تنين ألعرف ألبالي ... ومصير ألذبول لزهور ألشباب .



حامد حمودي عباس
2009 / 2 / 28

في لحظة من لحظات التجلي .. وبناتي يشاركنني طاولة العشاء ، وفي يوم آخر من أيام الغربة المشحونة بتوتر مزمن دفين ، وصوت ام كلثوم ينطلق من جهاز الكمبيوتر وهي تنثر فرحا في المكان يعمق الشعور بالحاجة الى التأمل واسترجاع مكامن ذكريات قديمه ، كان لي حديث مع بناتي المتألقات، يقطر من وجوههن مرح الصبا ويقفز من أفواههن الجميلة شذى الشباب المراهق الجميل . كان حديثهن يدور حول مواضيع شتى لا يجمعها موضوع بعينه ، سوى أنه مجرد شذرات من تداعيات متفرقه تلعب في مخيلاتهن ، لا تفسير لها عدا عن كونها افكار بريئة ليس لها أصول بعينها .. وكنت حينما لا استطيع اللحاق بمسار افكارهن الحلوة المتحركة بلا عقد ، يشرد السمع مني في فضاءات بعيده تأخذني اليها كلمات كوكب الشرق ، وانا احاول التعامل مع نفسي بنفاق واضح ، فاتخيل بانني سافلح يوما بالعودة الى تلك الامكنة المليئة بالعشق الفائح برائحة مشاعر الخوف والترقب والانتظار المشبع بألذ الاحاسيس الانسانية الشابه .
لقد كنت وأنا أرقب حديث بناتي واتطلع الى قسمات وجوهن المرحه وحركة ايديهن الراقصه ، أحس بعظم مسؤو ليتي وامتدادها الى حدود قد لا تمنحني بقية العمر فسحة من وقت كي أضعهن في مستقرات تؤمن لهن حياة آمنه ، حياة لا تعكرها أعراف لا زالت تحيا بين جنباتنا مسلطة سيف القصاص لكل من تسول له نفسه بالتحرك على هواه ، وكانت احداهن وفي لحظة مفاجئه تقفز من مكانها لتقبلني بلا سبب بعينه ، والاخرى تمد اصابعها الناعمة لتتحسس تجاعيد رقبتي التي رسمها العمر ، فتنزل على وجناتها درر الدمع اشفاقا من لحظة تتخيلها آتية في يوم ما ، ومع كونهن لا يدركن كيفية ترجمة تلك الاحاسيس الراقية من الحب ، كنت أنا أعرف معناها بعمق ، انه الخوف من مصير الضياع ، الخوف من قساوة قد تفرضها عليهن يوما افرازات مجتمع تنخر فيه شرائع الغاب ، مجتمع لم يتعرف بعد على مكامن الحب الانساني في الذات البشرية فتضرب جنبات بعضه البعض بلا رحمه .
تلك اللحظات المليئة بشتى صنوف المشاعر المختلطة بلا ترتيب مسبق ، تجعلني عند حضورها وما اكثر ذلك الحضور ، انحبس داخل أيقونة من جلد الذات دون أن يكون لي ذنب فيما حدث ويحدث من ظلم قد ينتظر الالاف من البنات وهن في مقتبل أعمارهن كما هو الامر مع بناتي ، فمن يدري ؟ .. من يعرف ما يخبيء الدهر لهن والغربة المقيتة تحيط بهن دون أن تعي احداهن كيف هي سبل سلوك دروب مبالغ في وعورتها ، وكيف ستكون غربتهن ان عدن للوطن معي أو بدوني والسنن الاجتماعية هناك عاث بها العابثون فسادا وتخريبا حتى أضحت مجرد سنن للموت ، وأعراف تبشر بالشر حينما تجيز مظاهر ظلم المرأة وبشتى السبل بدعوى نشر الفضيله .
لا ادري لماذا يخالجني الاحساس بالذنب كلما لمحت احدى بناتي وهي تصفف شعرها وسط مشاعر من الفرح الطفولي الجميل ، وقد يكون مرد هذا الاحساس هو عدم الاطمئنان للمستقبل ، واكثر ما يعذبني هو انهن معا لا يدركن كنه هذه الحقيقه ، فاجدهن في مرح دائم وهن يتمتعن بكل ما حاولت ان احرم منه نفسي وأوفره لهن .. فلطالما عاتبتني زوجتي على عدم الاعتناء بمظهري الشخصي وعنفتني كوني بدل ان اشتري حذاء او قميص جديد لي ، اهرع فورا لشراء بدلة او معطف لاحدى بناتي .. انهن بنظري حلقة يهددها دوما الانفصام من سلسلة الوصل الاجتماعي فاحاول ترسيخ ارتباط تلك الحلقة باخواتها من الحلقات .
ومع انني لم اجد بعد أي تفسير منطقي لحقيقة أن البنات في اغلب الاحيان اكثر حميمية في العلاقة بالاب والام من اخوتهن الاولاد ، فانا احس بهذه الحميمية وعن قرب ... ولا أعرف بالضبط هل أن ذلك كله كان سببا لمناصرتي التام لقضية المرأه ، أم أنه حصيلة حاصل منطلق من بديهية الفكر الذي يجعل المرأة والرجل معا عبارة عن كيانين متساويين لا فرق بينهما في أي تكوين اجتماعي يحدد السلوك العام لكل منهما في الحياة .
تؤرقني تلك القصص المتزاحمة عن رجال جعلوا من نسائهم سبايا لا زوجات ، ويزيد من أرقي هو أن أغلب هؤلاء هم ممن يحملون شهادات بعضها عاليه ، وقد روى لي اصدقاء ومعارف قصصا شتى عن اولئك الذين منحتهم فرص الحياة العيش في المهجر ، والتمتع بمظاهر الرقي ضمن مجتمعات خرجت عن حدود النفاق الاجتماعي وسنت لنفسها نظما تجعلها في مصاف الشعوب المتقدمة في كل شيء ، فبدلا من أن يستفيدوا من مباهج الحياة ورقيها في البلدان التي يقيمون فيها راحوا ينقلون ذات الصور من التخلف في بلدانهم والقيام بنفس الافعال المشينة المرتكزة على المفاهيم الرجعية ، حيث أمعنوا في فرض الحصار الصارم على بناتهم ونسائهم ومنعهن من مواصلة الدراسة أو التوظيف أو ممارسة النشاطات الاجتماعية الطبيعية ، فضلا عن شتى صنوف التعامل الجاف معهن واحاطتهن بالرقابة المستمرة اثناء الاظطرار لحضور حفل او مناسبة عامه بحجج مختلفة أولها هو المحافظة على الشرف والقيم الدينية وسمعة العائلة وحماية النساء من الانزلاق ، في الوقت الذي يمرح الرجال فيه كما يشاؤون ويتمتعون بجمال ما يحيط بهم من طبيعة وجمال .
لقد نقل لي صديق يعيش في احدى دول الاتحاد الاوربي حكايا متفرقة عن كثيرين ممن يعيشون مع نسائهم وكانهن امات لا يمتلكن أي حق بالتصرف خارج حدود ارادة ازواجهن .. وروى لي كيف أن أحدهم كان ضيفا لديه لمدة اسبوع كامل لم يسمح لزوجته بأن تختلط ببقية العائلة ، وفرض عليها أن تبقى مع زوجة المضيف في غرفة واحدة معزولة مما سبب للجميع حرجا كبيرا ، وكيف كان يعاملها بكل احتقار ويرغمها على ارتداء النقاب حتى اثناء الاجتماع حول مائدة الطعام .. وروى لي اخر ، قصة عربي مهاجر سبق له وتزوج من امرأة المانية كي يكسب الحق في امتلاك الاقامه ، وكيف أن تلك المرأة كانت ولا تزال تمنحه كافة أوجه الرعاية الاسرية وتعمل ليل نهار في حين يقبع هو في المنزل لا يمنحها غير الصراخ والتعنيف والاهانة المستمره لانها بنظره كافره ، ويتوعدها دوما بالزواج من واحدة اخرى من بلده عاجلا ام آجلا لتكون خادمة لابنائه منها ، ولا اعرف سببا لصبر تلك الاوربية على افعال ذلك الوغد ولا ترميه في عرض الشارع ليلقى مصيره اللائق به ، وتعيده الى أحضان سلخانته الاصلية في بلده من جديد .
وأنا شخصيا زارني في شقتي واحد ممن يدرسون في احدى المعاهد العاليه بصحبة اسرته ، ورغم انفتاح افراد اسرتي امامهم والترحيب بهم ، فقد فوجئت بانه أصر على أن تكون النساء في مكان والرجال في مكان آخر ، وحينما هم بالخروج بعد نهاية الزياره وجه كلمات الازدراء والتعنيف لزوجته امامنا جميعا بدعوى انها تجاوزت بتاخرها عن الامتثال لدعوته بالمغادرة رغم ان ذلك التجاوز لم يكن الا لدقائق قليله .
صور شتى من مظاهر الظلم الاسري تلاقيها العديد من النساء تحت وطأة الفكر الديني المتخلف ، والذي يجعل النساء في ادنى درجات السلم الاجتماعي والاقتصادي وحتى الاخلاقي ، الامر الذي يجعل من المتنورات من النساء والمدافعات عن حقوق المرأة وبمؤازرة اصحاب الفكر النير من الرجال أن يكثفن من عمليات التصدي للفكر الرجعي والسلفي وافشال كل محاولات النيل من انسانية المرأة وهظم حقوقها المشروعه .
ويقينا بأن سبل النضال من أجل ذلك سيطول ، وسوف يستمر بلا انقطاع حتى تتراجع كل الافكار ذات الطابع السلفي والتي تهدف لمحاربة حقوق الانسان عموما والمرأة على وجه الخصوص .