الحجاب و حرية الملبس



حميد كشكولي
2008 / 3 / 14

أقرّت الأمم المتحدة في لائحة حقوق الإنسان ، و قوانين دولية عديدة حرية الملبس إلى جانب الحريات الأخرى ، من مسكن وتنقل و الرأي و التعبير وغيرها من الحريات والحقوق الأساسية للإنسان، رغم أن مفهوم الانسان في الفلسفة الغربية حمّال أوجه عديدة ، لست بصدد تناولها الآن.
ومن البديهي أن إرادة الإنسان الحرة، و حريته في الملبس تعتبران من أبسط الحقوق الطبيعية الأساسية.و إن ممارسة الإنسان لحريته في اختيار نوع ملبسه هي واحدة من أهم مظاهر التجسيد المادي والموضوعي لحرية الاختيار الواعي ، و إحدى أنواع حرياته ، سواء في حياته الشخصية، أو الإنسانية العامة. وإن الدفاع عن حرية اختيار نوع الملبس، و ممارستها في المجتمع بدون وجل يعد أمرا ضروريا وواجبا أخلاقيا وإنسانيا.

جرت دوما على مر التاريخ ، وفي أنحاء مختلفة من العالم مساع ٍ و محاولات لتجريد الإنسان ، وخاصة المرأة من هذه الحرية وحرمانها منها، من قبل أقلية ذات نفوذ ديني ودنيوي . وتجلت هذه الظاهرة بأشكال عديدة مختلفة في مجتمعنا في العقود الأخيرة بفرض الحجاب على النساء ومحاربة السفور . وهذا القمع الإجتماعي والنفسي يقوم به من يمتلكون السلطة المادية والمعنوية في المجتمع، أولئك الذين في حاجة لفرض أجواء القمع والاختناق على المجتمع في سبيل ادامة سلطاتهم المادية و المعنوية .
إنهم في حاجة ماسة لرسم خطوط حمراء حول سلوك الإنسان اليومي و سبل حياة الناس، و أن ينقضوا على كل النزعات التي لا تكون لصالحهم. ومن مظاهر هذا القمع الاجتماعي هو السعي الحثيث لجعل المجتمع ”متجانسا"، والإنسان واحدي البعد ، ضيّق الأفق، لتسهيل السيطرة عليه وقيادته، فاستغلاله و امتصاص دمائه.

شهد التاريخ عمليات " مجانسة " المجتمع في تركيا بعد الثورة الدستورية وإقامة الجمهورية على يد أتاتورك ، وكذلك في إيران على يد رضا خان ، وذلك بفرض السفور و الزيّ الغربي و منع الأزياء الشعبية والتقليدية في المجتمع، ما أطلق عليه في حينه بتحديث المجتمع. وهذا أيضا هو الوجه الآخر للقمع، مثله مثل فرض الحجاب و البرقع على النساء، و إطلاق اللحى، والزيّ الأفغاني على الرجال.
لم يكن هدف الشاه رضا خان محاربة حجب المرأة ، و تحقيق شيء من الحرية لها في المجتمع ، و لا محاربة التقاليد البالية ، بل كان الهدف أساسا هو إلباس المجتمع زيّا موحدا، و تبني نوع آخر من الحجاب، إذ كان ينظر إلى المجتمع الإيراني كثكنة عسكرية يجب على أفرادها الالتزام بقوانين موحدة ، و تنفيذ أوامر القائد الأوحد. ولم يقم باجتثاث جذر مصدر" الحجب"، بل أضفى ظلا، أو لونا جديدا على ظلاله الثابتة. والحجاب المعاصر اليوم الذي يُفرض على النساء منذ الثورة الإسلامية في إيران ، و منذ الحملة الإيمانية البعثية في العراق يعتبر الوجه الآخر لمجانسة المجتمع وقمعه. وعلى اليسار الاشتراكي التعامل مع الحجاب تعاملا راديكاليا . والراديكال بمعنى الجذر ، والجذر وفق ماركس لن يكون سوى الإنسان نفسه .
إن مسألة الحجاب ليست قضية فقهية دينية ،لكي تعالج في النصوص القديمة و مواعظ هذا وذاك ، واجتهادات هذا الفقيه وذاك الشيخ ، وليست هي فوق الظروف الاجتماعية أو خارجها ، وليست قضية خارجة عن الحركة التاريخية ، وليست ما فوق إنسانية، فأصحاب هذه الخطابات القطعية و الكلامية الفارغة يهدفون منها تبرير الحجاب و اضطهاد المرأة و إدامته.
إن اليسار الماركسي والاشتراكي التحرري يتعامل مع الحجاب باعتباره أمرا اجتماعيا وتاريخيا، له أساس مادي وواقعي في المجتمع. الماركسي لا يحارب الظلال، بل يقارع الجذور. النصوص الفقهية والروايات المختلفة لا تصلح منطلقا سليما، بل أن الماركسي و التقدمي والتحرري يقوم بنقد الأرضية الواقعية والمادية الاجتماعية التي نتجت عنها ظروف تاريخية ، تولد عنها الحجاب ، وتم فرضه على الأكثرية في المجتمع. كما يقوم يقوم بنقد السلطات التي تقوم بفرضه على النساء .

ليس الحجاب نوعا من أنواع الملبس المألوف، بسبب أنه مدعوم من قوى لها سلطات مادية ومعنوية، وأن فلسفته تأسست على نقض الأنواع الأخرى للملبس، ولأن الحجاب حين يظهر، عليه أن يمحو أنواع الملبس الأخرى، ويدينها و يكفرها.
إن الأطروحات البالية الصاعدة من أعماق فلسفة ما بعد الحداثة والتعددية الثقافية المغرضة ، ليست سوى تبريرات وقحة هدفها حفظ الظروف الظالمة السائدة في المجتمع. فهذه الأمور بذاتها حجاب على قضية الحجاب. ولا بد من التخلي عن هذه الحُجُب، لكي يبدو الواقع الاجتماعي عاريا على حقيقته. يجب تجاوز الظلال، لكي نتمكن من تناول الجذور ونقدها، نقدا للخلاص من الوضع المقلوب و البائس الخانق.
إن الحجاب يتم فرضه في المجتمعات التي تتعامل مع المرأة كسلعة، لا كإنسان، كموضوعة سلبية منفعلة، فاقدة الإرادة وقوة الاختيار، لا كعنصر إيجابي فعال، يملك إرادته الحرة، ووعيه في الاختيار واتخاذ القرار.
إن المرأة هنا بضاعة تكون في خدمة النظام الأبوي الرأسمالي، تعرض في سوق الاستهلاك للرأسمالية الرجولية. الحجاب هنا له حكم ماركة مسجلة، تتضمن نوعية السلعة و تاريخ الصلاحية، إذ تخرج من المعمل: البيت الأبوي" إلى السوق " بيت الزوج".....
وعلى المرأة أن ترضى بهذا التصنيف وتقبل به لكي تحافظ على زينتها وعفتها. لكي تظل سليمة، وغير مستخدمة!! مثل بضاعة يقبل بها المستهلك.
إن على المنتج " الأب الواقعي " والأب الروحي " أن يلتزم بتعهداته أمام المستهلك. هذا الالتزام يتجلى عند العائلة " الأب وولي الأمر" بشكل الغيرة و الرجولة و تقديس التقاليد ، و عند الحكومة والسلطات على شكل القوانين والشرائع و إجراءات القمع الاجتماعي.
القضية برمتها أن المرأة في المجتمع الرأسمالي و-الاسلامي المعاصر الذي هو أحد أشكاله- لا تعتبر إنسانا في هذا المجال، لهذا يستوجب حفظها وحراستها وحمايتها، و أنها ناقصة عقل يجب ارشادها دوما وتربيتها.
في المجتمع البرجوازي لم تكن المرأة سوى بضاعة و لعبة للهو و المتعة الجنسية للرجال أصحاب الثروة و السلطة ، يتم إجراء التجارب عليها لتحسينها ، ما يذكرني بردّ كارل ماركس في " البيان الشيوعي" على إشاعات البرجوازية حول تشييع النساء عند الشيوعيين، حين يقول ، لا حاجة لنا بتشييعهن ، أنتم تقومون بذلك منذ ظهوركم في المجتمع.
بعد كل هذه المصائب التي أنزلتها سلطات المال و الشرع ، بما فيها أشكالها الدينية، آن الأوان لنتيقن أن رأسمالية بفلسفة ما بعد الحداثة ، وبرجوازيتها المتعفنة ، ويسارها التقليدي المتهرئ ، لا تستهدف في مسيرتها الرجعية العادات والتقاليد البالية المتخلفة والرجعية. فالمتسلطون لا يكتفون ببسط سلطاتهم المادية والاقتصادية على الإنسان ، بل يسعون حثيثين في قمعه روحيا ونفسيا ، و تجييره حتى في منامه وأحلامه لمصالحهم و سلطاتهم الاستغلالية البشعة. وعلينا أن نعي أن البرجوازية الوطنية والمحلية تستفيد من هذه التقاليد لإعادة إنتاج نفسها، و سلطاتها، و بذلك لا بد لها من اللجوء إلى أساليب القمع والإرهاب. لهذا لا يمكن للبرجوازية الوطنية والمحلية النظر للمرأة كإنسان ، لها حقوق متساوية مع الرجال، بل أنها سلعة محروسة، فلا غرابة في أن يصف أحد الزعماء الإقطاعيين المرأة في استقباله وفدا من المرتزقات، بأنها "مقدسة". و في مجتمع الاستغلال والاضطهاد ستبقى قوة عمل مجانية للعمل المنزلي لغرض إعادة إنتاج القوى العاملة في المجتمع.
2008-03-13