المرأة والازدراء المركب (3)



عبدالحكيم الفيتوري
2008 / 7 / 4

وأحسب أن هذا الاختلاف والاضطراب يعكس لنا مدى غلبة منطق تمجيد الأسانيد، وتقديس الذوات، والتمسك بالشكليات وقلب الأولويات، واعتماد الحروف دون المعاني والمقاصد. مع إهمال شبه تام للمقاصد الرسالية، وتحكيم القرآن في الرواية، وفتح باب النظر العقلي والاجتهاد والتجديد وفق قراءة القرآن قراءة سهمية تراعي السياق التاريخي، والنسيج الاجتماعي، باعتبار تغير الزمان، وتحول المكان، وحاجة الانسان. ويبدو إن عدم اعتماد القراءة القصدية السهمية،والتمييز بين مستوى الدال والمدلول في المفردات المنهجية كمفردة( الرسول،والنبي،ومحمد في القرآن )=( سنة،والحديث )=( تشريعي.قيادي،جبلي)، مع عدم اعتماد منهج نقد المتن وتقسيمه إلى مراتب وأنواع من خلال قراءته في سياقه التاريخي،ونسيجه الاجتماعي والثقافي، مع الأخذ في الاعتبار بأن بعض الأحاديث جاءت متأثرة بعناصر ثقافية سائدة، أو ربما لمعالجة حالة أو وضع اجتماعي معين، ثم فارقت هذه الأحاديث تلك الوقائع والحالات، وصارت أحاديث فارقها الوقع، أو واقعا فارق الأحاديث.

وأحسب أن عدم الأخذ بهذه المحاور المنهجية قادنا إلى فتح باب التقديس على مصرعية لمتون قيل عنها أنها صحيحة الاسناد، أو ثاوية في مدونات نالت شهرة وقداسة كادت تتجاوز مكانة القرآن في الحجة والاستدلال. ولعلنا لا نجانب الحقيقة حين القول أن الكثير من المشاكل والازمات التي تعاني منها الثقافة الدينية في الفكر الإسلامي سواء على صعيدها التنظير أو التطبيق هي من جراء غياب هذا المنهج وهذا الفهم القصدي السهمي لكليات القرآن.

ونموذح لهذه التقديسية بعدم اعتبار السياق التاريخي للمتن، والنسق الثقافي، والنسيج الاجتماعي، ما قاله ابن القيم في حديثه عن العقيقة وتبنيه مبدأ تفضيل الذكر على الأنثى في كل شيء، فقال: وهذه قاعدة الشريعة فإن الله سبحانه وتعالى فاضل بين الذكر والأنثى وجعل الأنثى على النصف من الذكر في المواريث والديات والشهادات والعتق والعقيقة كما رواه الترمذي وصححه من حديث أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرئ مسلم أعتق مسلما كان فكاكه من النار يجزئ كل عضو منه عضوا منه، وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزئ كل عضو منهما عضواً منه. وفي مسند الإمام أحمد من حديث مرة بن كعب السلمي عن النبي صلى الله عليه و سلم: أيما رجل أعتق رجلا مسلما كان فكاكه من النار يجزئ بكل عضو من أعضائه عضوا من أعضائه، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار يجزئ بكل عضو من أعضائها عضواً من أعضائها. رواه أبو داود في السنن، فجرت المفاضلة في العقيقة هذا المجرى ولو لم يكن فيها سنة كيف والسنن الثابتة صريحة بالتفضيل).(15)

وبكلمة أخرى لو كانت تلك الاعتبارات المنهجية-سالفة الذكر-حاضرة في ذهن ابن القيم لما وسعه إلا أن يقول ما قاله ابن الشيباني وما ذهب إليه قبله ابن عمر وابن الزبير وفاطمة وغيرهم مع عدم التمييز والتفريق بين الذكر والانثى. ولكن أن يصر على قوله( فجرت المفاضلة في العقيقة هذا المجرى ولو لم يكن فيها سنة كيف والسنن الثابتة صريحة بالتفضيل)!! مما يشير إلى غياب تمام لمنهج اعتبار أجواء وحيثيات وسياقات ورود المتن عند الكثير من علماء السلف.

والمؤسف أننا ليس أمام زلة أو فلتة عابرة وإنما حيال مشكل منهجي متأصل في بنية الفكر الإسلامي، وغياب تام عن اعتبار كامل لتلك المنهجية في فهم النصوص. فهذا ابن حزم في كتابه الإحكام، لم يجد حرجا من التعاطي مع أحاديث العقيقة وتفضيل الذكر على الانثى بالمنهج التأويلي الكلاسيكي، ويصل إلى ذات النتائج؛ بل وأكثر غرابة في حكمها التكليفي، على الرغم من ثبوت رواية مساواة الذكر بالانثي في العقيقة لديه، كما جاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم، عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا.رواية أن فاطمة بنت الرسول عقت عن الحسن والحسين شاة شاة. حيث ذهب ابن حزم بمنهج تقديسي تأويلي ظريف عندما ذكر عن جعفر بن محمد بن علي بن الـحسـين عن أبيه عن جـده: أن فاطمة بنت رسول الله عقت عن الحسن والـحسـين حـين ولدتهما شاة شاة. ثم قال ابن حزم:لا شك في أن الذي عقت به فاطمة رضي الله عنها هو غير الذي عق به رسول الله، فاجتمع من هذين الخبرين أنه صلى الله عليه و سلم عق عن كل واحد منهما بكبش، وعقت فاطمة عن كل واحد منهما بشاة، فحصل عن كل واحد منهما كبش وشاة كبش وشاة !!(16)

كذلك قال الصنعاني بذات المنطق:يجوز أنه صلى الله عليه و سلم ذبح عن الذكر كبشا لبيان أنه يجزئ، وذبح الإثنين مستحب. ومنهم من أوغل في تحقير الأنثى بمنطق توراتي لدرجة لم يعتبر لها عقيقة ولا كرامة، ومن هؤلاء صاحب المقولة المشهورة(الاسناد من الدين) محمد ابن سيرين كما حكاه ابن حزم قال: عن محمد بن سيرين،وأبي وائل شقيق بن سلمة، حيث نقل ابن حزم عن ابن سيرين أنه كان لا يرى على الجارية عقيقة وعن أبي وائل قال : لا يعق عن الجارية ولا كرامة.(17)وذكر ابن أبي شيبة عن الحسن ومحمد أنهما كانا لا يريان على الجارية عقيقة(18)

وهكذا ساهمت المنهجية الاسنادية والحذفية؛حذف اعتبارات اجواء ورود النص ومقاصده، بقدر كبير في تشويه صور المرأة في القرآن، فضلا عن تشويه المخيال الإسلامي، ولم يقتصر الأمر على المخيال الإسلام بل تجاوز ذلك إلى المجتمعات الانسانية الأخرى التي قدمت لها صورة المرأة المسلمة في ثوب تحقيري بطريق الرواية والاسانيد حيث يظهر فيه الرجل أفضل منها في كل شيء وذلك منذ ولدتها(في العقيقة)، مرورا بمرحلة طفولتها(بولها ليس كبول الذكر)،وأطوار رشدها فيها( ناقصة عقل ودين)، وانتهاء بإدارتها وتحمل المسؤولية(لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) !!

لا ريب أنه كان في مقدور منهجية الإسناد والحذف أن تأخذ بعقلانية أبي حنيفة ومن له رأي منطقي، وبتأويلية محمد بن الحسن الشيباني التي توافق سهمية مقاصد القرآن، ومنهجية اعتبار سياقات النصوص وفهم أسباب وأجواء ورودها، فقد جاء عنهما: أما العقيقة فبلغنا أنها كانت في الجاهلية وقد فعلت في أول الإسلام ثم نسخ الأضحى كل ذبح كان قبله. وقال الخوارزمي الكرلاني: كان في الجاهلية ذبائح يذبحونها منها العقيقة ومنها الرجبية...وكلها منسوخ بالأضحية. قال التهانوي:نص الروايات ظاهر في أن مذهب أبي حنيفة هو أن العقيقة منسوخة وغير مشروعة.أ.هـ وجاء تأكيد هذا المذهب عنهما على لسان مخالفيهما، فقد قال ابن المنذر: أنكر اصحاب الرأي أن تكون سنة. وقال ابن حجر: وادعى محمد بن الحسن نسخها بحديث نسخ الأضحى كل ذبح.أخرجه الدار قطني.(19)

فبدلا من قبول هذه المنهجية المقاصدية لقيم الوحي، وسهمية معالجات الرسول باعتبار مراحل تأسيس المجتمع الوليد، وأطوار سنن التدرج والتحول البشري الطبيعي. تخندق أصحاب منهجية الاسناد والحذف لمحاربة هذه المنهجية بالاسلحة المتاحة لهم، فقد قال ابن قدامة الحنابلي: وجعلها أبو حنيفة من أمر الجاهلية-أي العقيقة-، وذلك لقلة علمه ومعرفته بالأخبار. أم ابن حزم الظاهري فقال: ولم يعرف أبو حنيفة العقيقة فكان ماذا ؟ ليت شعري إذ لم يعرفها أبو حنيفة ما هذا بنكرة فطالما لم يعرف السنن!!(20)

وماذا عليها لو أخذت المنهجية الاسنادية الحذفية برأي سلفي وسط في العقيقة ينزع إلى المساواة بين الذكر والأنثي كرأي ابن عمر، واسماء، عبدالرحمن بن القاسم، وابن الزبير، وأبو جعفر، والزهري،ومالك وغير من التابعين، فقد قالوا:هما سواء،يعق عن الغلام والجارية شاة(21).ولكن أن تستبدل المنهجية القصدية لقيم الوحي، والقراءة السهمية في معالجات رسول الله لمجتمعه الوليد، بقراءة عكسية صوب أعراف جاهلية ورؤى توراتية منحرفة جاءت رسالة الإسلام الانسانية لتعديل إعوجاجها وتقويمها. كما ذهب إلى تلك الرؤى الجاهلية والتوراتية بعض حفاظ السلف ومنظري الرؤية الاسنادية كابن سيرين القائل:الاسناد من الدين. فقد حكى ابن حزم عن الحسن البصري أنه قال: يعق عن الغلام ولا يعق عن الجارية، ومن طريق ابن أبي شيبة، قال سهل:عن عمرو عن محمد بن سيرين: أنه كان لا يرى على الجارية عقيقة .وعن أبي وائل وهو شقيق بن سلمه، قال: لا يعق عن الجارية ولا كرامة !!(22)

يتبع