سرٌ وراء الحجاب - الصادق النيهوم



عاصم بدرالدين
2008 / 11 / 16

ما يُكسب هذا النص أهميته، أنه يعمل على استقصاء تكون فكرة الحجاب من جذورها، مستعيداً، وفاضحاً، معناه التاريخي. فمشكلة الحجاب –كما يعرضها الكاتب- ليست بكونه فكرة يهودية خالصة، إنما في القيمة التي يسعى الفقيه المسلم، ومعلمه العبراني من قبله، إلى البساها للمرأة بوجودها الجسدي والمعنوي.
تماماً هذا هو السر الذي يخفيه الحجاب خلفه. فيجعل من المرأة عاراً، وجسداً نجساً يجب ستره. على هذا يبدأ مسار "تحرير المرأة" من فك الرموز والأحجيات التي تحوم حول وجودها، لنصل بعد ذاك إلى "المرأة الجديدة" التي يحدثنا عنها الراحل المصري قاسم أمين. فهي وحدها، في يدها، ولأنها أصل التربية والتنشئة، تقدر على رفع "الأمة" من زاوية التاريخ إلى قمته. لذا يجب أن تكون حرة.. ومن الحجاب أولاً.
ولقائل، وقائلة، مدافعين عن الحجاب، أن يقولا بأن ارتدائه يندرج في خانة الحقوق والحريات الشخصية. وإذ نوافق مبدئياً على هذا التوصيف، إلا أننا نرد، بأنه، بكيانه المادي ورمزيته المعنوية بعيد كل البعد عن مفاهيم الحرية. وهذا هو الأصل التاريخي شاهدٌ على ما نقول.
أخيراً، يبقى سلاح "القناعة" (هو فعل عقلي كما نفترض!) الذي تحمله المحجبات، مشهراً في وجهنا. فهن مقتنعات ومرتاحات لحالهن، وهذا شيء إيجابي منطقياً. لكن عندما نغوص في واقعهن، ونسألهن عن سبب ارتدائه، لا يجدن إجابة واحدة للبوح بها... سوى "أن الله يحب المحجبات". ساعتذاك يضيع العقل بين "وجود"(؟!) الله الماورائي، وطبيعية الجسد المادية، وضبابية اللامعنى في الحب! إن الحجاب، حقاً، فكرة فظيعة إلى هذا الحد.

ع.ب.
------

سر وراء الحجاب

الصادق النيهوم


عندما تحتجب المرأة المسلمة، آملة أن تفوز برضاء الوعاظ، فإنها في الواقع، لا تلبس عباءة فقط، بل "تتقمص" شخصية مستحيلة، أول مفاجأة فيها، أنها شخصية لم يخلقها الله.

فحجاب المرأة -مثل ختان الذكر- فكرة محلية جداً، لم يعرفها أحد سوى سكان الصحراء في العالم القديم، ولم يكن يحتاج إليها أحد سواهم، لأنها ليست فريضة دينية حقاً، بل مجرد إجراء وقائي لمكافحة العدوى، لجأت إليه شعوب الصحراء، بسبب ندرة الماء بالذات. وقد تحدد هذا الإجراء في ختان الذكر، لمنع تلوث الغرلة، وعزل المرأة في الحجر الصحي، خلال فترات الطمث والولادة. وهو إجراء طبي حكيم، نجح في حصر أمراض تناسلية فتاكة، كان من شأنها أن تزيد من أخطار الحياة في الصحراء. لكنه ليس إجراء دينياً، ولم يصبح فريضة لها علاقة بالدين، إلا على يد اليهود، خلال الألف الثانية قبل الميلاد.

إذ ذاك، كان الكاهن العبراني الذي خرج وراء قطعانه من صحراء شبه الجزيرة، قد تطور في معابد مصر، من ساحر بدوي، يقاتل ملوك الجن بالتعاويذ، إلى "كاهن" في بدلة رسمية، يتكلم باسم الله نفسه. وقد عاد، فسجل تراث العبرانيين من أوله في ضوء هذا الموقع الجديد، حتى أصبح تاريخ اليهود، هو تاريخ الحياة بأسرها، وأصبحت عاداتهم الصحراوية فرائض دينية كونية، وتحول عزل المرأة خلال فترات الطمث والولادة، من فكرة بدوية نافعة إلى وصية سماوية في كتاب مقدس.

ميزة كل كتاب مقدس، أن معلوماته تصبح تلقائياً غير قابلة للجدل. وهي ميزة مفيدة -فقط- إذا كانت المعلومات نفسها حقائق نهائية. أما إذا كانت هذه المعلومات، مجرد صياغة فصيحة لأفكار مجتمع العبرانيين، فإن "الكتاب المقدس"، يتحول بالتدريج إلى كارثة ثقافية. وقد شاءت التوراة أن تعالج موضوع الطمث بمعلومات ساحر أميّ لم يكن يعرف أن الأمراض تنتج عن الجراثيم، بل كان يعتقد أن المرض "عقاب" للمريض على خطاياه. وقد أعتبر طمث امرأة، عقاباً إلهياً من هذا النوع، وسمّاه "نجاسة"، واختار أن يعالجه في سفر اللاويين، تخت خانة تضم أمراضاً معدية مثل الجدري والسيلان. إن اعتبار الطمث مرضاً معدياً، هو السر الكامن وراء عزل المرأة بوصية "إلهية".

ففي ظروف العالم القديم، كان علاج المصاب بمرض معد، هو عزله في الحجر الصحي، ومنعه من ارتياد الأماكن العامة. وقد اختار الكاهن العبراني هذه الوصفة لعلاج المرأة "المريضة"، مصراً على أن الطمث مرض في حد ذاته. فأمر بعزلها سبعة أيام كل شهر "حتى تتطهر من دمها". وأمر بعزلها أربعين يوماً إذا أنجبت ولداً ذكراً. ورفع مدة العزل إلى ثمانيين يوماً، إذا أنجبت أنثى مثلها. وفي نهاية المطاف، كان الكاهن قد حبس المرأة في بيتها أغلب أيام السنة، وكانت التوراة قد جعلت الحجر الصحي فريضة دينية. إن قرار القبض على السجينة يوقعه رب شخصياً: {وكلم الرب موسى قائلاً.. إذا حبلت امرأة، وولدت ذكراً، تكون نجسة سبعة أيام، كما في أيام طمث علتها، تكون نجسة.. ثم تقيم ثلاثة وثلاثين يوماً في دم تطهيرها. كل شيء مقدس لا تمس. وإلى المقدس لا تجيء. وإن ولدت أنثى، تكون نجسة أسبوعين، كما في طمثها، ثم تقيم ستة وستين يوماً، في دم تطهيرها..}

بعد قضاء عقوبة العزل، كان على المرأة أن تقدم قرباناً إلى الكاهن لكي تستكمل طهارتها.
وقد تعمدت التوراة أن تشرح هذه الوصية الطارئة بالتفصيل: {ومتى كملت أيام تطهيرها.. تأتي بخروف وفرخ حمامة -أو يمامة- ذبيحة خطية إلى الكاهن، فيقدمها أمام الرب، ويكفر عنها..}.

هذه الوصية بشأن الخروف والحمامة، لم تكن إجراء طبياً له علاقة بموضوع الطمث، بل كانت خطة تربوية مكتوبة بلغة السحرة، هدفها أن "تعلم" المرأة والرجل معاً، أن الطمث ليس ظاهرة طبيعية، بل لعنة ربانية متعمدة، أحاقت بالمرأة من دون سواها. وهو زعم عدائي سافر، اختارت التوراة أن تشرحه "علمياً" بأسطورتين:

الأولى: أسطورة تعلن أن المرأة نفسها، مجرد مخلوق جانبي، صنعه الرب من ضلع آدم. وهي ترجمة سحرية لحكمة تريد أن تقول: "مكان المرأة إلى جانب الرجل".
الثانية: أسطورة تعلن أن حواء هي التي أعطت آدم "ثمرة محرمة"، وتسببت في طردهما من الجنة. وهي طريقة الساحر في القول بأن النشاط الجنسي، خلال فترات الطمث، مميت للمرأة والرجل معاً.

من هاتين الأسطورتين، استمدت التوراة نظريتها الشهيرة عن {المرأة الملعونة ربانياً}، وأثبتت نص اللعن نفسها على لسان الرب الذي قال للمرأة متوعداً: {تكثيراً أكثر أتعاب حملك، بالوجع تلدين أولاداً...}. وبذلك خرج موضوع الطمث من خانة التلوث والمرض، إلى خانة النجاسة واللعنة، وتحولت اللغة نفسها، من وسيلة للشرح والتفاهم، إلى سلاح إلهي في أيدي السحرة.

في ظروف خرافية إلى هذا الحد، كان من المتوقع أن يرتكب الكهنة خطأ بديهياً ومكشوفاً جداً. فقد نسوا أن المرأة {التي لعنها الرب}، تولد أولاً طفلة بريئة، وتموت بعد ذلك عجوزاً بريئة، وأن الرب لا يلعن الأطفال والعجائز من النساء، ولا يوصي بعزلهن، ولا يقول إن أجسادهن غير طاهرة، مما أربك نظرية لعن المرأة من أساسها، وجعل شريعة العزل، قاصرة -فقط- على المرأة {التي تحبل وتلد}. لهذا السبب، لم يصبح الحجاب فريضة على الطفلة والعجوز، بل اقتصر على المرأة التي تعيش سنوات الطمث.

خلال وقت قصير، كان عزل المرأة بوصية سحرية، قد أحالها إلى {حرم} مسحور، لا يحل لأحد أن يراه سوى الأقارب. وكانت أجيال اليهود قد تعلمت من الكهنة أن مجرد النظر إلى جسد المرأة خطيئة كبيرة في عين الرب. وقد استجابت المرأة لهذا الموقف "الديني"، بأن لزمت بيتها، متعمدة أن لا تخرج للناس، إلا داخل عباءة، تغطي جسدها، من الرأس إلى القدم، لكي لا يضطر يهودي ورع واحد إلى ارتكاب معصية. وهو حل باركه الكهنة بحماسة ظاهرة في جميع العصور، وما زالوا يباركونه بالحماسة نفسها حتى الآن، لكنه حل سحري بحت، ولا علاقة له بالدين.

فعزل المرأة فكرة لا تدخل لغة الدين أصلاً، إلا في مجتمع يتكلم لغة التوراة، ويؤمن شرعاً بأن الله قد لعن المرأة بالحمل والولادة، وجعل طمثها نجاسة، وأوصى بعزلها في الإصحاح الثاني عشر من سفر اللاويين. أما من دون التوراة، فإن أحداً لا يستطيع أن يفسر للمرأة دينياً، لماذا يريدها الله أن تلبس عباءة.

فالقرآن لا يساند مثل هذه الدعوة، ولا يوافق على نظرية المرأة الملعونة من أساسها. وقد أعاد صياغة التوراة لقصة الخلق، متعمداً أن يحذف منها جميع المقدمات التي وردت في الأصل العبراني لتبرير نظرية اللعنة دينياً، فأسقط قول التوراة، إن الله خلق حواء من ضلع آدم، وأسقط قولها إن المرأة قد أغوت آدم بالثمرة المحرمة، وأبطل وصية القربان، ورفض علاقة الكهنة بمفهوم الطهارة، وأعاد معاجلة موضوع الطمث بلغته الأصلية في مجال الطب الوقائي: فبالنسبة للطمث، لم يأمر القرآن بعزل المرأة في الحجر الصحي، بل أمر الرجل باعتزالها في الفراش فقط: {فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن} سورة (البقرة: 222).

وبالنسبة لاستكمال الطهارة، ألغى القرآن شريعة تقديم القرابين، وأنهى بذلك وصاية الكهنة على جسد المرأة والرجل معاً. فأصبحت الطهارة هي النظافة، وتحررت الكلمة النافعة، من معناها الأجوف في قاموس السحرة، وصارت وصية عملية لالتماس الطهارة في الغسل بالماء: {وإن كنتم جنباً، فاطهروا} سورة (المائدة:6).

إن القرآن لا يعتمد وصية التوراة بعزل المرأة، ولا يعتبرها وصية دينية، ولا يمكن تطويعه لاحتواء فريضة الحجاب، لأنه يرفض مصدرها الأسطوري من أساسه. وإذا كان الحجاب قد أصبح الآن فريضة إسلامية، يدعو لها الوعاظ علناً باسم الإسلام، فإن هذه الدعوة ليس مصدرها النص القرآني، بل مصدرها الواعظ المسلم يتكلم لغة عبرانية من دون أن يدري.

فمنذ مطلع القرن الهجري الأول، كان الفقه الإسلامي يتلقى علومه بحماسة كبيرة في مدرسة التوراة، وكان موضوع الطمث قد أعيد إلى خانة {النجاسة} من جديد، فتحولت المرأة المسلمة خلال فترة الطمث إلى امرأة {غير طاهرة} مرة أخرى. وعمد الفقهاء إلى إبطال صلاتها وصيامها طوال أيام المحيض في فتوى، لا تستند إلى نص القرآن، بل تستند إلى قول التوراة: {كل شيء مقدس لا تمس. وإلى المقدس لا تجيء}.

وفي ظروف هذا الانقلاب العبراني على لغة القرآن، قامت القيامة سراً، وبعث عالم التوراة حياً في واقع المسلمين. فأصبح عزل المرأة المسلمة، فريضة في أصل الشريعة، وتحول المرأة نفسها إلى {حرم} لا يراه سوى الأقارب، وصار النظر إلى جسدها خطيئة، وتصاعدت هذه الحرب السماوية ضد المرأة إلى حد جعل مجرد لمس يدها {نجاسة} تنقض الوضوء.

في هذه المرة أيضاً، كان من الواضح، أن شريعة عزل المرأة، لا تسري على الطفلة والعجوز، لأنها ليست شريعة لعزل المرأة، بل لعزل أمراض الطمث، وأن المشكلة من أساسها، مشكلة طبية لا علاقة لها بالدين. لكن الواعظ المسلم لم يشأ أن يلاحظ هذه الثغرة الواسعة في نهجه السحري. وقد اختار أن يتكلم باسم الله نفسه، كما فعل معلمه العبراني القديم، واختار أن يلعب بالنار في عالم لا يعرفه.

فحجاب المرأة ليس شريعة من أي نوع، بل منهجاً تربوياً مكتوباً بلغة السحرة. قاعدته النظرية أن {المرأة مخلوق نجس}، وقاعدته العملية أن يقنع المرأة نفسها بقبول هذه الشخصية. وهي كارثة تحققها فكرة الحجاب على ثلاث مراحل رئيسية:

في المرحلة الأولى، تتعلم الطفلة أن أقوال السحرة نصوص مقدسة، وأن السحرة يقولون إن الطمث نجاسة، يلزم عزلها.

في المرحلة الثانية، تكبر الطفلة، لكي تصير شابة وتتعلم أنها شخصياً قد أصبحت نجسة، وبات عليها أن تدخل في الحجاب.

في المرحلة الثالثة، تكتشف المرأة المحجبة أن الحياة وراء الحجاب مجرد نوع من الموت العلني، في عالم خاو، ومفرغ عملياً من معنى الحياة. وهو اكتشاف لا تستطيع المرأة أن تواجه أبعاده بأي قدر من النجاح، إلا إذا عبرت الخط الفاصل، وماتت سراً من دون أن تدري. إن الحجاب فكرة فظيعة إلى هذا الحد.

فالمرأة المحجبة، لا تخفي نفسها كالطفل داخل عباءة، لأنها امرأة ورعة، بل لأنها امرأة مسحورة، تعرضت لحرب نفسية رهيبة، شنها السحرة ضدها طوال ثلاثة ألاف سنة، ضمن خطة تربوية مكتوبة بلسان أكبر ساحر في العالم. وقد نحم عن هذا الضغط الهائل شل عقل المرأة وتدنيس جسدها، وأتاح إدانتها -شرعياً- بأنها {ناقصة عقل ودين}، وأحالها إلى مخلوق مريض في حاجة ماسة إلى رحمة الله. إن الحجاب فكرة فظيعة إلى هذا الحد.



هذه النص مأخوذ، من كتاب الصادق النيهوم: الإسلام في الأسر {ص: 111-117} – دار رياض الريس للنشر.