عبد الرحمن المجذوب وعقدة الأنثى المغربية!!!



يوسف هريمة
2008 / 6 / 11

يأتي هذا المقال في سياق تكميلي لما قد كتبته سابقا حول الأمثال المغربية وتسويقها لنماذج نمطية معينة تشكل الوعي الجمعي للفرد المغربي سلبا أو إيجابا، وحينها قلت بأن المثل الشعبي كان يعتبر على مر التاريخ المؤطر الرئيسي، والخزان الثقافي الكبير المعبِّر عن درجة وعي المجتمع وتخلفه ونظرته لمختلف أجزاء هذه الحياة ومناحيها، وشكَّل على مرِّ العصور ولا زال أحد الروافد الخطيرة في تكريس بعض المظاهر الاجتماعية والفكرية المساهمة في قضية النمطية الفكرية. ولا يمكن الاستهانة بقدرة المثل الشعبي على تسييج وتسيير الرأي العام بشقه العامي والنخبوي، والغالبية العظمى تنضوي تحت لواء الثقافة الجمعية طوعا وكرها يصعب تخطيها إلا في حدود ضيقة، نظرا للإحكام الخطير والمحاط بسياجات معرفية مختلفة تبدأ بالقمع، وتنتهي بالتأطير القسري للعقل الإنساني شاء أم أبى.
ننتقل من خلال هذا الموضوع لمقاربة جانب آخر من جوانب ثقافتنا المغربية، والمتعلق بشق المرأة أو الأنثى عموما في ذهنية الرجل المغربي، عبر ما تمَّ تكريسه من خلال ما سمي ب " رباعيات عبد الرحمن المجذوب "، التي شكَّلَت الملاذ الأول للإنسان المغربي بمختلف مستوياته الثقافية والفكرية وبمختلف شرائحه الاجتماعية. ظلت هذه الرباعيات المصدر الأساسي للذَّكَر المغربي ونظرته للأنثى بعيدا عن تهليلات السياسة ولعبة الحقوق، فبها ومنها وعبرها كان يشكل الصورة النمطية لهذه العلاقة المهزوزة والشبه عدائية، ولو جمع بين الذكر والأنثى سقف واحد وأطفال وأسرة واحدة، فلن تُغيَّر الصورة ما دامت حكمة عبد الرحمن المجذوب المروية، وحكاياته لغرائب النساء تدور كلها في فلك ما سمَّيْتُه عقدة الأنثى في الثقافة المغربية، فمن هو عبد الرحمن المجذوب؟ وما هي سيرته؟ وكيف استطاع أن ينسج صورة ظلت تطارد المغربي في تجمعاته وأعياده وحفلاته وسهراته؟. هذا ما سنحاول أن نلقي عليه الضوء من خلال هذا الموضوع:
*- نبذة عن عبد الرحمن المجذوب:
التصقت سيرة المجذوب أو من يسير على شاكلته في بعض مناطق المغرب بحياة التقشف والزهد والتصوف والحكمة والبعد عن كماليات الدنيا وغرورها، فهكذا رويت حياة المجذوب مقرونة بهذا البعد الأخلاقي في شخصية تصوغ الكلام صياغة زجلية تخترق الغيب، وتنظر بعين الحكمة كما رآها المغاربة إلى الحياة وكل مظاهر اللهو بما فيها موضوعنا عن الأنثى، الذي حكى عنه كثيرا مُشَكِّلاً له صورة الخديعة والمكر، بأسلوب أدبي زجلي يعتمد لغة الحكاية الشعبية تغنّى ولا زال الشعب المغربي بمواضيعها، بالرغم من كل هذه الآلة الإعلامية الهائلة التي تحاول أن تخرج المرأة أو الأنثى من سياق الثقافة الشعبية وتصورها بصورة خارج هذا النسق الفكري.
هو عبد الرحمن المجذوب بن عياد بن يعقوب بن سلامة الصنهاجي الدكالي، لُقّب بالمجذوب من طرف أهل زمانه وظل ملتصقا به وبأتباعه حتى وقتنا الحاضر، لما عرف عنه وقدمنا به سيرته الصوفية في مستهل هذا التعريف. وأصل المجذوب من " تيط "، بنواحي مدينة أزمور المحادية لمدينة الجديدة على ساحل المحيط الأطلسي، ثم انتقل إلى مدينة مكناس عاصمة المولى إسماعيل أحد ملوك الدولة العلوية، وبعدها عاش مدة من الزمان بالهبط الغرب ليعود منها إلى مكناس بعد أن أحس قرب الأجل، فتوفي في الطريق بمجشر فرقاشة بجبل عوف بين ورغة و واد سبو، ودفن بخارج مدينة مكناس بجوار باب عيسى و ضريح السلطان المولى إسماعيل سنة 976 هـ الموافق لـ 1568 م.
كانت الدنيا في رباعياته مجرد وهم من الأوهام، وأثرت على نظرته لكل متاعها بما فيها ما سنتناوله بالدراسة، حيث يشبهها بالناقة حينما تعطف بحليبها تروي المتعطش لها، أما إذا لم تعطف فيتدفق ذلك الحليب ولو كان في متناول اليد:
الدَّنيا يْسَمِيــــوْهــــا نـــــــــاقَــــــة ***** إلى عَطْفَاتْ بْحْلِيبْها تَرْوِيك
وإلى ما عَطْفَاتْ ما تْشَدْ فيها البَاقَة ***** يَتْكَفَّحْ ولو يْكُون فِي يْدِيــك
وقد كان لونه الأسود مدعاة لتعرضه لمجموعة من المضايقات تكشفَّت من خلال رباعياته، انتقد فيها بشكل لاذع النظرة المادية للمجتمع المغربي، والمرتبطة بالأشكال والمال وعنصرية اللون وازدرائه على حساب اللون الأبيض فقال:
شافُونِي أكحَلْ مْغلَّـف ***** حسبو ما فيَّ ذخيرة
وأنا كالكتاب المؤلَّف ***** فيهْ منافعْ كـْـــــثيرة
فلا اللون ولا الشكل ولا المال في منظومة عبد الرحمن المجذوب هي من تصنع الشخصية الحكيمة، بل الحكمة مرتبطة بشروطها الموضوعية وهي معاينة الواقع والتجربة الفعلية، عبر الاحتكاك بالناس لحد الخبرة بأحوالهم، لهذا كان يشبه نفسه بالحَمَّام الذي يبنى على النار، حيث لا يرى دخانها من فوق، في حين أن الأحجار طابت من حرارتها فيقول :
مَثَّلْتْ رُوحِي مْثَلْ الحَمَّامْ ***** مَبْنِي عْلَى صَــهْد نــَارو
مَنْ فُوقْ ما بَانْ دُخَّــــانْ ***** ومَنْ تحْت طابو احْجَارو
*- عبد الرحمن المجذوب وعقدة الأنثى:
احتلت المرأة مجالا مهما في رباعيات المجذوب والروايات المحكية عنه بشأن غرائب النساء، والتصق هذا الجانب المهم في تشكيل رؤية الفرد المغربي لطرفه الآخر بهذا الشخص في الكثير من الأحيان، حيث لا يمكن أن ترى فردا إلا وفي ذهنه صورة من صور هذا الحكائي يحفظ له من رباعياته ما يواجه به خصمه المرتقب، ويغرس في هذه القاعدة الاجتماعية الذَّكَرية ما يمكن أن نسميه صراعا خفيا له تداعياته الخطيرة على البنية الأسرية والعلاقات الاجتماعية بشكل عام.
فعبد الرحمن المجذوب يوجه كل قارئ لرباعياته في ديوانه المشهور بالحذر من هذا الكائن المسمى بالمرأة لأنها سبب الفساد بين الأحباب إلى جانب المال:
يا اللِّي تْعَيَّطْ قُدَّامْ البــــابْ ***** عَـــيَّـطْ وكُـــنْ فــــاهَــــــمْ
ما يَفْسَدْ بِينْ الاحْبَـــــــابْ ***** غِيرْ النّْسَـاء والـــدّْرَاهَـــمْ
نْوَصِّيكْ يا حَارَثْ الحلفاء ***** بالك من دُخَّانْهَا لا يعْمِيـك
لا تْزَوَّجْ المرأة المعفونة ***** تتعاون هي والزمان عليك
هذا الحذر لم يأت من فراغ كما يريد أن يصوِّر لنا المجذوب، بل كان تكوينه مبنيا على تجربة طويلة تعرَّف فيها هذا الأخير على غرائب هذا الجنس، حتى استسلم لهذا المكر الملتصق بخلق الأنثى والذي يشكل قوتها الخفية:
بُهْتْ النّسَـــاء بُهْتـــــِينْ ***** مَنْ بُهْتْهُمْ جِيـــتْ هَــارَبْ
يْتْحَزْمُوا بالأفـــــاعــــي ***** ويتْخََلََّلُوا بالـــعــــقــــارب
كِيدْ النّْسَاء كِيدِيـــــــــنْ ***** ومَنْ كِيدْهُم يا حْــــزُونـي
راكْبَة على ظْهَرْ السّْبَعْ ***** وتقول الحَدَّايات ياكْلُونـي
إن قضية المرأة وصورتها في هذه الرباعيات تطرح الكثير من علامات الاستفهام حول كيفية تشكيلها ومضامينها خاصة وأنها تجسيد حقيقي للواقع المغربي، وكأن عبد الرحمن المجذوب استطاع من خلال هذه الكتابات الزجلية في القرن العاشر أن يخترق جدار الغيب، ليصور لنا نفسية الأنثى المغربية بأسلوب لا يحتاج الكثير من العناء ليعرف صدقه من بطلانه، فيكفي الواحد فينا أن يكلم أنثى أو يعاشرها أو يتزوج بها لتنساب كلمات المجذوب أمامه، وكأنها قراءة نفسية عميقة استطاعت أن تتجاوز حدود زمانها ومكانها، لتصبح من السنن المتحكمة في علاقة الرجل بالمرأة خاصة المغربية. لهذا كان رحمه الله يحذر حتى من الاستئناس بحديثها ورِقَّتِها، فوراء كل هذه المظاهر هناك السراب الذي شبهه بحلاقة الوجه دون الماء:
حْدِيثْ النّْسَـاء يْوَنَّـــسْ ***** وْ يْـــعَلَّمْ الفْهَــامَة
يْعَمْلُوا قْلاَدَة مَنْ الرِّيحْ ***** ويْحَسّْنُوا لِكْ بْلاَ مَا
أما ضحكاتها وابتساماتها فهي ليست إلا ضحكات خديعة سرعان ما تنقضي بانقضاء الحاجة والمصلحة:
مَنْ زِينْ النّْسَا بْضَحْكَاتْ ***** لُو كَانْ فيها يْــدُومُوا
الحُوتْ يْعُومْ فِي الْـــــمَا ***** و هُومَا بْلَا مَا يْعُومُوا
صورة عميقة يضعها المجذوب أمام كل فرد مغربي بحكم التجربة لا زالت تستحكم في زمام العلاقات الاجتماعية، فلا يخلو أي مجمع أو حفل من الحفلات من التفكه بهذه الأقوال التي يعتبرها الناس مصدرا للحكمة في تشكيل علاقة الحذر والحذر المضاد من الأنثى التي يعتبرها مصدرا لكل الشرور. ولن نبحث في خلفيات هذه الأقوال ومصادرها وتأثيراتها فربما يحتاج الأمر إلى بحث مستقل، بقدر ما نريد أن نؤكد على أن هذه الرباعيات عرفت ولا زالت تعرف إطارا مهما يندرج تحته الذكر المغربي سواء كان عاميا أو مثقفا أو عالما أو فقيها لا يستطيع أن يخرج عن قبضته إلا في حدود ضيقة. فالبحث عن خيرية المرأة حسب المجذوب وعفتها ووفائها هو البحث عن المستحيل في عالم المتناقضات عبَّر عنه بهذه الأبيات الرائعة:
لا فِي الجْبَلْ وادْ مَـــعْلُومْ ***** ولا فِي الشّْتاء ريحْ دافي
لا فِي العْدُو قلبْ مرحومْ ***** ولا في النّْساء عهْدْ وافي
عود على بدء:
إن صورة المرأة أو ما أسميناه عقدة الأنثى في فكر عبد الرحمن المجذوب، هي صورة نمطية استطاعت أن تؤطر الفرد المغربي بشكل سلبي اتجاه نظيرته المرأة، ولم يخرج عن هذا النسق الفكري من خلال هذه الرباعيات إلا استثناءات معينة. لم تأت هذه الصورة من فراغ ولم تفرض قوتها بفعل السلطة السياسية أو الدينية، ولكنها كانت تستمد قوتها من لغتها الحكائية الزجلية المغربية، وقدرتها على بلوغ شريحة مهمة من المجتمع المغربي من جهة، وتوافقها بشكل خطير مع بنية الأنثى المغربية بشكل لا يكاد تجد فيه تفاوتات بين كل هذه المستويات المشكلة لعقلية الأنثى المغربية من جهة أخرى.
سُوقْ النْسَا سُوقْ مَطْيَارْ ***** يَــا الدَّاخَـلْ رَدّْ بَالَـــكْ
يْوَرِيوْكْ مَنْ الرَّبْحْ قَنْطَارْ ***** وْيْدِيوْ لَكْ رَاسْ مَالَكْ