أجنحة الفراشة



عبير قبطي
2004 / 4 / 6

"ستموتين بردًا"، هذا ما قاله لي جميع من عرف أنِّي عازمة على السفر إلى شمال إيرلندا، لم ينبهني أحد الى أنه من الممكن أن أتعلم أشياءً جديدة، ولم لا؟ ففي أي مكان نقصده، قريبًا كان أو بعيدًا، هناك ما نتعلم عنه أو منه. لا يهم، المهم أني سافرت الى شمال ايرلندا، إلى مدينة "ديري/ لندن-ديري" تحديدًا، (وكان وجود اسمين للمدينة بعض ما تعلمته في هذه الزيارة).
كان هدف الزيارة المشاركة في "لقاء نسائي إستراتيجي"، بهدف الخروج بأساليب وإستراتيجيات عمل جديدة لإيصال النساء الى مائدة المفاوضات ومحادثات السلام.

"أنا سائق سيارة أجرة سيدتي.."
إنطلقنا من مطار مدينة "بلفاست"، في سيارة أجرة سوداء (لاحقًا سأتعلم شيئًا عن لون سيارة الأجرة). كان السائق لطيفًا جدًا، طلبنا منه المرور في الأماكن المهمة في "بلفاست" والشرح لنا عنها. ربما كان طلبنا ساذجًا، لكن السائق لم يكن كذلك، خصوصًا حين علم أن اللواتي يُقلهن من الفلسطينيات والإسرائيليات.
كان المكان الاول الذي أخذنا إليه هو الجدران التي تفصل بين الكاثوليك والبروتستانت، الأحياء الكاثوليكية المحاطة بالجدران، كتابات "الغرافيتي" على الجدران، مراكز الشرطة بين الأحياء (الكاثوليكية والبروتستانتية)، كان السائق يشير الى هذه الاماكن، يشرح عنها ويتحدث الينا.
اصغيت له في البداية دون ان انبس ببنت شفة،عدا "نعم"، "نعم"، "نعم".. الى ان سألته احدى الراكبات الإسرائيليات: "سيدي، أعذرني اذا كان سؤالي وقحًا، ولكن.. هل أنت كاثوليكي أم بروتستانتي؟"، "أنا سائق سيارة أجرة سيدتي"، أجابها.
ابتسمت حينها، أحب هذا النوع من الاجابات. فمن أكثر منا نحن الفلسطينيين في اسرائيل لديه التجربة في محاولة تفريقنا بين مسلمين ومسيحيون ودروز وبدو والخ..
مرت بضع لحظات من الصمت، شعرنا بالحرج كلنا. انا شخصيًا شعرت بالرضى والفخر لأنه اجاب هذه الاجابة، كسرت الجمود وسالته: "هل ما زال هنالك عنف؟"، "نعم، ولكن في فترات متباعدة وحالات خفيفة، أقل بكثير مما كان قبل 1998" أجابني وعاد للحديث مجددًا.
كان حديثه مشوقًا جدًا. وبالنسبة لي، كان فيه العديد من المعلومات المهمة التي تساعدني على فهم صراعهم. تحدث إلينا عن المحطات التاريخية المهمة في صراعهم، منذ بداية "التلاحم" عام 1968، مرورًا باتفاقية السلام في "الجمعة العظيمة" عام 1998، وبكل ما حدث في تلك الحقبة من الزمن، كاضراب عدد من السجناء الجمهوريين عن الطعام في العام 1981 وموت العديد منهم، وأولهم السجين "بوبي ساندس".
حدثنا عن الهدنة أيضًا، أي وقف اطلاق النار/العنف عام 1994، ومحادثات السلام والتي امتدت بين 1993 و1998 الى أن أبرمت اتفاقية العام 1998، وعن مشاركة النساء في الاحزاب وغيرها.
كان أحد الأشياء المثيرة التي أخبرنا عنها، انه في "موسم المسيرات" الذي يمتد بين شهر نيسان وشهر أيلول، ينشط الحديث عن الصراع والمشاكل، ويبرز في هذه الفترة بالذات ارتفاع الأعلام الفلسطينية في المناطق الكاثوليكية، والأعلام الاسرائيلية في المناطق البروتستانتية، فالكاثوليك ينتمون بغالبيتهم الى القوميين أو الجمهوريين، يطالبون بانهاء السيطرة البريطانية على شمال ايرلندا والانضمام الى جمهورية ايرلندا. أما البروتستانت والمتمثلون بالحزب الموالي(LOYALISTS) فيصرون على البقاء مع بريطانيا العظمى. أي أن الكاثوليك يعتبرون انفسهم محتلون ولهذا يتعاطفون مع الشعب الفلسطيني.
كان واضحًا لنا أن سائق سيارة الاجرة مثقف جدًا ويعرف الكثير من المعلومات، أجاب على وابل اسئلتنا دون ملل. وحين كنا نصمت قليلاً لنستمتع بالمناظر الخضراء الرائعة كان يطلب منا ان نتابع ونسأل.
حين شارفنا على الوصول إلى مدينة ديري/لندن-ديري، كنا قد بدأنا بالحديث عن الموسيقى والأغاني التي تتحدث عن النضال والصراع والعنف والسلام. أسمعنا بعض الاغانيٍ، اغنية تتحدث عن الإرهاب "كيف تتجرأ أن تنعتني بالارهابي وانا ادافع عن وطني وبلادي؟"، اغنية اخرى تتحدث عن بوبي ساندس، من قيادة الجيش الجمهوري الايرلندي"IRA" والذي يعتبرونه بطلاً وطنيًا، فقد مات في اوائل الثمانينات بعد ان اضرب عن الطعام لمدة 66 يومً. كان بوبي ساندس رائدًا لثلاثة وعشرين سجينًا حذوا حذوه وأضربوا عن الطعام. عشرة منهم توفوا. سبعة سجناء تم حقنهم بالأغذية بموافقة الاهل وذلك بعد ان سن قانون يعطي السلطة الحق، بموافقة الاهل، أن توقف المضرب عن الطعام عن اضرابه بواسطة حقنه بالغذاء. الستة الباقون توقفوا عن الاضراب.
كان يتحدث بحرقة كبيرة وبحماس شديد عن هؤلاء المناضلين، لم يتطلب منا الكثير من الجهد لنعرف أنه كاثوليكي. ولكن في شمال ايرلندا الكاثوليكية ليست بالضرورة العقيدة الدينية، وانما –وغالبًا- هي تدل على الموقف السياسي.
وصلنا الى ديري/لندن ديري. في طريقنا الى مكان اللقاء شعرنا بشيء صدم السيارة، تسائلنا.. فاذا به يفسر لنا أن ما صدم السيارة هو كرة ثلجية. فنحن في منطقة بروتستانتية وسيارات الاجرة السوداء معروفة انها للكاثوليك. وصلنا الى مكان اللقاء، كان هنالك سؤال أردت ان أسأله منذ إنطلقنا من بلفاست،" سيدي لدي سؤال أخير أعتقد اني اعرف الاجابة عليه ولكني سأسأله لماذا يوجد لهذه المدينة اسمان، "ديري" و"لندن ديري"؟، إبتسامته جعلتني أفهم أنه متأكد من أني أعرف الاجابة ولكنه قال: "إختاري الاسم الذي تريدينه، ففي هذا موقف ايضًا".



النساء الى طاولة المفاوضات
في ديري، وتحديدًا في جامعة "اولستار" بدأنا لقائنا، نساء أمريكيات، إسرائيليات وعدد لم يكتمل من الفلسطينيات. والسبب هو الإحتلال. نساء امريكيات-نسويات (من بينهن امرأة قلسطينية الاصل تعيش في أمريكا) بادرن لهذا اللقاء. الهدف: الخروج بافكار جديدة لاشراك نساء في محادثات السلام في الشرق الاوسط.
كان اللقاء بعيدًا عن كل أشكال الحوارات التي عرفناها هنا. أولاً لم يكن اي تناسق بين المشاركات، من حيث الجيل، العمل، الخلفية والاراء. كان هذا اول ما تعلمناه: التنوع أمر ضروري لنجاح أي عمل.
كان من بين الموجهات إمراة امريكية، تدرس وتبحث في العلم المركب، كانت مهووسة بدراستها هذه، التي أخبرتنا عنها بحماس شديد. فهي تبحث تصرف المجموعات البشرية من خلال تجارب على الحاسوب، هي تحدد قواعد للتصرف وتعطيها للنقاط (التي هي تمثل الوكلاء-أي نحن) والتي تظهر على شاشة الحاسوب في حالة عشوائية، ثم تراقب كيف تتصرف هذه النقاط وفقًا للقواعد التي حددتها. في هذا العالم تنتج مصطلحات جديدة، ولكن حماسها للمصطلحات الجديدة التي تعلمتها ونقلتها لنا، كان في مكانه. فعلاً، ففي نشاطنا ونضالنا لانهاء الاحتلال والحصول على المساواة نحن بحاجة دائمًا الى أفكار جديدة، مصطلحات جديدة، ومنطلقات جديدة.
خمسة أيام في شمال إيرلندا بدأناها بدراسة المحطات البارزة في مسيرة النساء في اسرائيل وفلسطين ومشاركتهم في صنع القرار والتأثير. ثم انتقلنا الى الامور غير المتوقعة التي يمكن ان تحدث، وبعدها بدأنا ببناء استراتيجيات عمل جديدة. لم يكن الامر بسهلاً، فعندما نتعود على نمط عمل معين، ردود فعل بأشكال محددة من دون أي جهد للتخطيط والتجهيز لأحداث غير متوقعة، تصبح قابليتنا لتغيير أساليب عملنا أصعب.
كان الأمر الأهم الذي أجمعنا عليه أننا يجب ان نغير النظام. كانت هذه كلمة المفتاح في جميع جلساتنا، "يجب أن نغير النظام".
في بعض اللقائات شاركت نساء من ايرلندا، من منظمات نسائية مختلفة، تحدثن عن تجربتهن في ضم نساء الى مائدة مفاوضات السلام في شمال ايرلندا، وعن نجاحهم في ذلك. كما شرحن لنا كيف انهن الوحيدات اللواتي استطعن تأسيس حزب نسائي، "أئتلاف نساء شمال ايرلندا" الذي يجمع نساء ورجالاً من جميع الفئات، الجهات والتيارات. تم تأسيس الحزب عام 1996. وفي الإنتخابات التي جرت عام 1998 حصل الحزب على مقعدين في الهيئة العامة. لكنه عاد وخسرهما في العام 2003. ومع ذلك فإن إصرارهن على عدم اعتبار ذلك فشلاً وتصميمهن على مواصلة الطريق هو ما يستحق التقدير.

تحدثنا مطولاً عن "ظاهرة الفراشة"، والتي يتطرق اليها ايضًا العلم المركب. ظاهرة الفراشة تقول ان حركة اجنحة الفراشة تسبب الهوريكان. نعم من الممكن أن نصنع اشياءً صغيرة، لا اهمية لها اطلاقًا كحركة الفراشة. ونتيجة عملنا هذا، من الممكن ان نحدث تغييرًا كبيرًا.
ولم يكن مفاجئًا أن تقوم النساء الامريكيات بإهداء كل واحدة منا فراشة في نهاية اللقاء.


لماذا نحن-النساء؟

لا يمكن أن تُصنع القرارات على مائدة المفاوضات من خلال تجاهل ضمني لنصف المجتمع، ذلك أن النساء – أيضًا لكونهن الأكثر تضررًا من الصراع – يجب أن تشاركن في وضع الحل، مثلما أنهن تشاركن في دفع ثمن الصراع. كما أن لدى النساء حساسية أكثر لقضايا حقوق الإنسان، خاصةً وأن هذه القضايا يجب أن تكون مركبًا أساسيًا في أي معاهدة سلام. كما أن للنساء، بشكل خاص، قدرة على المصالحة، مما سيساهم في إنجاح المفاوضات، إضافة إلى الأهمية الخاصة لضمان التمثيل لأوسع تشكيلة ممكنة من الفئات والقطاعات..
نحن كنساء فلسطينيات واسرائيليات، لسنا بالضرورة متفقات على كل شيء، ربما لكل واحدة منا رؤيا مختلفة لشكل السلام، ربما الاسرائيليات لا يقبلن جميعهن بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، ربما بيننا كراهية، ربما افكار مسبقة تمنعنا من ان نتفق، ولكن شيئا واحدًا مؤكدًا هو أننا نستطيع الحديث عن كل شيء. نستطيع ان نبكي، أن نتألم دون أن نخجل او نشعر بالضعف، ونستطيع أن نتصالح.
تبلورت في اللقاءات عدة اقتراحات لدفع نساء الى مائدة المفاوضات، والى مواقع صنع القرار، والدعوة لتنفيذها لا تقتصر علينا، النساء التي شاركن، ولا على التنظيمات التي أرسلتنا ولا التنظيمات النسائية بشكل عام فقط. فكل شخص يمكنه ان يحرك أجنحته حيثما يشاء ومتى يشاء ولكنه حتمًا سيساهم في صنع التغيير الكبير.
من بين هذه الاقتراحات: حملة إعلامية واسعة حول الموضوع، كتابة مقالات، طرح الموضوع في مقابلات صحفية وانتاج أفلام. الأمر الآخر هو طرح مشاريع قوانين على طاولة الكنيست والمجلس التشريعي الفلسطيني تقضي بتخصيص أماكن للنساء على مائدة المفاوضات. ليس من المؤكد ان ننجح في تمرير القوانين، لكن الأثر هو طرح الموضوع على أجندة الراي العام. تحضير قوائم لنساء يمكنهن المشاركة في المفاوضات، تحضير مواد عن النساء وعن رؤية النساء لحل الصراع، لنكون جاهزات، في حالة بدء محادثات من دوننا، لأن نخرج ونتظاهر ونفرض أخذنا بالحسبان. صنع مفاوضات بين نساء فلسطينيات واسرائيليات والخروج بمعاهدة سلام.

سائق سيارة أجرى مرة أخرى
كان هذا في يومنا الأخير في "ديري". طلبنا من سائق سيارة أجرة ان يأخذنا الى البلدة لنتجول، أو لنتسوق بالأحرى. جلسنا في السيارة وكنا نتحدث، بالعربية. سألنا السائق عن هويتنا. "فلسطينيات" أجبنا. كان منفعلاً جدًا، رحب بنا كثيرًا، أخبرنا أنهم متعاطفون جدًا مع القضية الفلسطينية. كان إنفعاله غريبًا بعض الشيء ولكنه كان مؤثرًا. رفض أن يأخذ منا نقودًا وقال لنا: "هذا أقل ما يمكن أن نفعله، استمتعوا بزيارتكم لشمال إيرلندا". لا أعرف لماذا شعرته يقول لنا "أنتن فراشات، نعتمد عليكن بمواصلة التحريك بأجنحتكن".


*الكاتبة ناشطة سياسية فلسطينية من مدينة الناصرة في الجليل.