في غرفة التحقيق



وجيهة الحويدر
2008 / 4 / 5

كنت اتلفت من حولي ابحث عن مؤشر حياة، لم يكن ثمة تقاسيم واضحة على غرفة التحقيق. مجرد مكان عاجز، مثل جميع الأمكنة التي فشلت في ان تبوح عما جرى بين حيطانها من قهر وانتهاكات وجرائم بشعة. لعقود طويلة في بقع معتمة من هذا العالم، في زوايا موحشة في غرف التحقيق، مواطنون شرفاء كثيرون عبروا، وسُحقت آدميتهم بدون ان يعرف احد عنهم. صرخاتهم وتوسلاتهم المتكررة بددتها الايام بدون ان تترك اثرا في قلوب جلاديهم أو في ذاكرة الزمن، جميعهم ظُلموا وعُذبوا بدون رحمة. ادينوا بجرائم متشابهة لأنهم كانوا يطالبون بتوفير حق الحياة الكريمة للجميع، حتى لمعذبيهم انفسهم.

دخل المحقق الغرفة ومن الوهلة الأولى شعرتُ ان ثمة منافسة حادة بين حيطان الغرفة والمحقق، كأنهما كانا يتنفاسان على الصلابة المتخمة بتبلد الاحاسيس وغياب الانسانية. لم يظهر على ذاك الرجل اي اهتمام بأي شيء، سوى غرس صنف من الخوف في نفسي من خلال عيون جاحظة ابت ألا تستكين او ان تهدأ. جلس على الكرسي وكرر تحديقه، لكن هذه المرة خانه بؤيؤ عينه اليسرى، فشردت العين الى الجنب قليلا، وكأنها تريد ان تخبرني بأنه لا يوجد تحالف بينهما، وانها ليست راضية عما يجري لي هنا. بقيتُ ملتفة بصمت بعباءتي، وبحركة لا ارادية تحسست غطاء رأسي الذي صرتُ اشعر انه اصبح عضوا مني، فقد نبت في جسدي منذ عقود طويلة، فتبناه رأسي بدون ان ينتظر مني موافقة.

فجأة انكسر حاجز الصمت بصوت المحقق الأجش حيث اشتد وجهه خشونة وقال ينبرة غاضبة:

- من انتِ؟ وماذا تريدين؟ لماذا تثيرين كل هذه البلبلة على قضايا "هالحريم" ؟من يحرضك؟ ومن وراءك؟؟ هيا اخبريني بالاسماء.. وبسرعة.

قلت بكل هدوء:

- انت من؟ انت تعرفني بالاسم، تتنصت على مكالماتي، وتعرف رقم هاتفي، واين اقطن، وبالتأكيد تعرف كل افراد اسرتي، وانا لا أعرف حتى أسمك. أنا لن اتحدث معك حتى أعرف أسمك. ومن حقي ان اعرف انا مع مَن اتحدث.

لم يعجبه ردي أبدا.. انتفضى ليظهر عدم الرضا واجاب:

-نحن نوجه الاسئلة ودورك انت الاجابة فقط. انت سببتي ازعاج للسلطة، ويجب ان تتوقفي عن هذا الشغب والفوضى.

في هذا الجزء من العالم يُطلق على المطالبة بالحقوق شغباً وفوضى، اليس ذلك بأمر مثير للحزن؟؟ وانا اتأمل قلب المفاهيم ذاك، نـُخرت ثقوباً مؤلمة في ذهني من كل كلمة في ذلك المثل الافغاني الذي يقول" لا بد ان نتعلم كيف نتألم بصمت، لأن الصراخ من ألم سياط الجلاد قد يعكر على الوالي قيلولته، وتعِسَ قوم عكّروا قيلولة ولي امرهم."

اكمل المحقق كلامه عن الحكومة الرشيدة وما تبذله من جهد من اجل راحة المواطنين وخدمتهم، اختفى صوته شيئا فشيئا... فجأة فقدت قدرتي على السمع، عجيب امر اعضائنا السمعية هذه، احيانا تتصرف بمحض ارادتها حين تجد انه لا جدوى من الإنصات. سرحتُ قليلا بعيدا عن تلك الأجواء الكاتمة للهواء الحر. اخذتني ذاكرتي الى مدينتي البائسة الهفوف، حيث تقطن امي. كل مرة حين يتنكر لنا الزمان والمكان نتوق بحنين شديد الى احضان امهاتنا.شعرتُ كأني طفلة صغيرة تود ان تختبئ في كنف امها هربأ من شتاء قارص. العالم اصبح موحشا وباردا. كيف ابعدنا الزمن انا وامي عن بعضنا البعض؟ ما الذي اوصلني الى هنا؟ لا اريد طعاما ولا خبزا من أمي، كل ما أتوق اليه هو لحظة صفاء معها. ذرفتُ دموعا غزيرة في اعماقي بدون ان يشعر بي ذاك العبد المأمور. خطأ فادح ان نضعف او نهتز قيد انملة، ونحن على ارض المواجهة. ثمة طوابير من الفتيات الصغيرات ينتظرن اطلاق سراحهن من السجون. ليس من حقي ان اتخلى عنهن..بل ليس من حق احد ان يتخلى عنهن.. صرتُ اردد ذلك في داخلي.. واذا بي اسمع المحقق يقول:

-الا تسمعين؟ اخبرينا بالأسماء.. من هم وراءك؟؟

ابتسمت وببرود شهرزادي متوارث بين النساء حين يجابهن نهاية قد تكون قاتلة..أجبته:

- لا احد ورائي.

رد بحنق:
-انت تكذبين. نحن نعرف من هم وراءك .. هيا اخبرينا من اين لك هذه القوة؟

كان بودي حينها ان اقهقه بأعلى صوتي .. واثير حفيظته بسخرية متعمدة.. بالطبع هذا المأمور بأمره لا يعرف من اين تأتي قوة الحق.. فهو يقف على ضفة الباطل، ولم يتعرف قط على الحق في حياته، وربما لن يتعرف عليه ابدا...

اجبته بنبرة ساكنة كي أمتص غضبه الماحق..
- من اين لأي حقوقي أن يأتي بقوته؟؟ انت تطرح هذا السؤال وقد مروا عليك قوافل من الحقوقين الصادقين.. عجبا..كيف لم تتيقن من الاجابة بعد..؟ من اين لعلي الدميني ومتروك الفالح وعبد الله الحامد اتوا بقوتهم؟؟ من اين "مانديالا" المُعدم اتى بقوته؟؟ ذاك الرجل الهزيل الذي حارب تاريخ طويل عاتي من العنصرية والتشنج والمهانة.. كان لا يملك سوى ملابسه الرثة وحذاءه المهتريء.. من اين "المهاتما غاندي" اتى بصلابته وعزمه؟؟ ذاك الانسان الـ..

بدا على وجه المحقق القرف وقاطع استرسالي قائلا:
- كفي عن الثرثرة.. واجيبي على السؤال.. من اين لك هذا الصمود؟
بسرعة قلت:
-مني .. قوتي استمدها مني ..من الداخل وليس من احد... هل تعرف أو تفهم كيف تستمد امرأة قوتها منها في هذا الوطن الذي تخلى عنها تماما، بل حوّلها الى أمَة؟؟

كأنه لم يسمع الاجابة التي كان يـُصر عليها فقال:
_مع من تتعاونين؟ من هم الذين يحرضونك ويدفعونك للقيام بهذا الشغب ؟؟ اخبرينا بأسمائهم. انت تعرفين جيدا اننا بإمكاننا ان ننهيكٍ تماما. حينها سوف تخسرين كل شيء، وظيفتك، وحياتك، وكل ما عندك.. وقد يتضرر اولادك..هيا اعطينا الاسماء...
هنا انتفضت في داخلي مشاعر الامومة، ونهضت لبوءة كانت مستكينة لانها احست بخطر يقترب من اشبالها..فتغيرت نبرة صوتي واجبته بغضب شديد:
- لن اسمح لك بتهديدي او مس اولادي.. انا اعرف ما بإمكانك ان تفعله بي.. لكن هذا لا يعنيني بشيء.. انا صاحبة حق وما قلته لك هو الحقيقة.. وهذا كل ما عندي.. جهازي الجوال اخذتموه مني.. افتحه وتفحص الاسماء وسجلها عندك وابحث بينها عمن تريد.. وهذا كل ما عندي لأقوله لك...

حينها خيم صمت بلا نزعة.. ساد الغرفة هدوء عجيب ..لا أدري ..ربما ستلحقه عاصفة عبر ثواني متلاحقة.. لكن لم يحدث شيء..بعدها قال بعصبية مفتعلة وروح الهزيمة تبث رائحتها في المكان...

-انت امرأة عنيدة، سأحيلك الى محقق اتى خصيصا لك من العاصمة.. ربما ترجعي لعقلك وتتركي "هالحريم" اللاتي يضحكن عليك لتقومي بهذه الاعمال السخيفة..وتكفي عن هذا الشغب غير المجدي.. انت تعتقدين ان الدنيا على هواك..؟؟ تسببين مشاكل للسلطة وتحرضين "الحريم" علينا..من قال لك ان "الحريم" يردن ان تتغير احوالهن؟؟ هن سعيدات بأوضاعهن.. لماذا انت تتدخلين في شؤونهن..؟؟ من امرك ان تطـ...

تبدد صوته المهزوم وتهديداته البائسة شيئا فشيئا، وعاد المثل الأفغاني يدق في مسامعي من جديد... لكن بصورة تساؤل واجابة هذه المرة "هل لا بد ان نتعلم كيف نتألم بصمت، لأن الصراخ من ألم سياط الجلاد قد يعكر على الوالي قيلولته؟؟ وهل بالفعل يتعس القوم الذين يعكرون قيلولة ولي امرهم وجلاديهم؟؟ بالتأكيد لا... بالتأكيد لا...