لماذا غرقت - وطفة- بالنهر مرتين؟



عايد سعيد السراج
2008 / 3 / 19

تتدانى الحروف , فِتُلْهب هَمّ القيظ المُتَأرَّق بلحظة الذبح , ومن أَنّة الرباب على أضلاع الحروف , تتماهى المفردات الموجوعة التي وخزها حزن الأنثى 0
وما لَمّت عصافير ٌ دمها , بل ألهبت ظهر الحروف بسياطها التي رَشت عليها نعناع الصبا , واحتَشَمَتْ آهّةَ الأنثى المكبوتة في مهرجان الغربة , وتظل المسافة بين "زحل ٍ وكمأة ٍ" كالمسافة بين الحرف الذي أدمت أصابعه شيطنة الحروف , وذاك الذي شَرَدَ عن أخواته لُيقصِّر عمر " الثريا" كما لهجة التأريخ تماماً, في البحث عن مضايع الوقت , أو وقت يُريد منك أن ْ تلم ّ أحرف العالم لترسم لوحة ضياع النفس , التي تتنافر , عنها المسيلات وهي مركونة في تصحرها الأبدي , وكأن لعنة التخفي رفُعت أصبع الوهم الذي بتره الفراغ , كم تحاول لمّ النجوم المبعثرة في أرجائها , وعلى مذابح نحرها تتصيّد خراف الهمّ 0 ما بين وجهتها وسالف الغيم مسافة , وعلى مقربة من إبط المسافات , يؤذّن الوقت بإحباط ٍ عجيب ٍ , وكأن ّ " جنون الظمأ " شَدَّ قيْعانها إلى أنهر ِ الأرق المفضوح كالنهارات الجميلة , وهكذا في " الّدّنِّ" الطيني تتجذّر المسافات , وتهوي الروح لتصطرع , وتتسارع مع ذرات الماء التي تُلطَّف الأعماق بلذة ِ وحنان ِ الماء , كوّةُ المهموم لا تحدها رغبة ُ " الدراويش" بالرقص لأنّ الدائرة هي وثوب إلى الأعماق , ونكوص إلى أصل التجذّر الرحمي لطفولة الهيولى , " دوري يا روحي " فالتَيَهَانُ شَدْوُُهُ بلحظة الوهم 0 الغربة هي الدليل الوحيد الذي يستند على عكازة الهمّ والإرتواء 0(( مَهَّدّتّ قدماك وعورة الجيل , وَرَوّضت شقاوة الصخورة وحينما يُجَنّ الليل , ولم تلتق به تتذاءب عليك الظلمة )) " وطفة " التي انتفخت بطنها , شقّت عصا الطاعة على الموروث الموهوم, وراحت تثب غزالة إلى النهر الفرات " (بخشوع ٍ وتبتل ٍ تضع أصابع قدميها في الماء , تمشي , لا ترمش , ولا يهتز فيها عضو , مطمئنة إلا من بعض نوبات مخاض ٍ تجتازها بشجاعة , يداها تتلمسان البطن الدافئ 0 حينما وصلت المياه الصدر , تحرّك المشهد ) وهكذا نكون مع " وطفة " بطلة قصة " سحرُ المباءة" التي من مجموعة – النصوص – القصص- للأديبة ( نجاح إبراهيم ) التي عملت على كل حرف بأناة تامة , فلا فذلكة ولا لغو , ولا استظهار عبارات , فكل حرف هنا مشغول غير ُ دار بالذي حَوْلَهُ لأنه يبحث عن إتمام العمل الأدبي والفني الذي تريده الكاتبة , وهكذا ترانا نذهب وإياها إلى عوالم أرادتها أن تكون كما هي أرادت , فالكل في النصوص مضمر يريد أن يعـْـبر إلى داخله الحركي , بهدوء غير متكلفّ , " أقصد الداخل هنا" إذ أن عوالم الكاتبة الداخلية مشغولة على النصوص- القصص – بما يجعل العمل أكثر تقنية , وأبعد عن الهرج اليومي الذي نقرأه عند أغلب الذي يدعون الكتابة , لأن حالة " التبئير" هنا , تتصيد غزلان روح الكائن المأخوذ في النصوص إلى أبعد من المسافة التي تلتقطها قلم الكاتب المتُكلّف , وهذا بداية الدخول إلى الكتابة ذات الطابع النفسي , ومن أجْدر, غير امرأة تلمّ إنسانيتها لترمي الدفق الطلقي بوجه الشفق , الراهف , تعاطفاً مع الألم الأنثوي آن الدفق الذي تكَوَّرت عليه ومنه , ماهية الأنثى , لا إدعاء المرأة الرجل , أو الرجل المرأة , في وصف الخيبات المتكررة , " فوطفة " بطلة قصة " سحر المباءة "0لا تؤمن بالخيبات , ولا تضمر الكره للآخر المختلف0
- متى حدث ؟
- قالت وطفة " حينما سمعت الأناشيد بتبتل خاشع "
- تراغى القوم في الخارج وتصايحوا بألسنة عيّابة تهدر غضباً 0
فالرغاء الإبلي – يعبر عن حالة هيجان القطيع , أمام المرأة , ولم تكن تَعْبَهُ المرأة ( الحلم) إلا بسقسقة مياه نهر الفرات , وهسيس أعواد القصب , التي تشكل رموشاً تحمي أجفان النهر الناعسة , في ظلماء ليل أوحشهُ السهر , ونرفزهُ لَبْطُ الأسماك فوق لحيته المائية الزرقاء , وهكذا نرى ( كل الجسد استحال إلى آذان تلتقط الهمسَ والنقر وصهيل فرس, وزفير رجل يصلها فتنتفض وتهرع إليه بكلِّها , تقطع أرض الديار ذات الأحجار الناتئة , تجتاز التنور الغافي , والمصطبة وحوض الوضوء , لتزرع أمام الباب الذي فُتح على مصراعيه ) 0
* فالرواة من دموع ٍ راث ٍ , ومُستشْف ٍ حاقد ٍ, ومستهجن ٍ شامت ٍ , ومتعاطف صامت ٍ , وتدخل وطفة إلى ملكوت النهر مرحبة بها سفائن الموج , وغَزَل الجنيات المائية التي تتلاطم على نواتئ الصخر , فتذوب وبطنها المتكوّرة داخل رحم الماء الوَلاّدة , هرباً من بطون النساء الصخرية اللواتي لم يلدن سوى عقارب العذاب , الذي أمات ضمائرهن , كدفن قلوبهن التي أدمنت طبع الأفاعي , وعقربية الدون , رغم بصاق الفحولة , أما تينك اللواتي جرى الماء في شرايينهن , فقد بكينها بدموع ٍ غسلت مشاتل النعناع , وسماوات البوح , والحجر المائي الذي يغسل دموعه برذاذ الماء الفرات , هكذا هي الأديبة , نجاح إبراهيم , ولو فردنا كتب الكاتبة – لوجدنا مدى التطور الكبير والمتدرج , وذلك منذ مجموعتها القصصية الأولى عام 1992 – المجد في الكيس الأسود – وحتى كتابيها المهمين – ما بين زحل وكمأة- وأحرقوا السّذاب لجنونها – نرى مدى التطور المتصاعد - في المعنى والمبنى – أيْ التصور المتدرج صعوداً , والمحاولة الجادة لدمج اللغة الممسوكة , والمتساوقة مع الحدث الأكثر تجذراً , وهو يتغلل دون تكلف وسط اللغة 0 بلا تكلف ولا مبالغة , رغم التركيز على جمالية اللغة في الأعمال الأخيرة , والتي طغت في بعض جوانبها على أسلوب القص , وجعل منها نصوصاً قصصية جميلة , تتداغم مع الشعر ولا تكونه , وهذا يؤكد مدى الجدية , والاستفادة من تجربة الآخر المختلف , من أجل الوصول إلى الصوت المتفرّد, واللغة الخاصة , والتناص الجميل , والوثوق بالذات لدرجة التماهي , نجاح إبراهيم كاتبة جادة تملك لغتها الخاصة , وموهبة تجعلها تعزف على أوتار الحروف 0
* صدر للكاتب المجموعات الأدبية التالية :
1- المجد في الكيس الأسود 1992م- 2- حوار الصمت – 1997 م – أهدى من قطاة – 2001 م- مابين زحل وكمأة – 2003 م- أحرقوا السّذاب لجنونها – 2005 م- عطش الأسفيدار – لمن احتراق الهومة -2008- نداء القطرس – 2008 م