نهوض المرأة



أحمد الناجي
2009 / 3 / 9

(1)
قضية المرأة في صميم النهضة العربية الحديثة

يزخر موروثنا العربي والإسلامي بأمثلة كثيرة تومئ الى دور الثقافة العربية في رفع شأن المرأة قبل عصري الانحطاط (المغولي والعثماني)، ويمكننا استحضار كثير من الأمثلة: فقد أكد القرآن الكريم التساوي التام بين الذكر والأنثى في القيمة الوجودية، وحملهما مسؤولية استقامة المجتمع أو انحرافه، كما بيّن في كثير من الآيات أنّ ثمة اختلافاً جلياً بين الذكر والأنثى في الوظيفة التي أوكلها الله لكل منهما في الحياة، بحيث تتكامل وظيفة أحدهما مع وظيفة الآخر، وعلينا أن نتذكر بأن التكامل هنا ليس من باب الإنصاف، فمكانة أي إنسان، ذكرا أو أنثى، في ميزان الله كما هي مقررة في القرآن، تتحدد بحسب مستوى تقواه: "إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات:49/13)،‏ كل ذلك لكي يسهما سوية بتأدية وظيفة في هذا الوجود، وهذا ما عبر عنه أحد الشعراء، بقوله:‏
بها نقص بلا عيب أكمله فيكتمل‏
وبي نقص بلا عيب تكمله فأكتمل‏
والأحاديث النبوية كثيرة في هذا المجال، وجاء في الحديث النبوي الشريف: "إنما النساء شقائق الرجال"، كذلك "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. وتأمل أيضاً ما يقوله الشاعر مسكين الدرامي (ت 89هـ/708م):
تغار على الناس إن ينظروا وهل يفتن الصالحات النظر
إذا الله لم تعطه ودها فلن يعطي الود سوط مُمّر
يتبين لنا من هذين البيتين أن الشاعر كان ضد قسر المرأة وحجرها بل هو مع اختلاط الجنسين لأن المرأة الصالحة بحسب رأيه لا يفتنها النظر. وقال الجاحظ (ت 869): لسنا نقول ولا يقول أحد ممن يعقل إن النساء فوق الرجال أو دونهم بطبقة... ويقول أبن رشد (ت 1198): تختلف النساء عن الرجال في الدرجة لا في الطبع، وهن أهل لفعل جميع ما يفعل الرجال من حرب وفلسفة ونحوهما، ولكن على درجة أقل من درجتهم، ويفقنهم في بعض الأحيان كما في الموسيقى... وليس من الممتنع وصولهن الى الحكم في الجمهورية (يشير الى جمهورية أفلاطون)... ويذهب أبن رشد في القول أيضاً الى انه: يجب على النساء أن يقمن بخدمة المجتمع والدولة قيام الرجال، وان الكثير من فقر عصره وشقائه يرجع الى أن الرجل يمسك المرأة لنفسه كأنها نبات أو حيوان أليف لمجرد متاع فانٍ، بدلاً من أن يمكنها من المشاركة في إنتاج الثروة المادية والعقلية وفي حفظها.
وإذا كان لنا أن نتعرف من باب التذكير على وضع المرأة في الشرق قبل القرن التاسع عشر، فنجد من المناسب التمعن فيما وصفها أحمد أمين، حين قال: كانت جاهلة محجبة، تربى داخل البيوت تربية منزلية، ولا تعرف شيئاً مما وراء البيت، ضيقة العقل، محصورة الأفق، وهي هي التي يعهد اليها في تربية الجيل.
وهنا يجمل بنا أن نعترف بأن مصر هي المركز الذي انطلقت منه إشعاعات التنوير، ولها الفضل الكبير في النهضة العربية الحديثة من حيث أنها أنجبت واحتضنت عدداً من النهضوين الرجال والنساء، ممن تناولوا مسألة المرأة بوصفها جزء في صميم قضية النهضة. ففي منتصف القرن التاسع عشر تصدى رواد النهضة العربية الى قضية المرأة، عندما أكدوا على مكانتها في المجتمع وما لها من حقوق وواجبات.
ويعد الشيخ الأزهري، رفاعة الطهطاوي (1801-1873) من أوائل الرواد الذين لهم سبق الفضل في المطالبة بحقوق المرأة، وهو الأب الحقيقي لحركة التنوير في مصر الحديثة على حد تعبير الدكتور رفعت السعيد، وكان عضواً في لجنة تنظيم التعليم التي تشكلت في عهد محمد علي سنة 1836، التي اقترحت الشروع بتعليم البنات.
سجل الطهطاوي في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) مجموعة من الحقائق والملاحظات حول المرأة الفرنسية واصفاً الأنشطة التي تمارسها من بيع وشراء وأعمال يدوية وإدارية، مادحاً تصرفاتها، لاسيما حين تحدث بشي من الاحترام عن الاختلاط بين الجنسين في فرنسا سواء في العمل أو أماكن اللهو من مراقص وملاهي، كما أكد في كتابه (المرشد الأمين لتربية البنات والبنين) الذي طبع في سنة وفاته 1873، على تعليم المرأة الشرقية وواجباتها وكيفية النهوض بها لتكون عضواً فاعلاً في المجتمع الى جانب الرجل بصورة خاصة، فعلاوة على كونها زوجة وأماً وربة منزل، يمكنها العمل أيضاً، وهذه دعوة جريئة لم يعرفها المجتمع الإسلامي من قبل، وذهب الطهطاوي الى أبعد من ذلك، حين عد بطالة المرأة مذمة عظيمة، فيما العمل يصونها عما لا يليق بها ويقربها من الفضيلة، ولذلك دعا الى تمكينها بالتربية والتعليم لأداء واجبها في بناء المجتمع، وقد فتح بذلك الكتاب ثغرة كبيرة في جدار التخلف والجمود، حين دافع عن ضرورة تعليم المرأة، وعد ما جاء فيه بنظر البعض اختراقاً للمألوف، فهو القائل: "ينبغي صرف الهمة في تعليم البنات والصبيان معاً لحسن معاشرة الأزواج، فتتعلم البنات القراءة والكتابة والحساب ونحو ذلك، فإن هذا مما يزدهن أدباً وعقلاً، ويجعلهن بالمعارف أهلاً، ويصلحهن به لمشاركة الرجال في الكلام والرأي، فيعظمن في قلوبهم، ويعظم مقامهن، وليمكن المرأة عند اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأشغال والأعمال ما يتعاطاه الرجال على قدر قوتها وطاقتها".
تتالت دعوات تحرير المرأة العربية بعد الطهطاوي، وظهر مفكرون جدد، ومنهم: بطرس البستاني (1818-1883) ، صاحب أول انسيكلوبيديا عربية (دائرة المعارف)، كما أصدر في بيروت صحيفتي (نفير سوريا) سنة 1860 و(الجنان) سنة 1870، وهو من أوائل المطالبين بتعليم النساء عالمنا العربي، ففي خطاب له في الجمعية السورية -وهي جمعية أدبية أسست في بيروت سنة 1857، تطرق لما كانت المرأة تعانيه بسبب القهر والجهل والحرمان، معتبراً أن من يبتغون إذلال المرأة وتجريدها من حقوقها إنما ينزلوها دون منزلتها المعيَّنة من باري الكون ويختلسون منها تلك الحقوق التي أقامها الله عز وجل.
وكان الصحافي اللبناني أحمد فارس الشدياق (1805-1887) من أوائل مناصري قضية المرآة، إذ ألف كتاباً في هذا الموضوع هو (الساق على الساق) الذي صدر سنة 1855، ومما جاء في دعوته الى تعليم المرأة: "فأما تعليم نساء بلادنا القراءة والكتابة فعندي محمدة بشرط استعماله على شروطه، وهو مطالعة الكتب التي تهذب الأخلاق وتحسن الإملاء، فإن المرأة إذا اشتغلت بالعلم كان لها به شاغل عن استنباط المكايد والحيل...". كما كتب مطالبا بحرية المرأة في صحيفته (الجوائب) التي أنشأها في الاستانة سنة 1860، ووصفه مارون عبود بأنه: "نصير المرأة قبل أن يهب شرقي لنصرتها".
أما عبد الرحمن الكواكبي (1855-1902)، داعية الحرية المشهور، فقد تحدث عن المرأة ودورها في التربية والمجتمع، ودعا الى تحريرها من الجهل، فهو القائل في كتابه (أم القرى): "إن لانحلال أخلاقنا سبباً مهماً... يتعلق بالنساء فهو تركهن جاهلات على خلاف ما كان عليه اسلافنا...".
وكان محمد عبده (1849-1905)، من المنادين منذ وقت مبكر، بتعليم المرأة وتمنى أن تنهض القلة المستنيرة من النساء المتعلمات بتكوين جمعية نسائية تقيم المدارس لتعليم البنات، مؤكداً على أهمية تعليم المرأة، بقوله: إذا صح الحديث النبوي الشريف (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) أو لم يصح، "فالقرآن يؤيد معناه ، وعمل المسلمين الأولين يحقق صحة محتواه، وهو خطاب تكليفي موجه الى الرجل والمرأة على قاعدة المساواة بينهما في طلب ما يلزم من العلم لصلاح معادهما ومعاشها، ولكن المسلم ضلَ فيما بعد في معنى العلم، فظن أن الغاية منه ما يفرضه الدين من معرفة فرائض الوضوء والصلاة والصوم، وضرب بين النساء والعلم حجاب، لا ندري متى يرفع، وحشيت أذهانهن بالخرافات والأوهام". كما تصدى الشيخ محمد عبده بفكره المستنير لما هو متعلق بقضية المرأة من ناحية الأحوال الشخصية لاسيما موضوعة الطلاق وتعدد الزوجات، فكانت آراءه أشبه بالثورة على الواقع المتخلف الذي عاشته المرأة المسلمة، وهي جديرة بالنظر لأنها بمثابة أحكام مستنبطة من القرآن الكريم لا زالت في انتظار المشرع الذي يضعها في التطبيق. وبالرغم من الدعوات الصريحة الى تعليم المرأة في مصر، لم تنشأ أول مدرسة لتعليم البنات الا سنة 1873، ولابد لنا من الإشارة هنا الى أن أول مجلة نسائية صدرت في مصر كانت سنة 1892، وهي مجلة (الفتاة) لصاحبتها هند نسيم نوفل، مقتصرة الكتابة على صفحاتها للأقلام النسائية فقط.
لقد دافع الشيخ محمد عبده عن قضية المرأة متضامناً، من وراء ستار مع تلميذه قاسم أمين (1865-1908) حيث سبق أن أوجد تبريراً دينياً مستمداً من الشريعة الإسلامية للمساواة بين المرأة وبين الرجل.
وبرزت الدعوة الى مشاركة المرأة للرجل في الأعمال والشؤون العامة بأجلى بيان في مطلع القرن العشرين، وكان رائدها قاسم أمين الذي لقب بحق (محرر المرأة)، وقد ألف كتابين في هذا الموضوع هما (تحرير المرأة) صدر عام 1899 و(المرأة الجديدة) صدر عام 1900. بحث في أسباب انحطاط المجتمع، فلم يجد في البيئة أو في الدين الإسلامي شيئاً من هذه الأسباب وإنما اعتبر اختفاء الفضائل الاجتماعية والقيم الأخلاقية السبب الحقيقي للانحطاط والتدهور، وأرجع ذلك كله الى الجهل بالعلوم، الجهل الذي يبدأ بالآسرة وبعلاقات الرجل بالمرأة والمرأة بالطفل.
لقد كان قاسم أمين أول مثقف مسلم، يفتح طريقاً أحادي الاتجاه نحو الغرب وعلومه، متخطياً الاتجاه التوفيقي الذي سار عليه الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده، فنظر الى موضوع المساواة بين المرأة والرجل، وأتى بالأدلة من النصوص الدينية الإسلامية على هذه المساواة، وأرجع أمر اضطهاد المرأة الى الاستبداد السياسي في المجتمعات، واصفاً تلك الأحوال بقوله: "أنظر الى البلاد الشرقية، تجد أن المرأة في رق الرجل والرجل في رق الحاكم، فهو ظالم في بيته، مظلوم إذا خرج منه، ثم أنظر الى البلاد الأوربية، تجد أن حكوماتها مؤسسة على الحرية والتقدم واحترام الحقوق الشخصية، فأرتفع شأن النساء فيها الى درجة عالية من الاعتبار وحرية الفكر والعمل". وناقش العديد من المعتقدات والمسلمات الشائعة عند المسلمين عن المرأة مثل الزعم بأنها مخلوق ناقص العقل والتفكير ضعيف العزيمة وقدرتها على مقاومة الشهوات، قائلا بأن "الفسيولوجيا الحديثة أثبتت أن المرأة مساوية للرجل في مواهبه وقدراته" كما تناول مسائل: الحجاب واشتغال المرأة بالشؤون العامة وتعدد الزوجات والطلاق، ومما ذكره عن الحجاب أن الشريعة الإسلامية إنما هي مبادئ وحقوق عامة تتجاوز الجزيئات التي تنفتح على الرأي والاجتهاد، وهو يعد الحجاب، مثلاً، أصلاً من أصول الأدب يلزم التمسك به، ولكنه يطالب بأن يكون منطبقاً على الشريعة الإسلامية، وليس فيها ما يوجب الطريقة المعهودة في الحجاب إذ ذاك، وما تتسم به من المغالاة. وبشأن اشتغال المرأة بالشؤون العامة يقدم قاسم أمين أمثلة تاريخية تثبت مشاركة المرأة العربية المسلمة فيها، ويرى إن الإسلام قد أنصف المرأة ومنحها حقوقها، وبشأن تعدد الزوجات فأن القرآن الكريم إذ أباحة فقد قيده بتحقيق العدل وحذر من الافتئات عليه؟ وهي قيود يجدر التمسك بها، وكذلك الشأن بالطلاق، فإباحته تقتضي، ممارسته عند الضرورة القصوى.
أحدثت أراء قاسم أمين صدى واسعاً في أوساط مفكري عصره، فمنهم من رحب بها وأثنى عليها، ومنهم من تصدى لها ورد عليها بعنف، ومن الكتب التي الفت في الرد عليه كتاب عبد المجيد خيري (الدفع المتين) سنة 1899، وكتاب محمد طلعت حرب (فصل الخطاب في المرأة والحجاب)، ومنع قاسم أمين من دخول البلاد العثمانية، وتولت مجلات (الاتحاد العثماني) و(الهداية) و(الحقائق) الرد على أنصار تحرير المرأة.
وهكذا نرى بأن قاسم أمين سعى للتوفيق بين أحكام الدين وتطور الحضارة المعاصرة والتعويل على العقل كلما دعت الحاجة الى الإصلاح الديني، وذكر في استدراك له خلاصته تجربته في الكتابة بهذا الشأن، قائلاً: سيقول قوم إن ما أنشره بدعه، فأقول نعم، لكنها ليست في الإسلام بل في العوائد، وطرق المعاملة التي يحمد الكمال بها.
لقد تبنى عدد غير قليل من المثقفين والكتاب فيما بعد قضية المرأة، ومنهم: خير الدين التونسي (1801-1879)، علي مبارك (1832-1893)، عبد الله النديم (1845-1896)، فرنسيس مراش (1836- 1873)، أديب اسحق (1856-1885)، جورجي زيدان وشبلي شميل وماري عبده وسلامة موسى وفرح انطون وسيزا نبراوي، وغيرهم.
وبالرغم من انتساب رواد النهضة الى تيارات سياسية وفكرية مختلفة إلا أنهم افردوا مساحة شاسعة من الكتابة في معالجة قضية تحرير المرأة ومساواتها بالرجل. منطلقين في ذلك من أرضية مشتركة اعتمدت على الاحتجاج بالتراث العربي الإسلامي والتطور الحضاري العربي تجلى في أوربا. ويمكننا تميز خطاب عصر النهضة من حيث المرجعية في اتجاهين: الأول: اتجاه تتمثل فيه مدرسة التجديد الإسلامي ومرجعيته دينية متنورة. الثاني: اتجاه علماني ينظر الى حقوق المرأة من زاوية إنسانية ووطنية دون الرجوع الى النصوص الدينية ومرجعيته الغالبة غربية.

(2)
بدايات قضية المرأة في العراق

أواخر القرن التاسع عشر، سطع ضوء الشعلة الموقدة في أرض الكنانة على أرض وادي الرافدين، ولكن دعونا قبل كل شي نلقي نظرة على أحوال العراق الاجتماعية في تلك المرحلة، فقد عاش الرجال والنساء حتى العقود الأولى من القرن العشرين في عالمين منفصلين انفصالاً كلياً، والمرأة ليس لها وجود مستقل، يتحاشى الرجال مجرد ذكرها، ووصل التطرف في التقليل من قدرها الى حد النظر اليها في كثير من الأحيان على أنها عورة، وكانت كائناً بغيره لا بذاته، وعادة لم يكن الخروج مسموحاً للمرأة، وإذا أتيحت لها فرصة الخروج من منزلها لضرورة قاهرة، فأنها كانت تخرج مرتدية حجاباً محكماً، وهو عبارة عن برقع (بوشيه) وغطاء رأس (فوطة أو عصبة) مع ارتداء عبائتيين واحدة من الصوف والأخرى توضع فوقها من الحرير، فتظهر المرأة ملتفة بالسواد لإخفائها عن الناظرين. ويطالها التمايز حتى بعد وفاتها إذ كان لا يقام لها مجلس فاتحة مثلما يقام للرجل عند وفاته.
والمفارقة الطريفة التي تغنينا عن الاستفاضة بوصف الوضع الاجتماعي آنذاك، ما ذكر من مغالاة بشأن الاحتراز من مشاهدة مفاتن المرأة –طبعاً من وراء عباءتها، هو ما حصل سنة 1899 بعدما قرر الوالي نامق باشا إنشاء مدرسة للبنات، فعرض الأمر حينها على مجلس معارف ولاية بغداد وكان أكثرهم من العلماء والرجال المتدينين، ووافق الجميع على ذلك، إلا أنهم اختلفوا وطال جدلهم حول شروط البناية التي تصلح لتكون مقراً لمدرسة الإناث، وكان رأيهم أن تتصف بما يلي: أن لا تكون إحدى الدور المجاورة مشرفة عليها، وان لا تكون شبابيكها مطلة على الشارع، وان لا يكون في الدور المجاورة أشجار عالية. وكان الشاعر جميل صدقي الزهاوي احد أعضاء مجلس المعارف صامتاً لا يبدي رأياً، حتى إذا سكت الجميع تكلم قائلاً: إن هذه الشروط لا تنطبق إلا على بناية واحدة في بغداد، هي حوض منارة سوق الغزل، إذ هي المكان الوحيد الذي يتجمع فيه كل هذه الأوصاف.
ولا تعليق لنا أكثر من أن ما حصل هو انعكاس للتقاليد والقيم الاجتماعية السائدة. وهو أمر طبيعي لكون غالبية الناس في العادة من أعداء الجديد منساقة وراء المألوف المتداول بسبب اطمئنانهم اليه، ولكن الأمر الفاصل يبقى لمجرى التاريخ لأنه في تطور مستمر.
نعود الى بدايات إشعاعات النهضة العربية التي امتدت من النيل الى الرافدين، فقد بان أثرها في العراق بشكل جلي مطلع القرن العشرين، بما فيها قضية تحرير المرأة، مما أنعش الثقافة بصورة عامة في العراق، وتبدت بواكير الحراك الفكري في تطلعات نهضوية طامحة، تبنت نشر الأفكار العصرية بضمنها مناصرة تحرير المرأة.
حصلت تطورات في مختلف مناحي الحياة اثر إعلان الدستور العثماني منتصف سنة 1908، واستنطق العلامة الشيخ محمد حسين النائيني ضرورات تلك المرحلة، وصاغها أفكاراً ورؤى في أول كتاب إسلامي في الفقه السياسي أصدره سنة 1909 بعنوان (تنبيه الأمة وتنزيه الملة)، وجاء فيه بآراء جريئة جداً، عالج بنظرة إسلامية عصرية جديدة مسألة الحكم بالاعتماد على الدستور والنظام البرلماني، مؤكداً على حرية الرأي وإصدار الصحف، ومتضمناً دعوة صريحة الى تعليم المرأة. وفي اعتقادنا أنها كانت أول دعوة في العراق لكي تأخذ المرأة دورها الحقيقي في المجتمع من خلال إتاحة حق التعليم لها.
نشر الزهاوي بتاريخ 7 آب 1910 مقالاً في مجلة (المؤيد) المصرية بعنوان (المرأة والدفاع عنها)، (وجاء في أحد المصادر بأن تاريخ نشر المقال كان في 1 تموز 1910، وهو بعنوان "دفاعاً عن المرأة")، وأعيد نشره بالعراق في مجلة (تنوير الأفكار) البغدادية، وقد سلط الزهاوي فيه الأضواء على بعض المظالم التي ترزح تحتها المرأة المسلمة، مستعرضاً حقوقها التي نص عليها الإسلام، وتناول فيه مسألة الحجاب، فتكدّر مزاج المحافظين في البلد، ولم تكد المجلة تخرج الى أسواق بغداد حتى قامت ضجة كبرى فيها، وخرجت مظاهرة الى السراي تطالب الوالي بإنزال العقوبة الرادعة على الكاتب (الزنديق)، وبأثر ذلك قام الوالي بعزل الزهاوي عن وظيفة التدريس التي كان يشغلها في مدرسة الحقوق، واضطر الزهاوي الى الاعتزال في بيته فترة من الزمن وقيل أيضاً، أنه هوجم في داره وتعرضت حياته للخطر. ورد محمد سعيد النقشبندي، المدرس في مسجد الإمام الأعظم في بغداد على مقالة الزهاوي بكتيب طبعته صحيفة الزهور البغدادية في 13 تشرين الثاني 1910 بعنوان (السيف البارق في عنق المارق)، أما رد الحكومة العثمانية على مقالة الزهاوي، فكان فصله من التدريس في مدرسة الحقوق ببغداد، ولم يعد الى التدريس إلا بعد أن تنصل من مسؤولية كتابة المقالة.
مطلع عقد العشرينيات، شغلت قضية مساواة المرأة مع الرجل الرأي العام مدة من الزمن غير قصيرة، واستعر الجدل على صفحات الجرائد (العراق) و(المفيد) و(مرآة العراق) و(العالم العربي) و(الصحيفة) وغيرها، ولكنها اختزلت من قبل البعض الى ما هو ظاهر على السطح بقضية سفور وحجاب، ويعود سبب إثارتها هذه المرة الى ما حصل في مراسيم استقبال الأمير غازي بن الملك فيصل عند قدومه من الأردن لأول مرة الى بغداد في 5 تشرين الثاني 1924، ، فقد ارتسمت دهشة في وجوه الناس حينما وجدوا من جملة المستقبلين فرقة كشافة مؤلفة من فتيات سافرات، طالبات مدرسة البارودية للبنات، ولم تكتفِ معزز محمد توفيق برتو مديرة المدرسة بذلك، بل صارت تقوم بإخراج فرقة الكشافة عصر الاثنين من كل أسبوع تسير في الشوارع وفيها الفتيات سافرات، مما جعل تلك الدهشة تتطور الى ردة فعل أثارت بذلك ثائرة المحافظين على الرغم من صغر سن الفتيات، وأشتد أوار معركة فكرية، وجدال شديد بين دعاة الحجاب ودعاة السفور على صفحات الجرائد، وقد أسهم الشعراء فيها بين مؤيد ومعارض .
تبنى عدد من المثقفين حركة تحرير المرأة، وهم قلة على حد وصف صبيحة الشيخ داود، وكرسوا نشاطهم على شكل حملة لتطوير الوعي السياسي والاجتماعي للدفاع عن قضية المرأة، بالانسجام مع تقدم الحياة وتطورها ونهضات الشعوب، ومنهم حسين الرحال وجماعته (محمد سليم فتاح ومصطفى علي وعوني بكر صدقي ومحمود أحمد السيد وعبد الله جادو)، ومن أولى المقالات ما كتبه حسين الرحال في جريدة (العالم العربي) بالعدد: 211 و212 في 28 و29 تشرين الثاني 1924، تحت عنوان (الجبر في الاجتماع)، ليبرهن على مساواة المرأة للرجل في القدرات الفسيولوجية ويحكي تطور المرأة في المجتمع، متناولاً منظومة القيم والتقاليد السائدة آنذاك، ولكن سرعان ما أغلقت تلك الجريدة أبوابها بوجه الرحال ، فأصدر جريدة (الصحيفة) في 28 كانون الأول 1924، وليس في الأمر من غرابة، حينما وجدت جماعة الرحال نفسها محاطة بهيجان من عامة الناس، وصارت خطب أيام الجمعة في المساجد تصليهم ناراً حامية، واستنكرتهم المضابط الجماعية، فعلى سبيل الاستشهاد، قام أحد خطباء المساجد في جانب الكرخ بتحريض الناس على عوني بكر صدقي المعلم في مدرسة الكاظمية الابتدائية، وهو من أشد دعاة السفور حماساً، فعزم جماعة من المتحمسين من عوام الكرخ على قتله، وصاروا يبحثون عنه، وعثروا أخيراً على رجل يشبهه فأطلق احدهم مسدسه عليه، ولحسن الحظ لم يصب هذا الرجل، وفي الأخير اسكت صوتهم بإغلاق جريدة الصحيفة في 1925، ولكنها عاودت الصدور بعد سنتين جريدة (الصحيفة) في 13 أيار 1927، وجاء في صدر افتتاحيتها لذلك اليوم (عدنا ولم نلفظ نفسنا الأخير كما تصوروا).
وأسفرت مخاضات تلك المرحلة عن تأسيس أول نادي اجتماعي للمرأة أطلق عليه أسم (نادي النهضة النسائية) سنة 1923، ومن هن السيدة نعمة سلطان حمودة، السيدة أسماء الزهاوي، والآنسة حسيبة جعفر، والآنسة بولينا حسون، وعقيلات عبد الرحمن الحيدري، ونوري السعيد، وجعفر العسكري، لكن النادي سرعان ما واجه مقاومة شديدة واحتجاج من قبل القوى التقليدية المحافظة. كذلك شهدت تلك السنة صدور مجلة (ليلى) أول مجلة عراقية نسائية في 15 تشرن الأول 1923، رئيسة تحريرها السيدة بولينا حسون، والمجلة ذات طابع تربوي وعظي حرض المرأة على المطالبة بحقوقها وتعليمها، وجاء على غلاف عددها الأول، في سبيل نهضة المرأة العراقية، وقد استقطبت عدداً من الكتاب والأدباء العراقيين والعرب، منهم: الزهاوي والرصافي والدجيلي وحليم دموس و سلمى صائغ وأنور شاؤول ويوسف غنيمة، واستمر صدورها لمدة سنتين، إذ جوبهت بحملات شخصية، انتقلت الى المحاكم مما دفع السيدة بولينا الى التخلي عن مهنة الصحافة وإغلاق مجلتها. كما أشتركت أمينة الرحال وهي طالبة بدار المعلمات، مع جميله الجبوري، معلمة بمدرسة البنات الرسمية، والتحقت بهن السيدة صبيحة ياسين الهاشمي، والأخيرة كانت طالبة في بيروت في أعمال المؤتمر النسائي الشرقي المنعقد في دمشق في تموز سنة 1930.
يذهب البعض في أرائه الى أن إسهامات المرأة في ثورة العشرين كانت بصفة أفراد، ولم يتجاوزن حد المشاركة المعنوية المحدودة، ويمتد ذلك الرأي أيضاً بحيث ينطبق على إسهامات المرأة العمل السياسي طوال تاريخ العراق المعاصر لاسيما وضوح تجلياته في محدودية دورها القيادي. ولا نستبعد أن تحتمل مثل تلك الآراء نوعاً من الصحة في أحد وجوه الحقيقة، بيد أن الصحيح أيضاً من وجه اخر، يرى بأن المرأة العراقية قد ضمت صوتها الى أصوات المطالبين بحرية الوطن واستقلاله غير مبالية بما يتطلبه ذلك الموقف من جهد وتضحيات، وما يزال حاضراً صوت الفراتية (نجيدة)، حاملة ولدها شهيد ثورة العشرين وسط عشيرتها من بني حجيم تهوس: (عربيد أسمك ياهيبة). وبإمكان المتتبع لتاريخ العراق المعاصر أن يرصد وقوف المرأة العراقية في مختلف ميادين النضالات الوطنية، فعلى سبيل المثال: وقفة مشرفة لها في ثورة مايس 1941، كذلك إسهامها في وثبة كانون 1948، وخير دليل ما خلده الجواهري في شعره لموقف فتاة الجسر (عدوية الفلكي) حين قال:
وعلى بريق الموت رُحنَ سوافراً بيض كواعب يدفعهن عصائبا
لقد سطرت المرأة العراقية اسهامات مشهودة في كافة تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية، ومن العسير ذكرها بالتفصيل في هذا المقام، فهي التي تصدت للعمل السياسي منضوية في جمعيات نسائية وأحزاب وطنية، معاضدة الأخ والزوج في نضاله الوطني سواء في مقارعة الاستعمار إبان العهد الملكي أو في المراحل اللاحقة أزمنة الاستبداد والحروب والحصار، نقلت الفكر والثقافة في مداركها مثلما نقلت البريد الحزبي بين ثناياها، عانت وكابدت في أحلك الظروف، تركت الدراسة والوظيفة، واضطرت الى الاختفاء بسبب المطاردة، وتعرضت للاعتقال والتعذيب، وليس أدل على تضحية المرأة العراقية من الشهيدات الذي يزخر بهن سفر العراق الوطني.
يمكننا القول بأن نهوض المرأة يعني نيل مكانتها الإنسانية التي تتناسب مع قيمة الإنسان في الحياة، وهي قضية غير منفصلة عن قضايا المجتمع بأكمله، تتأثر بما هو سائد من علاقات اقتصادية واجتماعية، والشيء الأكيد هو أن حرية المرأة مرتبطة بحرية الرجل، وهي حرية الإنسان في ذلك المجتمع، ولكن تبقى معاناة المرأة مضاعفة بسبب ما يقع عليها من تمايز واضطهاد من قبل مجتمعها، وبأي حال من الأحوال فأن نهوضها يمثل جزءاً من نهوض المجتمع وتنميته. وليس أدل على ذلك من نظرية لنسكي الذي يشير الى أن هناك علاقة ايجابية مؤكدة بين ارتفاع مستويات التنمية، مقاسةً بمستوى تقدم المجتمع من جهة والمكانة الاجتماعية للنساء من جهة أخرى. وهكذا نلاحظ تطور فهم حقوق المرأة من مجرد حق التعليم الى حق المشاركة بالحياة الاجتماعية والإنتاج الاجتماعي، وقد علمتنا شواهد التاريخ بالإضافة الى ذلك أن هناك ربط اشتراطي يزداد إحكاماً بين حقوق المرأة وديمقراطية المجتمع، بل قل إنسانية المجتمع.
إن تعزيز القيم الإنسانية لنضال المرأة الاجتماعي والفكري ينطلق من وعي الضرورات التي تجعل من مسؤولية المرأة أكثر فاعلية في الحراك السياسي، على أساس أن ما تحقق للمرأة العراقية خلال السنوات الماضية يعد مكاسب مهمة، أسهمت في تفعيل دور نصف المجتمع واستدعائه من الهامش الى المتن للاستفادة من جهود وإمكانات كافة مكونات المجتمع لدفع الواقع الاجتماعي الى مديات أوسع، ذلك ما ينبغي علينا تعزيره وتكريسه في الأيام القادمة، لاسيما دور المرأة في العملية السياسية وشراكتها ومساواتها الاجتماعية والسياسية، واعترافاً بدورها الفاعل في مستقبل البناء الاجتماعي.
يحق لنا بعد كل هذا أن نكون متفائلين، ومما يزدنا تفاؤلاً إيماننا بأن الإنسان يولد حراً وقوة الحياة في كيانه تدفعه على الدوام ليمارس هذه الحرية على الرغم من انف كل معيقات حركة التاريخ.


المصادر:
بو علي ياسين، حقوق المرأة
جمانة طه، المرأة العربية في منظور الدين والواقع
صبيحة الشيخ داود، أول الطريق
عبد الرحمن محمد بدوي، الإمام محمد عبده والقضايا الإسلامية
عبد العزيز البسام، تنامي العقلية في النهضة العربية
علي المحافظة، الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة
علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج3
لويس شيخو، تاريخ الآداب العربية
محمد كامل ضاهر، الصراع بين التيارين الديني والعلماني