الجسد: مشكلة أخلاقية في الفكر العربي المعاصر



عمار ديوب
2009 / 3 / 12

"هل تساءلت يوماً عن وضعية وجودك بجسد يمرض ويحزن ويفرح ويموت لأنه ولِدَ؟ وهل سألت جسدك كيف يتخلص من آلامه وكيف يبني آماله؟ وهل صممت في قرارة نفسك مرة أن تصمت وطلبت من جسدك أن لا ينبس ببنت شفه أو أي حركة، لأنك اتخذت موقف الحياد؟ وهل كنت فعلاً حيادياً؟ ومن هو هذا الحارس الذي يعبر صامتاً وراء كلماتك وأفعالك؟ ما هو وكيفَ ولمَ وبمَ وهل! إنه الجسد، وإنها أسئلة الجسد"*..
هذه القضايا ومواضيع أخرى ناقشتها الباحثة ميرنا حنا سليمان في رسالة ماجستير في 25/2/2009، عنوانها "الجسد: مشكلة أخلاقية في الفكر العربي المعاصر" في كلية الآداب بإختصاص فلسفة الأخلاق في قسم الفلسفة في جامعة دمشق. وقد أشرف الدكتور أحمد أبو زايد على الرسالة وبعضوية كل من الدكتور محمد شحادة والدكتور الأستاذ أحمد برقاوي.
إن موضوع الجسد موضوع يناقشه المجتمع والسياسة والدين وعادات الناس الشعبية وتتكلم عنه العقائد والطقوس وهو كذلك موضوع يكتب به الباحثين المعاصرين في مسعاهم لحرية الجسد وللعيش الكريم.
تشير الباحثة إلى صعوبة كبيرة في بحثها فالموضوع أخلاقياً ممنوع الكلام فيه، خاصة وأن فكرة الجسد مرتبطة بالمرأة ولا سيما الجنس وهو ما يقلّل من قيمة الجسد وقيمة من يتكلم به.
وترى الباحثة أن دراسة موضوع الجسد غير ممكن دون دراسة الإنسان، فالجسد موضوع يتسم بطابع وجودي وأخلاقي وجمالي. ولا بد من أن نعيد له الاعتبار انطلاقا من مبادئ اللطف والكرامة والحرية كثوابت أساسية لا تتغير بتغيّر الظروف والأزمنة، ولذلك لا بد من التخلص من كل أنواع العنف ضده، سواء أكان رمزياً أو مادياً ولا سيما في أوقات الحرب والاحتلال.
ويتطرق البحث إلى كيفية تناول الفكر الإنساني للجسد من الأسطورة إلى الفكر الحديث والمعاصر، ولذلك فهو يمتاز بالشمول، وتتصدى الكاتبة للفرق بين الجسم والجسد والبدن والجرم، وكيف أصبح مفهوم الجسد في عصرنا هو المفهوم المركزي.
فالفكر اليوناني وفكر القرون الوسطى ولا سيما الأديان، شطرت الإنسان إلى نفس وجسد، وللأول الخلود وللثاني الزوال، وهو ما أضعف من قيمة الجسد.
ومن المفارقات التي تؤكدها، الاحتفاء الكبير بالجسد مع الوعي الحديث وبالمقابل ظهور رؤية استهلاكية سلعيّة له. وقد استطاعت علوم الحياة الحديثة الاشتغال العلمي في الجسد ومعرفة قوانينه، وأيضاً لعبت الحركة النسويّة دوراً هاماً في تقديم وعي جديد للإنسان وللجسد.
وبخصوص الخطاب المعاصر، رأت أنّه نادراً ما تصدى لموضوع الجسد، وربما يكون الفن والأدب والشعر أولوه أهمية أكبر. وتنتقد الثقافة العربية التي تربط مفهوم الجسد بجسد المرأة وبمعايير الحلال والحرام والخوف والحيطة، فضلاً عن المتعة والفتنة. فخطابها أخفق ليس في تقدير قيمة الجسد وكذلك في موضوع الإنسان والهوية والوطن.
في علاقة الجسد بالمشكلة الأخلاقية، تؤكد ميرنا أن الجسد بالأصل وبطبيعته بريء من القيم الأخلاقية، فلا هو مدنس ولا هو مقدس، ولكن القيم الأخلاقية هي من ألصقت به. وهذا يعود إلى طبيعة المجتمعات والثقافة الذكورية السائدة. فالجسد وجد قبل منظومة القيم الأخلاقية، التي وضعته بين ثنائية قاتلة، فهو إما مدنس أو مقدس..! وهذا الوعي اغترابي بامتياز، وأدى إلى تعنيف الجسد ولاسيما جسد المرأة وقد كان دائماً برأيها يطلب اللطف والكرامة والحريّة.
ولذلك تستغرب قائلة هل الجسد شيء والإنسان شيء آخر..!؟ وتكمل كلامها، أن الجسد لا يختلف عن جسد الآخر، فهو حاس ومحسوس، وهو موجود في العالم بشكل تواصلي مع جسد الآخر. لتؤكد إن الجسد الذاتي لا يحيا ذاته إلا في جسد الآخرين.
وتشير إلى أن الجسد واللغة متكاملان، فما تخفيه اللغة يظهره الجسد، وإذ كانت اللغة أداة إخفاء وتحايل، فالجسد أداة تصريح وإعلان عن المسكوت. وتشير لموقف نقدي للقيم الأخلاقية، فتقول، الجسد هو مصدر القيم بما فيها قيم العقل، والجسد نص قابل للتأويل لفهم اللاوعي.
وأما الذهنية العربية المجتمعة فتتعامل مع الجسد بوصفه أداة أو مجرد مادة وهو تعامل ينفي بداهة عن أن الإنسان يوجداً أولاً كجسد. وهذه الذهنية هي التي أنتجت الخطاب العربي المعاصر، الذي بدوره لم يستطع إبداع منظومة معرفية وعلمية متماسكة، الأمر الذي أدى إلى هيمنة الفكر اللاعقلاني مما أنتج وعياً زائفاً حول الإنسان والمجتمع، وهو ما شيّء الإنسان...
ثم تنتقد التجارب العلمية والعسكرية على الجسد، وتستنكر العدوان الإسرائيلي الآثم على الأجساد في غزّة، التي هي خلاقة ومبدعة. ورؤيتنا المتخلفة القاصرة والضيقة للجسد لا تساهم لا في تحرير الوطن ولا في تحرير الإنسان، وهو ما يمكن العدو من الإمعان في استباحة الجسد والأوطان.
ويحمل بحثها كما ترى دعوة لرؤية جديدة للجسد، مشمولاً بمفهوم الإنسان كياناً واحداً مجسداً، فالجسد ليس مدنساً ولا مقدساً بل هو موجود طبيعي مادي محسوس، يتعرض للزوال والفناء، ويخلد كذكرى وفي الخيال أو اللوحة أو النص. وهو يرتقى ويعلو ويفرح.
وبالتالي فإذا كنا نؤمن بالحرية بحق، فلندع الجسد يتصرف بأريحية، لأن الحر لا يسيء ولا يؤذي.
استخدمت الباحثة عدّة مناهج بشكل متداخل وبشكل منفصل كالمنهج التاريخي والمقاون وتحليل النص والتحليلي.
ثم قدم الدكتور محمد شحادة ملاحظاته، وتركزت حول: أن البحث نوعي وجديد وطرحه مشروع وضروري في الزمن الراهن، خاصة وان الجسد تحوّل إلى قطع غيار للإنسان الغني، وأشار لفقراء الهند حيث يبيعون أجسادهم مقابل بحفنة من الدولارات، ثم تسآل ألا يؤثر الجوع والفقر والعمل الشاق على الجسد ويشوهه.
أما الدكتور أحمد برقاوي، فقدم مداخلة في خطاب الجسد والجسد: عن الجسد يقول إنه مفهوم متداول من قرون طويلة، إلا انّه مفهوم زائف ويعبر عن وعي زائف، وليس هناك جسد وهناك إنسان بل هناك إنسان له جسد. وأكد: أنا لست روحاً وجسد، بل إنسان أولاً وقبل كل شيء، وبالتالي التناول الفلسفي، يجب أن يعيد للجسد وحدته الضائعة.
وأشار أن الرسالة فيها ثلاثة رسائل، واحدة في الخطابات التي تكلمت عن الجسد منذ الأسطورة وحتى اللحظة الراهنة، وثانية عن مفهوم الجسد في الكتابات العربية وهي قليلة، وثالثة، عن الجسد بوصفه مشكلة أخلاقية.
وأشار إلى كون الدين ربط الجسد بالخطيئة، وكذلك شطر الإنسان إلى روح خالد وجسد زائل.
وأما الانتقال إلى وحدة الجسد والإنسان فهو مرتبط مع الفكر الحديث ولا سيما ديكارت. وبرأيه إن خطابات الجسد في الخمسينيات أكثر تقدماً من خطابات الجسد في العقد الأخير، وتسأل عن انغلاق الثقافة العربية وإمعانها في النكوص كلما واجهت الأزمات وأكثر ما تصيب تلك الأزمات جسد المرأة فهي ميدان الفعل والحجب والقمع والتحريم.
بعد ذلك أجابت الباحثة على بعض الأسئلة، واجتمع الأساتذة منفردين وأعطوا الباحثة درجة ممتاز وبعلامة تسعون. ونشير هنا أن هذه الرسالة هي محطة في مسيرة الباحثة التي ستستكمل في دراسات مستقبلية في ذات الموضوع.


* هذه الفقرة من بداية مقدمة رسالة الماجستير.