عودة الاسود المتسخ



هدى ابو مخ
2008 / 3 / 29

كانت تلك السمراء تتهادى أمام لجنة التحكيم على ما يبدو لاختيار متسابقة لمنصب يتطلب شكلا جذابا. توقفت بدلال وقد لاحظت نظرات عدم الرضا التي اكتست ملامح الحكم واشارته خلال حديثه مع زميلته الى وجود عيب في وجه المتنافسه. فما كان من حسنائنا الا أن اقتربت من الحاجز الزجاجي الذي يفصلها عن لجنة الحكام، انتزعت الوشاح عن رقبتها ومسحت الزجاج المتسخ ليظهر من خلفه وجها فاتحا وصافيا.
باعتقادي فان معظم القراء يستطيعون أن يخمنوا عن أي دعاية أتكلم هنا. فهي ذات دعاية مستحضر التجميل "فير اند لفلي"، وهو مستحضر تدعي منتجته قدرته على تفتيح البشرة وجعلها "أجمل". اعادت لي المشاهدة الاولى لهذه الدعاية تلك التنهدات المتألمة للكاتب الاسود فرانز فانون حول قمع اللون الاسود وتخيلت لوهلة ملامحه وقد أطلت غاضبه ساخطة على مفاهيم كان من المفترض أنها قد وضحت ووضحت المعاني القمعية التي تؤسسها.
شاهدت الدعاية مرة وأخرى وأخرى.. تمعنتها وتأملت تلك الحركات "الدلوعة" للمتبارية، وتأملت ذلك الاستفزاز لملايين المشاهدين العرب من ذوي البشرة السمراء في عالمنا العربي الذي تأتي دعاية واحدة لتنسف جمالية لونهم وتحوله الى مجرد وسخ على زجاج، استعمال فير اند لفلي سيقوم بمحوه.
كان العديد من الكتاب ذوي الاصول الإفريقية قد بدؤوا نضالا وصل أوجه منتصف القرن الماضي، تمركز حول القوى التي تقف خلف المعايير الجمالية التي منحت للون الابيض مقابل تلك السلبية التي وضعت للون الأسود. وقد ناقش فانون في كتابه الشهير "بشرة سوداء أقنعة بيضاء" علاقات القوة التي تختفي خلف اللون، حيث يفرض المستعمر (بكسر الميم) سيطرته، ثقافته وخطابه على المستعمر (بفتح الميم) ويؤثر علي وعيه من خلال خلق إدراك كاذب لديه، فيبدأ الأسود بالتفكير بمصطلحات الأبيض و"يستعير" منه قناعه ويبدأ من خلاله برؤية الحياة. وقد قام فانون بالتطرق إلى لمسات البياض الخفيفة التي تكون لدى بعض السود بحيث كلما كان الأسود ذو بشرة تميل أكثر من غيره من أبناء قومه إلى البياض كلما احترمه أبناء قومه أكثر وكلما اعتبر نفسه أفضل منهم.
هذا القناع الأبيض، الرؤية البيضاء للعالم من منظور الأبيض المستعمر (بكسر الميم) الغربي، هو أحدى تجليات الهيمنة الثقافية لحضارته وتعزيز للفوارق بينه وبين الأسود. فاللون يشكل هنا حاجزا يمنع الأسود من "الارتقاء" إلى مرتبة توازي مرتبة ومكانة السيد "الأبيض" الغربي، بل والأدهى أن الغربي يعمل بهذا على خلق حالة من الشلل لدى الأسود بحيث يبقيه سجين لونه وسجين محاولاته الدائمة للتخلص مما لا يستطيع التخلص منه. الأسود يتواجد في هذه الحالة في حالة لا يستهان بها، فلونه يمنعه من أن يكون "حضاريا" كالأبيض، وهو لا يستطيع تغيير لونه، فيطور لنفسه وعيا فاسدا يبقيه سجين الخطاب الاستعماري الغربي.

هنالك الكثيرون من يعتقدون أن اللون لم يعد عاملا مهما في حياتنا المعاصرة، فباربي لم تعد فقط فتاة شقراء، بل إن هناك باربي سمراء. كما أن الكثير من ذوي البشرة البيضاء يعمدون إلى اكتساب اللون الأسمر من خلال التسعف تحت أشعة الشمس. كما أن هنالك مرشح أمريكي أسود للانتخابات لرئاسة أمريكا... والقائمة طويلة. على الرغم من الادعاءات المختلفة حول اختفاء التمييز المبني على اللون فان العديد من الادعاءات الأخرى ترى أن هذا ما هو إلا واجهة لليبرالية تحاول الجسر على نقاط تناقض معاييرها. وأنا لا أهدف من هذا المقال مناقشة هذه الادعاءات وأيها أدق، بل أرمي إلى التمركز في المدلولات الخفية وراء دعاية "ساذجة" كالدعاية المذكورة أعلاه، واستنباط القوى الخفية التي تربط بين أجزاء مختلفة من مركبات هذه الدعاية.
إذا، فاللون كما ظهر في دعاية في أند لفلي لم يأت من الفراغ، فاللون الأسود كان يعتبر حتى قبل قرابة نصف قرن لونا يمثل الاتساخ. وكان يمثل معضلة وساحة صراع عنيفة للسود أنفسهم. فهويتهم حينها لم تتلق الاحترام من البيض على اعتبار أنهم الآخر الأدنى.
إلى جانب ثورة الزنوج كانت أيضا الثورة النسوية التي كشفت عن أشكال مختلفة من التمييز الذي تعانيه المرأة في جميع المجالات. وكان من بين أكثر ما أبرزته الباحثات النسويات عملية إنتاج الوعي لدى أفراد المجتمع بحيث يتشكلون وفقا لها، أي "المرأة لم تخلق امرأة بل صنعت". هذه الثورة أبرزت كيفية تغلغل المعايير الذكورية في وعي أفراد المجتمع، ذكورا وإناثا، وتشكيلهم وفقا لها. وبناء على ذلك بدأ الحديث عن الهوية الجنسية الاجتماعية لدى الأفراد (الجندر)، وعن الأساليب الخفية والجلية التي يستعملها المجتمع من أجل الحفاظ على سيادته وثقافته الذكورية، ابتداء من التربية وانتهاء باستعمال العنف ضد المرأة لدرجة تصفيتها جسديا. وكانت المعايير التي حددها المجتمع للأفراد فيه شاملة لكل مجالات الحياة ففرض على المرأة وجوب امتلاك صفات الأنوثة وتشمل الجمال، النعومة، الطاعة والانصياع وصفات أخرى تتعلق بوظيفتها كتحديدها أساسا بالعمل في المنزل. كما منح الرجل السلطة والقوة كجزء من صفات الرجولة. وقد تطرقت سيمون دي بوفوار في كتابها "الجنس الآخر" إلى المراحل التاريخية التي ساعدت في بلورة مكانة كل من الرجل والمرأة في المجتمع فحللت العديد من العوامل التي رافقت بداية نشوء الحضارة الإنسانية، فناقشت الحاجة إلى خروج الرجال لإحضار العبيد وتسبب ذلك باختزال عمل المرأة في بيتها بعد أن كانت مساوية له في العمل في الحقل، بحيث بات الرجل يملك عبيدا وباتت هي جزءا من أملاكه.
الفكر النسوي، كما فكر المثقفون المستعمرون (بفتح الميم)، هدف إلى تغيير واقع الاضطهاد والظلم المبني على فكر ماهوي للقوي. فالمرأة ناضلت للخروج من قوقعة كونها مجرد أداة جنسية للرجل واستعادة ذاتها الإنسانية، والأسود المستعمر ناضل من أجل التحرر من استعمار الأبيض القوي ومن أجل استعادة ذاته.
إلى جانب هذين المركبين، لا بد من التطرق إلى الخطاب الإعلامي السائد تجاه المرأة. فلم يعد تمثيل المرأة في الإعلام المرئي بصورة سلبية مثار تساؤل. إذ بات هذا التمثيل "طبيعيا"، تماما كما كان تمثيلها مؤتزرة رداء المطبخ طبيعيا قبل عدة أعوام. هذا التمثيل للمرأة واختزالها إلى مجرد جسد بات مصدر الثراء، ما دفع الكثيرات للجري وراء هذا "الحلم"، ودفع الكثيرات ممن لا يستطعن التحول إلى "نجمات" شهيرات تقليد هذه الأجساد المعروضة على الشاشات. بكلمات أخرى، حدث تغير في تمثيل المرأة، لكنه تغير يناسب معايير المجتمعات الاستهلاكية في عصرنا، فباتت المرأة، مادة استهلاكية متداولة، تماما كالأموال والسلع الاستهلاكية الاخرى.
هذا الجري الدائم للعديد من وسائل الإعلام من أجل جذب المشاهدين من خلال استعادة نموذج العبودية قبل عصور، على غرار الجواري، هدفه طبعا زيادة الكسب المادي. المرأة هنا، على هذه القنوات، تستعيد دورها "التقليدي"، حيث تتحول إلى "شيء"، لا ملامح إنسانية له، بل مجرد أعضاء تتراقص لتحريك الغرائز وتحريك الجيوب معها.
وأنا هنا أتذكر النظريات المختلفة حول بناء الجماعات القومية من خلال بناء أساطير مشابهة ووعي مبني على نفس المركبات من خلال إنشاء ذاكرة جماعية. وأستذكر أيضا الكتابات المختلفة التي قام العديد من الباحثون بالتطرق من خلالها إلى مدى فاعلية الكم الهائل من الأشخاص للتأثير على أو لتصميم واقع معين. الفكرة بأن الشاشة محاطة بملايين الأعين، كل تشاهدها على حدة، لكن لو جمعت سوية لشكلت تظاهرة ضخمة، وكلها من أجل "التمتع" بالجمال الأنثوي. مراسيم التعبد في السابق للجمال كانت مشوبة بالكثير من القدسية. اختفت القدسية وبقيت المراسيم والجسد. وطبعا، الجمال هو معايير يتم بناءها في الوعي وفق الثقافة والأمور التي تؤثر عليها في فترة زمنية وفي مكان معين، فالسمنة كانت في السابق رمزا للجمال والآن النحافة هي الرمز.
إذا، فالمرأة كما تظهر في الإعلام السائد مجرد أداة جنسية، ولكي تكون مقبولة على الجماهير عليها أن تكون جميلة، والجمال هو معيار تفرضه القوة. والقوي اليوم هو الغربي الأبيض. المرأة التي تشكل من حيث الكم أكثر من نصف المجتمعات العربية، واللون الأسمر الذي يميز الجمال العربي، كلاهما باتا موضع تساؤل، موضع قبح يجب تصحيحه. المرأة لكي تكون جميلة، يجب أن تستعمل فير اند لفلي.
اللون الابيض، الذي يمثل لون الثقافة الغربية المهيمنة (وأنا هنا لا أقصد التهجم عليها، بل الإشارة إلى المدلولات الخفية للأمور) هو اللون الذي تسعى شركات التجميل إلى نشره. كلما كنت أكثر بياضا، كلما كنت أكثر جمالا (ومن منا لا يتذكر قصة "بيضاء الثلج"، تلك الفتاة ناصعة البياض، شديدة الشحوب، الآيلة للكسر في أية لحظة، التي تحتاج لقبلة الأمير لينقذها من غيبوبتها).
وان كان اللون الأبيض هو الأكثر جمالا، وان كان رؤيته الأجمل مقابل رؤية الأسمر كملوث يجب تجميله من خلال جعله ابيضا، ماذا عن اختزال المرأة إلى مجرد شكل جميل؟ فالدعاية، ككثيرات غيرها، أبرزت ضرورة الجمال الجسدي للمرأة، فالصبية "الغنوجة" تتمتع بكل مواصفات "الأنوثة"، المشكلة الوحيدة هي وجهها... فمن أين هذا التمركز من حيث مضمون الدعاية حول جمال المرأة؟ الأمر يعود طبعا إلى مفاهيم كثيرة قامت وسائل الإعلام ببلورتها في أذهان المشاهدين والمشاهدات وتتعلق بمعايير الجمال المطلوبة من النساء، وبهذا خلقت قيودا جديدة على وعي الأفراد.
دعاية التجميل المذكورة أعلاه إذا قامت بإعادة نسخ ملايين المفاهيم في أذهان المشاهدين الشرقيين، نساء ورجالا،من خلال خلق نموذج الجمال: الأداة الجنسية ذات اللون الأبيض. المرأة هنا استبطنت المغزى الثنائي وعززته لديها، أما الرجل، ففير اند لفلي طبعا لا تتوجه إليه، فسمرته رمز للفحولة والرجولة، فباتت المرأة لا سيما السمراء محط تساؤل بعينه. كما تحولت الدعاية المرئية إلى جزء من ذاكرة الجنسين وحجرا جديدا في تعزيز الفجوات بينهما من حيث نظرة كل منهما إلى نفسه والى الآخر.