف عند حد اعتقالهن و فصلهن من وظائفهن و منعهن من السفر بل تعدت ذلك لتعاقب ذويهن و أزواجهن بتهمة التحريض!

منذ ذلك التاريخ أمست قضية قيادة المرأة للسيارة معضلة اجتماعية و سياسية و دينية في السعودية، فلم تعد قضية حقوقية للمرأة لها الخيار الأبرز في البت فيها بل تحولت لتكون مدار استقطاب بين فئات المجتمع المختلفة، فما إن تطرح في محفل أو مؤتمر أو مجالس خاصة أو عامة حتى يحتدم الجدال بين مؤيد و معارض، لذلك فهي بمثابة مقياس يحدد درجة قابلية النظام السياسي و المؤسسات الدينية و المجتمع للإصلاح و التطوير و مدى استعداده لولوج القرن الحادي و العشرين و مسايرة اللحظة المعاشة.

في عام 2005م أعيد فتح ملف السيارة و المرأة تحت قبة مجلس الشورى و أثار صخبا و ضجة بين أعضاء المجلس حتى انتهى الأمر إلى أن يغلق اللحيدان رئيس المجلس القضية دون التوصل لاتفاق محدد حول القضية. و في العام 2007م شكلت لجنة للمطالبة بحق المرأة في قيادة السيارة بقيادة نساء رائدات في حركة تحرر المرأة في السعودية أبرزهن الناشطة وجيهة الحويدر التي لم تتوقف عن مشاكستها في سبيل استعادة سائر الحقوق للمرأة و مساواتها مع الرجل، و كان آخر نشاط لافت قامت به على هذا الصعيد هو انتهاكها لقرار الحظر و قيادتها للسيارة داخل الأراضي السعودية بمناسبة يوم الثامن من آذار الجاري، يوم المرأة العالمي.

هذه المعضلة المتفاقمة يوما بعد آخر تشبه إلى حد كبير ما حدث في الستينات و بداية السبعينات إبان عهد الملك فيصل عندما سمح بتعليم المرأة، و مما يلفت النظر في هذا الصدد أن التيار الديني السلفي هو من رفع عقيرته رافضا الفكرة بمجملها لكن عوامل عديدة قد ساعدت الملك فيصل حينها على فرض قرار تعليم المرأة فهو سليل عائلة آل الشيخ العتيدة من جهة الأم، تلك العائلة التي ينحدر منها معظم رجال الدين في المؤسسة الدينية السلفية الحاكمة –منهم المفتي العام الحالي للملكة- و إليها يعود الفضل في ترسيخ بنى الكهنوت الديني القابع في نجد، هذا فضلا عن حاجته الملحة سياسيا آنذاك للتحديث و التنمية كإطار عام يمنح المشروعية لحكم العائلة المالكة السعودية، كما أن الجهاز الحكومي لازال حينذاك يخضع لنفوذ واسع للطبقة السياسية التي تشكلت في الحجاز و عنه اخذت طابعها التكنوقراطي و ثقافتها المدنية، و الأهم من كل ذلك هو أن الملك فيصل كان يتمتع بمكانة كبيرة في وسط العائلة تؤهله لاختراق المحظور و فرض الرؤى و الأجندة السياسية دون منغصات أو عوائق. و يخيل لي أنه لو استمر الملك فيصل في الحكم أكثر لكنا شهدنا قرارات مثيلة أكثر جرأة في تحديها للتابوات المفروضة من قبل أبناء خؤولته.

القوة و التفوذ و الحاشية و الظروف السياسية داخليا و خارجيا، كل ذلك مكن الملك فيصل من اتخاذ قرار تعليم البنات الذي يعتبر قرارا شجاعا و جريئا بالمقاييس النجدية التي تهيمن عليها العقلية السلفية، لكن التغيرات الداخلية و الخارجية التي طرأت مع وصول الثنائي الملك خالد و الملك فهد إلى العرش في العام 1975م تسببت في تباطؤ وتيرة التحديث و التطوير الاجتماعي و الاقتصادي. هناك عدة معطيات أدت لانحسار موجة الإصلاحات التي بدأت مع الملك فيصل، أهمها صعود نجم السلفيين من جديد و تصدرهم كقوة أساسية، إلى جانب عودة العامل الديني والانعكاسات السياسية لانتصار الثورة في إيران العام 1979م و الشعور بأن ثمة اهتزاز في الشرعية، و لإعادة تماسكها و ترميمها و ثباتها كان لابد من الحليف الديني، و منذ ذلك الحين أصبحت السعودية مسكونة بهاجس إرضاء السلفيين.

في مارس 2007م أكد الملك عبد الله أن قرار الحظر هو بمثابة قرار اجتماعي و دور الدولة هو ضمان توفير القرار الملائم الذي يراه المجتمع، مما يعني أن الجدل حول هذا الأمر لا طائل منه و أنه مجرد إرادة شعبية، إذا كان الأمر كذلك فإن المرأة ستقود السيارة في داخل المدن السعودية و خارجها عاجلا أو آجلا و لا ينقص ذلك سوى تصميم و إرادة نسوية قادرة على فرض الأمر الواقع، لكن ماذا سيكون الموقف أمام فتوى التحريم التي أصدرتها أعلى سلطة دينية في السعودية و هي هيئة كبار العلماء بتاريخ 1990 و قرار وزارة الداخلية الذي يحظر رسميا قيادة المرأة للسيارة؟

أعتقد أن ما يتيح ذلك للمرأة هو قرار رسمي يرفع الحظر كما أوجده قبل ذلك، و في هذه الحالة ستتمكن النسوة من معانقة مقود السيارة! صحيح أن ذلك سيجابه برفض اجتماعي لا يستهان به إلا أن الزمن وحده كفيل بحل هذه الإشكالية كما تكفل سابقا بانتشار الأطباق الفضائية اللاقطة!، و الزمن وحده هو الذي سيثبت صوابية مثل هذا القرار، خاصة إذا عرفنا أن هنالك مليون سائق أجنبي يستنزفون من خيرات هذا البلد نحو 18 مليار ريال كلها ترسل لدولهم، هذا فضلا عن التأثيرات الاجتماعية الضارة لهذا الكم الكبير من الأجانب الذين يحتلون مواقع حميمة داخل الأسرة، كما أن الكثير من النساء يعملن في الخارج و لديهن رخص قيادة.. و المفارقة العجيبة حقا التي تنسف كل هذه التحليلات و تؤيدها في ذات الوقت هو الاستثناء الذي يسمح بقيادة السيارة لنساء البادية دون نساء المدن!