واقعة سلوكية ودلالة



فاديا سعد
2008 / 9 / 24

من طرائف تعاملي مع الإنترنت أني واجهت أسماء التبست عليّ هويتها الجنسية، خاصة حين لم ألجأ لعملية بحث عن صاحب الاسم لأزيل هذا الالتباس كما أفعل دائماً قبل الرد أو التعليق، كاسم سلام مثلاً، ففي بيئتنا يطلق هذا الاسم على جنس الإناث، وهكذا أخذت راحتي في الاستفاضة بالتعبير عن اللحظة من غير أن أسبق التعليق بلقب أستاذ أو سيد.



إن هذا المطب جعل من الأمر وكأني أقوم بعملية غزل معلنة تجعل الأمر في حده الأدنى، قلة أدب وفي حده الأعلى عهر، و رغم أني من أنصار الوضوح في مثل هكذا حالات، فالغزل المعلن أفضل من المخفي لو كنت أريد ذلك ولو كان شرطي الاجتماعي يسمح بذلك، أقول رغم ذلك فأنا لا أريد أن أتوقف هنا، فالالتباس فتح باب التساؤل على مصراعيه:

- لماذا أخذت مجدي في الرد على شخص سلام من غير حواجز حين اعتقدت أن الاسم لأنثى وليس لذكر؟

- أي منظومة ثقافية استندت عليها وجعلتني أبث مشاعري بأريحية فقط لكون من أتحدث معه من الجنس الذي أنتمي إليه، بينما كنت سأضع حاجزاً تلو الآخر فيما لو كان متحدثي من الجنس الآخر؟



في المجتمعات المحافظة كالتي لدينا يوجد منظومة ثقافية خاصة جداً بين المرأة والرجل يقوم بتداولها العوام والخواص. الفقراء والأغنياء. أولاد الست وأولاد الخدم. المتعلمون والجهلاء، مع فوارق صغيرة تفرضها المظاهر والبريستيجات الاجتماعية، فالرجل في ذهن المرأة هو مصدر لمخاوف عديدة منها:

- التلاعب بعواطفها.

- عدم الأمان المشهور به شهريار في قصصنا الشعبية.

- تجارب التخلي عن المرأة في المرض والشيخوخة والغنى.



بينما المرأة في ذهن الولد هي:

- هي من أنزلته من الجنة

- أفعى تتحايل عليه وتكسب وده لأهداف لا يعلمها.

- قيمتها في شكلها، وتنجر بسهولة للتفاهات.



إذا: إن العلاقة بين الذكر والأنثى في أصل الحكاية، قائمة على أرضية رأي عام قوامه الخيانة، وعدم الثقة، والنتيجة النهائية: علاقة متوترة، ومتشنجة تأخذ أشكالاً واضحة حينا، كاللجوء إلى العنف، أو مضمرة تأخذ تشكيلات نفسية، تتبدى في سلوكيات بسيطة من حيث الظاهر كما حصل معي، بينما لها مدلولها لمن أراد التعمق.



وإذا كان ليس جديداً أن الخيانة وعدم الثقة هي مفاهيم تغذت على الأساطير، كأساطيرنا حول آدم وحواء، فغريب الأمر أن يستمر التوتر، والتشنج كما اليوم كما البارحة كما منذ آلاف السنين، وكأن المسافة الزمنية بين آلاف سنين مضت واليوم لا يستغرق أكثر من ملامسة البنصر والخنصر في اليد الواحدة، بحيث لم تفلح الكتب التعليمية الحديثة من تخفيف وطأتها.



لقد فرضت تلك الأساطير وإيقاع تطورها الرتيب بسبب الإيقاع الرتيب لتطور مجتمعاتنا ذاتها قواعد سلوك رادعة ومتحفظة جداً، لأي تجاوز ترى فيه قلة أدب في حده الأدنى و عهر في حده الأقصى.



إن أحد مظاهر تلك القواعد عند المسلمين هو الفصل بين الذكر والأنثى في الحارة والمدرسة، يتوسع هذا الفصل في دول عربية إسلامية إلى الجامعة لتصل إلى دوائر العمل ثم الأفراح والأعراس، أما عند المسيحيين فيتجلى بحجاب نفسي أشكاله غير ظاهرة للعيان، لكنه يعتمد نفس القاعدة في الفصل، وهذا يعني أن علاقة التوتر بين الجنسين هي ثقافة مجتمع لا تخص دين دون آخر ولا مذهب معين عن آخر لكنه يختلف بمظاهره.



في مسلسل: "ضيعة ضايعة" جرى الحوار بين زوجة المختار وابنته بهذه الطريقة: تقول البنت لأمها:

- شو بعملك إذا كان بيحبني؟

- شو بتعملي؟! عم تضحكيلو!!

- شو اعبسلو يعني؟!

- لك ضحكي للنسوان. قلة نسوان بالضيعة تضحكيلون؟!



لقد أصاب هذا الحوار كبد الحقيقة الثقافية لمجتمعاتنا، فإذا كانت عملية الفصل بين الجنسين العيانية، واضحة إلا أن الأخطر من ذلك توجيه كل من سلوك الأنثى أو الذكر لأن يكونا أكثر أريحية وفضفضة عن مشاعرهما كل منهما مع جنسه.



إن هذا التوجيه إذا افترضنا أنه توجه عام وهو كذلك، فهو يخلق مشكلتين منفصلتين متصلتين:

- هذه الأريحية التي هي مقبولة في فترة معينة من نمو البنت والولد، تصبح مشكلة قائمة بذاتها حين تطبق ضمن الإطار الزوجي.



- المشكلة الثانية أن هذه الأريحية تصل حد التجربة الجسدية ويتم بداية بأشكال بسيطة وساذجة لكنها تودي إلى نتائج غير بريئة، وغير صحية.



لقد كان وما يزال الهدف من توجيه سلوكي الفتى والفتاة بهذه الطريقة هو الحصول على السلامة من مشاكل الحب والتعلق الجسدي بين الجنسين، كي لا يتحمل المجتمع أعباء ما ينتج عن ذلك من مشاكل: كأطفال غير شرعيين وفقدان الطهارة الجسدية.



إن هاتين المتلازمتين –أطفال غير شرعيين وطهارة جسدية- يؤكد عليهما الرأي العام في المجتمع المحافظ، ويرفعهما إلى مستوى التقديس على حساب مفاهيم أخرى كالسلوك القويم في العمل وعدم النفاق والسرقة والجشع أو قتل الأنفس من غير وجه حق، وما يندرج من تحت كل ذلك من سلوكيات مهينة للإنسان.



إن المجتمع ضمن هذه المواصفات هو إعلان ضمني عن عجزه في إيجاد مواصفات واقعية خلاقة للرجل والمرأة السويين، وإنه أكثر من ذلك: إعلان صفيق عن عجزه بإيجاد حلول حقيقية إنسانية لمشاكل البشر داخله، ولذلك فإن استمرار يته قائمة على الاختباء وراء اختلاق مشاكل سطحية كالاختلاف على شكل الثياب: الامتعاض من الجنز مرة ومن الثياب القصيرة مرة أخرى. من الاستماع إلى الموسيقى حيناً، ومن الرسم والفن والنحت أحياناً جديدة. من الأدب والصحافة تارة ومن مديري الفضائيات تارة،.



وهذا كله يتم بالمحاسبة على النيات كما حصل لعدد من الشبان السعوديين السبعة والخمسون، حين تم إلقاء القبض عليهم في مركز التسوق لأنهم حسب التصريحات كانوا يرقصون ويستمعون إلى موسيقى صاخبة بقصد اجتذاب الفتيات من غير أن يقتربوا منهن!! ولن نفاجأ في أحد الأيام إن ازدادت مساحة الممنوعات إلى: التلصص على الخوخ والتين، أو الاجتماع بالزهر، أو لمس الورد وشمه، أو وضعها في مزهرية!!



وإنه يكفي بعض التحريض على الأقنية الفضائية واتهامها بنشر الفجور حتى يروح ضحية تلك الاتهامات طاقم إعلامي يهتم بالفقراء ومشاكلهم ويقدموا الإفطار على حسابهم، كي يستمر مسلسل الزيف، والآراء الراسخة في الفجر والمجون المذهبي والعنصري.



واستعراض بسيط لجرائم الشرف، أو العودة قليلاً للوراء لمشاهدة الفلم المتناقل حول مقتل الفتاة اليزيدية التي أحبت من غير ملتها لنعرف حجم الخوف الذي يقف على يميننا والرغبات الملحة التي تقف على يسارنا ، وحجم القمع والردع التي فوقنا وتحتنا مفروضة على سلوكنا كي نعرف بأي مأزق نحن.



إذاً نحن نتكئ على إرث ثقافي مخيف في مجال التعبير العلني عن مشاعرنا الإنسانية أمام الجنس الآخر، لأنه يخالف ثقافة عامة قامعة رادعة لاديمقراطية، ولذلك فإن الحديث عن الفصل الجهاري والنفسي، و توجيه مزاج الولد نحو الأولاد، ومزاج البنت نحو البنات، هو سياسة مدروسة وتحظى على موافقة عامة تبدأ من المحافظين في مراكز السلطة وحتى عوام الناس وتشمل شرائح ثقافية واسعة تدّعي الدفاع عن الحقوق الإنسانية، وعن الدين الصحيح.



لكني وشخصياً أيضاً أعتقد: لو أن المجتمع العربي خيّر بين العلاقة الصحية التي تنشأ بين الذكر والأنثى مع تحمل مسؤولية ما ينجم عنها من أخطاء بشرية وفق حلول إنسانية، وبين العلاقات الغير صحية مع بقاء هذا التلميع الكاذب، فسيختار الثانية لأن الثانية تمنحه حق إدانة المجتمعات الأخرى بمشاكلهم: انظروا إليهم: عهر وفسق ومجون ومثلية!!، والخيار الثاني يعطي مجتمعاتنا الأمان بإصدار صك مختوم ختماً رسمياً، بأننا ما نزال الأفضل بين الأمم، وهذا ما يمنح الجهات الرسمية وغير الرسمية الحق بتزويق الحقائق وتزييفها، والتغني ليل نهار بطهارة مجتمعاتنا، وقلة مشاكلها الاجتماعية.



لكن الحقيقة الساطعة كالشمس أن: توجيه الأمزجة نحو التماثل الجنسي، يخالف مزاج الطبيعة الأصلي بين الذكر والأنثى التي تتوالد من تفاعلهما الحياة و تضمن استمراريتها، وهو الفرق بين أن يولد الإنسان من رحم امرأة وبين أن يولد بالاستنساخ ففي الأول يولد معه الإرث الجمعي للبشرية، وفي الثاني يولد كأنه الإنسان الأول. على الأقل هذا اعتقادي.



على الأقل بشكل واع ليس لدي ميول مثلية، وبما أني ابنة هذا المجتمع فعليّ الاعتراف بأن ثقافته المنافقة حملتني على الرد على معلقي مواضيعي بطرق تماثل نفاقه حين يكون متحدثي أنثى ويختلف مائة وثمانون درجة حين يكون رجلاً لكنه وفي كل الأحوال يتوافق معه في التشجيع على المثلية!!.



إن الخيار الثاني هو الصورة طبق الأصل لسلوك الأقنان والعبيد، الذي يدفع نحو الابتذال في الحب وفي التعبير عن المشاعر الطيبة نحو الجنس الآخر لاختلاطها ببعضها البعض في ظل إطار ممنهج عام قامع رادع يدفع ومندفع نحو السلوك الغير صحي.



لقد أثبت تاريخ البشرية إن المشاعر الإنسانية تتقلص باطراد مع ازدياد اللارحابة فإذا كانت مقولة أن: الحب لا يعيش في ظل الخوف صحيحة، فإن نقل المشاعر الطيبة أيضاً تتقلص في ظل ثقافة الخوف والقمع، مع ذلك فإن نمط التفكير العلماني يمنحك الفرصة لتوسيع مساحة السؤال حول الخطأ الذي ترتكبه بوعي أو غير وعي، ولكن ماذا بعد السؤال والاستنتاج بصحة أو خطأ موقفك؟ ماذا لو أن كل فرد فينا يريد العيش وفق تصوره الشخصي عن تكوينه المتفرد عن الآخرين وسط هذه الزوبعة من الذائقة الثقافية العامة للجمهور –لا أتحدث عن الاستهلاك والابتذال- ويصنع الصورة التي تناسبه هو لا الآخرين كي يبحث عن شريكه/ته الحقيقي/ية في الصداقة والزمالة والحب؟ ماذا لو اصطدمت الإرادة الذاتية مع الإرادة العامة في التعبير عن المشاعر –وأؤكد الغير استهلاكية؟



بما أن التجاذب قوي ما بين نزعتين:

واحدة: ترغمنا على التعبير عن ذواتنا وبما نفكر ونتصرف بأريحية..

ونزعة أخرى: تستند على كتلة هائلة من الحرام والحلال والعقاب تقف عائقاً دون المجازفة، فإننا نلجأ إلى عملية تحايل نعتمد من خلالها طريقاً ثالثاً:

العيش وفق الصورة التي نريدها لكن بسرية تامة تمنحنا الأمان الاجتماعي وتبعد عنا مبدأ العقاب.



وإن هذا الطريق الثالث هو خيار السواد الأعظم من الناس، وهو في حقيقته يلتقي، ومبدأ العبيد والأقنان: أي الازدواجية القائمة على كل ما يجزأ الشخصية. أي المجاهرة بأمر وإخفاء أمر.



إن نظرة بسيطة للخطاب الديني في مجتمعاتنا سنلمس أن هناك معلن يقال للأديان الأخرى وجانب سري يتداول بين أبناء الدين الواحد، ثم خطاب موجه لأبناء الدين الواحد وآخر مخفي ومتداول بين أبناء المذهب الواحد.

نظرة بسيطة أيضاً للأحزاب السياسية نلمس مجاهرة في جوانب وسياسة مضمرة تتداول بين أبناء الفصيل الحزبي الواحد.



إن الآراء الراسخة والمكابرة والمتشنجة ما هي إلا إحدى أهم الصفات التي تسم المجتمعات التقليدية المحافظة التي تضع تحت كلمة المرونة في التفكير خطوطاً حمراء، ولذلك ستبقى الفتاوى كموضة صحراوية طويلة الأمد يتم فيها الاستعراض أمام السماء بأن حامو حمى الدين والأخلاق ينفذون التعاليم السماوية نيابة عن الله في الأرض، وستبقى الشعوب تتمخض عن مفكرين وكتاب وإعلاميين وروائيين ومبدعين يفقئون عين الزيف والكذب.