قراءة نقدية لحديث(النساء ناقصات عقل..)4



عبدالحكيم الفيتوري
2008 / 4 / 24

المحور الثالث: الواقع والمشاهدة
يتبين لنا بعد كل هذا، أن المرأة قبل التنزيل وبعد التنزيل كانت حاضرة بدرجة ما في الاسواق بيعا وشراء، والأغلب كان عدم مشاركة المرأة العربية في الاسواق لذكورية المجتمع الذي يآنف من خروج المرأة؛ زوجة وأبنة وأما،إلى الأسواق ومناكفة الرجال والاختلاط بهم. ولكن رغم قلة عدد النساء اللواتي شاركن الرجال في الاسواق بيعا وشراء، فإن كتب التاريخ والحديث لم تسجل لنا حالة بيع في عهد التنزيل تم فيها اعتماد معادلة(1-2)أي رجل وامرأتين(21). بل نموذج المرأة العربية ذات الكفاءة المهنية في عهد ما قبل التنزيل وبعده، كانت حاضرة حضورا فاعلا، ولعل حضور السيدة خديجة بنت خويلد، ذات المكانة الاقتصادية في المنظومة القرشية لا يخفى على أحد، حيث وصلت بتجارتها التي كانت تديرها إلى الأسواق الإقليمية؛ أسواق الشام واليمن، حتى أن روايات السيرة النبوية تتحدث عن عمل رسول الله تحت إدارتها. وكذلك القول في شخصية هند بن عتبة التجارية زوجة التاجر الكبير أبي سيفان قائد القافلة التجارية يوم بدر، ولا يخفى على أحد دورها المالي في إدارة الصراع مع المسلمين في معركة أحد،وقتلها لحمزة على يدى وحشي الذي أعدته بمالها لهذه المهمة،وما خبر سجاح عنا بغريب؛ وهي التي أدعت النبوة وقادت حركة مضادة للإسلام بفكرها ومالها !!
منطق الرواية ومنطق الواقع: فإذا كان منطق الرواية صحيحة الإسناد(النساء ناقصات عقل)قد قزمت من دور المرأة العقلي في حفظ الأموال وغيره، فإن منطق الواقع قد أثبت عكس ذلك،حيث تبوات المرأة مكانة رفيعة، وثقة قوية، في حفظ الأمانات، ونقل الديانات، فقد حفظ مفتاح الكعبة عند بنت خليل الخزاعي قبل الإسلام، ثم عند أم عثمان بن طلحة، كما حفظت نسخة القرآن الكريم عند حفصة، ونقلت إلينا جملة من قضايا ديننا الأساسية عن طريق المرأة كالسيدة عائشة، وفاطمة، وأم سلمة، وزينب، واسماء وغيرهن، بل إن إحدى روايات كتاب صحيح البخاري نقلت عن طريق السيدة كريمة، وغير ذلك من الشواهد التي تشير بأن المرأة لم تكن محل تهمة في حفظها ولا عدم ثقة بعقلها فيما تتعاطاه وتتعامل معه، ولكن غالب نساء ذلك العهد لم يكن لهن خبرة بقضايا المال، وفنون الأسواق، وعالم التجارة، ومعلوم بالحسى والواقع أن نسيان تفصيل أي معلومات هو حليف لمن لم يعمل بها ويتعاطى معها بصورة مستمرة، سواء أكانت هذه المعلومة؛ دينية أو علمية أو تجارية أو غير ذلك. الا ترى لأستاذ التاريخ مثلا كيف يستحضر تفصيل مادته؛ من أسماء ومواقع بدقة متناهية، ولكن إذا ما عرضت عليه مسألة من مسائل فن الحاسوب مثلا، فقد يفهمها ويستوعبها في حينها، أما استذكارها بعد حين مرهون بقدر تعامله وكثرة استحضاره لتلك المسألة، فإذا لم يكن متعاطيا لها فإنها بالضرورة الانسانية تذهب أدراج عالم النسيان، ولا أثر لعوامل الذكورة والأنوثة في ذلك. وقد أشار إلى ذلك الاستاذ محمد عبده في سياق تفسيره لشهادة المرأة،فقال: والسبب الصحيح أن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، فلذلك تكون ذاكرتها فيها ضعيفة ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية التي هي شغلها، فأنها فيها أقوى ذاكرة من الرجل؛ يعني أن من طبع البشر ذكرانا وإناثا أن يقوى تذكرهم للأمور التي تهمهم ويكثر إشتغالهم بها).(22)
ولا بأس بهذا الصدد على سبيل المقارنة بين تباين منطق الرواية ومنطق الواقع المنسجم من مقاصد القرآن الكريم، أن نشير إلى حجم نجاحات المرأة في أسواق العالم المالية والتجارية على هيئة صورة رقمية، فهذه قائمة بأغنى مائة امرأة في العالم(23). ولا يغيب عن بالنا ما حققت المرأة المسلمة؛ كالمرأة الإماراتية والكويتية والسعودية والمورتيانية والشامية والمغربية وغيرهن من نجاحات في سوق الأوراق المالية والبورصات التجارية، في بورصة أبو ظبي وغيرها، فقد ارتفعت نسبة المضاربات من النساء اللواتي ساهمن بأنفسهن وليس عن طريق وسيط، في بورصة السعودية وحدها إلى نسب خيالية حسب الأعمار، فأقل من(25) عاماً شاركن بنسبة 12%، وما بين(25–40) عاما شاركن بنسبة32%، وما فوق(40)شاركن بنسبة55% .
وبالتالي فإن حجم نسبة مشاركة المرأة في الأسواق المالية المرتفعة،تقتضي ضرورة إعادة النظر في الأطروحة الحرفية التأويلية التي جعلت قدرة المرأة العقلية نصف قدرة الرجل باعتبار الجنس وليس باعتبار الخبرة والكفاءة، علما بأن واقع المرأة المسلمة المشاركة في الأسواق تخضع كغيرها من المشاركين إلى دورات علمية في فنون التجارة، والأسواق المالية، والبورصات التجارية، وقد جاء في لقاء قناة العربية حول المرأة والأقتصاد ما يثبت ذلك، فقد سئلت مذيعة العربية، التاجرة السعودية كلثم عبدالله عن الاحتياط من مخاطر التجارة، أجابتها:( يجب أن تكون عندها خلفية كافية وخلفية جيدة عن معرفة كيفية التداول بالأسهم،والدورات التي تحضرها، وورش العمل الكثيرة اللي طبعاً بدأ حينها لما بدأت المرأة تنخرط في هذا السوق تأخذها وتحضرها من خلال المؤسسات اللي تعطيها مثل هذه المعلومات مهمة جداً إنها تبتدئ تحتاط من..سمار جابر: طيب هذا يحصل الآن في الإمارات العربية؟ كلثم عبد الله: طبعاً في الإمارات فيه كل تقريباً المؤسسات قامت خصيصاً مثل هذه الدورات وفيه في الجمعيات حتى عندنا إحنا في غرفة التجارة تقام هناك ورش ودورات للسيدات).(43)
وبهكذا تكون الكفاءة هي الشرط المعتبر في شهادة المرأة والرجل على حد سواء في الأموال وغيرها، وليس للفوارق الجنسية في ذلك أية اعتبار. ولعل فيما حققته المرأة الكويتية، والقطرية، والخليجية بصفة عامة من نجاحات في عالم التجارة والمال ما يؤكد على ذلك، وليس عنا ببعيد أخبار المرأة الموريتانية صاحبة السبق في ولوج عالم المال والاسواق، فهي التي أسست اتحادا خاصة بالنساء التاجرات في موريتانيا عام1993م، وحضورها البارز في سوق شنقيط .
ويبدو أن ما قام به ترمان ومايلز، حول الفروق بين الجنسين في السمات الشخصية، وما وصلا إليه من مقياس (لتحليل الميول والاتجاهات) يتفق مع قول العقلاء قديما وحديثا بعدم وجود فوارق جوهرية بين عقل المرأة والرجل من ناحية العضوية، وإنما البيئة التعليمية والثقافية والاجتماعية هي المحدد الحقيقي لبروز تلك الفوراق بين عقل وآخر؛ ذكرا أو أنثى. فقد جاء في الدراسة الميدانية التي قاما بها ترمان ومايلز على مجموعة من الرجال والنساء ما يثبت بأن البيئة الثقافية والتعليمية هي الأساس في تمايز العقول وليس الجنس (..ويتكون هذا المقياس من مجموعات من الأسئلة وضعت لكي تميز إلى أقصى حد ممكن بين الاتجاهات العامة في ردود كل من الرجال والنساء على الأسئلة، وبذلك فهي تعتبر مقياساً لمدى (الذكورة والأنوثة) وقد بني هذا المقياس على أساس دراسات طويلة ومستفيضة للغاية، وانتقيت الأسئلة انتقاء دقيقاً، بحيث شمل المقياس تلك الأسئلة التي بينت بوضوح تام أن هناك فروقاً بين أفراد الجنسين الذين يعيشون في المجتمع الأمريكي. وقد جمعت البيانات من عدة مئات من الأفراد كان من بينهم أطفال بالمدارس الأولية والثانوية والمعاهد العليا والخريجين، وكان من بينهم أيضاً أشخاص كبار من غير المتعلمين ومن المتعلمين ومن أصحاب مختلف المهن، كما اشتملت العينات أيضاً على بعض مجموعات اختيرت من بين الأحداث المشردين، والكبار المنحرفين جنسياً، والرياضيين. وقد كان لكل ذلك أثره في أن المقياس أثبت نجاحاً فائقاً في التمييز بين إجابات الرجال وإجابات النساء في المجتمع الأمريكي. وقد وجد في الوقت نفسه أن معامل الذكورة والأنوثة مرتبط إلى حد كبير بعوامل الخبرة المكتسبة من التربية والتعليم في المنزل أو في العمل...ووجد أن تأثير هذه العوامل أقوى من تأثير العوامل الجسمية.كما اتضح أن النساء المتعلمات تعليماً عالياً، ولهن ثقافة متسعة يحصلن على درجات في هذه المقاييس أعلى من متوسط ما يحصل عليه النساء، وكأنهن بذلك يقتربن من الذكورة...ومعنى ذلك أن التربية والتعليم والخبرات التي يعانيها الأفراد تقرب بين وجهات النظر عندهم وتقلل من الفروق في الصفات المزاجية بين الجنسين...).(25)
إذن منطق الواقع والمشاهدة، يعتبر الكفاءة، والخبرة والتدريب، والبيئة الاجتماعية والثقافية، هي المحدد الحقيقي للفوارق بين عقل الرجل والمرأة، وليس عوامل الجنس. وهو ما يتفق مع الخطاب التكليفي القرآني، الذي لا يفرق بين المرأة والرجل في تحمل التكاليف والمسؤولية في الدنيا والأخرة(من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ، فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)، (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى،بعضكم من بعض..)، (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم من بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر).
يتبع ...