الهزيمة التاريخية للنساء - أصول إضطهاد النساء -



ليلى محمود
2009 / 3 / 27

يكاد يسود الاتفاق حول معاناة أكثرية النساء في المجتمع المغربي وكذا في باقي المجتمعات سواء منها الرأسمالية الإمبريالية كالولايات المتحدة الأمريكية وأوربا الغربية واليابان، أو الرأسمالية التبعية في إفريقيا وآسيا أمريكا اللاتينية.. كما يسود الإعتراف بأن وضعية المرأة في ما سبق من مراحل التاريخ لم تكن أفضل حالا من وضعيتها الحالية، وتجدر الإشارة إلى أن "جزءا" من هذه المعاناة يشاركها فيها أغلب الرجال بالنظر إلى انتمائهم ـ نساءا ورجالا ـ إلى الطبقات والفئات الاجتماعية الكادحة والمستغلة ( بفتح الغين ) والمحرومة. إلا أن هذه الإشارة لا تنفي أن "الجزء" الآخر من معاناة النساء يميزهن بصفتهن لا كادحات فقط بل بصفتهن نساء أيضا، لذا لا يشاركن هذه المعاناة الرجال وإن كانوا هم الآخرون كادحين.
ومن موقع النضال من أجل تحرر النساء من معاناتهن واضطهادهن، بل والتحرر من كل اضطهاد واستغلال نطرح سؤال السبيل إلى ذلك، أي كيف يمكن تحرر النساء المضطهدات ( بفتح الهاء ) ؟ وعبر أي طريق للنضال يجب أن يسرن من أجل تحقيق تحررهن؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة لا يمكن أن تكون علمية ودقيقة إلا إذا استندت على قراءة تاريخية لقضية المرأة، تتناول وضع المرأة في المجتمعات البدائية القديمة، وتطور وضعها المرافق للتطورات التي عرفها تاريخ البشرية، تجيب على أسئلة أكثر دقة: هل عانت المرأة واضطهدت ( بضم الطاء ) على مدى التاريخ، أم أن معاناتها لم تكن أزلية، بل ظهرت في مرحلة تاريخية ما؟ وإن كان الأمر كذلك فما هي أسباب هذا التحول التاريخي من مجتمع تنعم في المرأة بالمساواة مع الرجل إلى مجتمع تضطهد فيه ( بضم التاء ) ؟ وكيف تم هذا التحول؟ وعليه كيف تناضل النساء المضطهدة؟ مع من؟ ومن أجل ماذا؟ حتى تحققن المساواة الكاملة.
في هذه المقالة سنحاول تقديم الإجابات على هذه الأسئلة، بتبسيط وشرح مستفيض بالشكل الذي يقربها إلى أذهان القراء بوضوح لا لبس فيه.

I. في البدء كانت المشاعة:
عرفت المجتمعات البشرية تطورات منذ الأزمنة الغابرة القديمة إلى حدود الآن، مرت خلالها بمراحل اختلفت من مجتمع إلى آخر، إلا أنها جميعها خضعت لقانون التطور الموضوعي، إذ أن تاريخ كل مجتمع هو تاريخ تطور القوى المنتجة فيه والتحولات المتتابعة في أشكال علاقات الإنتاج وأنواعها الناتجة عنها (أي عن تطور القوى المنتجة)، كما أن علاقات الإنتاج بدورها تؤثر في تطور القوى المنتجة إما بتسريعه أو تأخيره وعرقلته ( أي التطور ) . راجع هوامش المقال للمزيد من الفهم
ويطلق لفظ "المشاعة" أو "المجتمع المشاعي" أو "المجتمع البدائي" على أولى المراحل التي عاشتها المجتمعات البشرية وتميزت بالمستوى الضعيف للقوى المنتجة وخصوصا أدوات العمل التي تشكلت في البداية من الأشياء الجاهزة التي توفرها الطبيعة (العصي والحجارة..)، ثم تطورت إلى أدوات من صنع الإنسان (أدوات قاطعة، رماح، سنارات صيد الأسماك..) وبالموازاة مع إتقان الأدوات، تطور وتحسن النشاط الإنتاجي وانتقل الإنسان إلى الاعتماد على الزراعة، ومن صيد الحيوانات المتوحشة إلى تدجينها وتحويلها إلى حيوانات أليفة. وقد كان للنساء الفضل في هذا التقدم الحاسم، إذ أنهن كن يبقين في غالب الأحيان بجوار المسكن نظرا لأسباب بيولوجية (الحمل، الولادة، الرضاعة..) وبالتالي كن أول من زرع بذور الثمار الملتقطة تسهيلا للتموين كما قمن بتدجين وتربية الحيوانات غير المؤذية..
إن المستوى المتدني للقوى المنتجة حتم علاقات إنتاج متناسبة معها، لذا عاش الناس في جماعات محددة تعرف باسم العشائر توحدوا فيها على أساس القرابة، زرعوا بصورة مشتركة وأدوات مشتركة، وبنوا مساكن مشتركة لجؤوا إليها هربا من الوحوش وقوى الطبيعة بشكل عام، وقسموا المنتجات بينهم بالتساوي لأنهم حصلوا على مقدار بالكاد يكفيهم ليظلوا على قيد الحياة، فلم توجد مِلكية خاصة ولا طبقات ولا استغلال وذلك للمستوى المتدني للقوى المنتجة.
بعد هذا العرض للبدايات الأولى التي عاشها الإنسان، والمستوى الذي كانت عليه القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج الموافقة لها آنذاك، نصل إلى المرأة ودورها وموقعها خصوصا وقد سبق أن أشرنا إلى ريادتها في اكتشاف الزراعة وتدجين الحيوانات اللذان يعتبران تطورا هاما إبان تلك المرحلة.
II. سيدة نفسها وسيدة المجتمع
بسبب سيادة الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج والتوزيع العادل والمنصف للمنتجات انعدم كل اضطهاد أو استغلال تمارسه مجموعة من الناس في حق مجموعة أخرى بما في ذلك بين الجنسين . وفي الوقت الذي كان فيه الرجل يتعاطى الصيد البري والبحري، كانت المرأة تقطف الثمار وتربي الحيوانات، إضافة إلى الاهتمام بتغذية الأطفال وحمايتهم من الحيوانات المفترسة والتحولات الجوية، وتعد الأعشاب لمعالجة الأمراض والجروح..
إن هذه الأنشطة المتعددة والأساسية قد أعطت الأولوية للمرأة على الرجل، لاسيما أنها كانت المسؤولة عن الحفاظ على النوع البشري من خلال رعاية وتربية وتنشئة الأولاد فكانت مساوية للرجل اجتماعيا وفكريا إن لم نقل متفوقة عليه، وكانت العلاقات الجنسية تقوم على أساس الاختيار الحر والاتفاق والرضى المتبادل بين الطرفين، في هذا المجتمع الذي يطلق عليه كذلك "المجتمع الأميسي" أو "نظام الأمومة" نسبة للدور الريادي للنساء والأمهات فيه. كان الانتماء للأم، فالأولاد ينسبون لأمهم ويتبعون قبيلتها، وانعكس تأثير المرأة في المجتمع المشاعي اقتصاديا واجتماعيا في الإنتاج الذهني والفكري، فاعتبرت الأساطير السائدة أن المرأة واهبة الأسرار والمعجزات، وكانت الآلهة المسؤولة عن التناسل والخصب والمانحة للذكاء من جنس المؤنث وكذلك العرافات قارئات المستقبل والجنيات والساحرات.. إلى غير ذلك.
و عليه ، إذا كانت المرأة في المجتمع المشاعي تحظى بكل هذا التقديس والأهمية والاحترام في ظل مساواة تامة على كافة الأصعدة، مع تفوق المرأة في بعضها داخل العشيرة أو القبيلة التي تنتمي إليها، فكيف تحولت إلى جنس مضطهد ( بفتح الهاء ) ؟ ثم كيف ظهرت الأسرة أو العائلة ككيان اجتماعي جديد في مقابل العشيرة والقبيلة اللتان سادتا في المشاعة؟

III. من المشاعة إلى العبودية
عرفت القوى المنتجة تطورا هاما بحيث تركت الأدوات الخشبية والحجرية مكانها نهائيا للأدوات المعدنية النحاسية، البرونزية والحديدية وتطورت صناعة الأسلحة وتوسعت دائرة الحروب بين القبائل والعشائر التي أصبحت مصدرا للتزود بالقوت، وزادت إنتاجية العمل بشكل أكبر مما تتطلبه حاجة كل فرد أي تم إنتاج كميات تزيد عن حاجة الاستهلاك، فظهرت إمكانات تراكم الإنتاج.
وقد أدى ظهور فائض الإنتاج إلى إمكانية توزيعه بشكل غير متساوي بين أعضاء القبيلة، وفي هذا السياق ظهر أول انقسام كبير للعمل، انفصلت خلاله تربية الحيوانات والرعي عن الزراعة، ثم انفصلت الحرف كفرع خاص في الإنتاج قام العاملون فيه بصنع أدوات العمل والأسلحة والملابس..الخ، وبالتالي ظهر تبادل المنتجات بين العاملين في فروع الإنتاج الثلاثة وبدأ يتطور.
وانسجاما مع التطور الذي حصل للقوى المنتجة في تلك الفترة عرفت علاقات الإنتاج هي الأخرى تطورا متناسبا معه، إذ أدى تضاعف كميات الإنتاج وتنوعها وانقسام العمل إلى ظهور الملكية الخاصة والفردية، فتفككت العشيرة إلى أسر التي صارت هي المالكة لوسائل الإنتاج واستأثرت بالمنتوج الفائض عن الضروري لحاجتها.
ونتيجة لذلك برزت لأول مرة في التاريخ إمكانية تراكم الثروات بين أيدي أقلية وتحول الأغلبية إلى عبيد، ليتحول التاريخ البشري من مرحلة "المشاعة" إلى مرحلة جديدة هي "العبودية" أو "نظام الرق" القائم على عمل الأغلبية (العبيد) لصالح أقلية (الأسياد)، وتحول شكل المِلكية من الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج إلى الملكية الخاصة والفردية لها.

IV. الهزيمة التاريخية للنساء
نظرا لاهتمام الرجل العفوي في المشاعة بالصيد البري والبحري فقد أصبح أكثر تأهيلا للمشاركة في الحروب التي سبق أن أشرنا أنها أصبحت المصدر الرئيسي لجني الثروات، وهو ما رفع من شأنه، وعكس رأسا على عقب التقسيم القديم للعمل الذي كانت تتمتع فيه الأنثى بموقع متميز نتيجة أهمية الأدوار التي كانت تقوم بها، ليحط أعمال المرأة المنزلية إلى مرتبة ثانوية. وبتنامي تراكم الثروات والخيرات طرحت مشكلة انتقالها، إذ أنها كانت تنتقل في "نظام الأمومة" إلى إخوة وأخوات الرجل فيما يحرم منها أبناؤه الذين ينتمون لقبيلة أمهم.
ولما كان الأب هو مالك الأسلحة والأدوات وقطعان الماشية والعبيد فقد أراد أن يكون ورثته أولاده. وهكذا جاهد الرجل "السيد" من أجل إنزال المرأة من كرسي مجدها واعتلائه بما يتناسب مع دوره الاقتصادي الجديد، فألغي انتماء الأبناء إلى الأم وقبيلتها وأصبحوا ينتمون إلى اسم أبيهم ، كما ألغي حق الأمهات في الوراثة وحل الزواج الموحد بعد أن كان الزواج المتعدد أو المؤقت هو السائد في "المشاعة" وأعطي للرجل فقط حق فسخه بعد أن كان حقا للطرفين، وبالتالي استبدل نظام الأمومة المشاعي، بالأسرة الرعوية القائمة على أساس هيمنة الرجل الذي يريد أن تكون أبوة أولاده صافية لا غبار عليها حتى يورثهم الخيرات والثروات التي يمتلكها. بهذا عرف الجنس المؤنث هزيمته التاريخية الكبرى التي كان من نتائجها تحول النظرة إلى المرأة إذ صارت تعتبر أداة عمل وإنجاب الأطفال كما أصبحت تابعة لدائرة زوجها بعد أن كانت تابعة لدائرة أبيها، وصارت تقايض ( بفتح الياء ) مقابل ماشية أو أسلحة عند زواجها، وكل بادرة علاقة جنسية خارج إطار الزواج تقوم بها كانت تعاقب بالموت، لأنها بذلك تزرع الشكوك حول شرعية أبناء زوجها. وقد انعكست هذه التغييرات الاجتماعية على التصورات الذهنية السائدة في تلك الفترة ليتحول تصور القوى الغيبية إلى صيغة المذكر بعد أن كانت مؤنثة فأصبح الحديث عن الإله بدل الآلهة والجن بدل الجنية، والشيطان والملاك..الخ وكلها بصيغة المذكر. كما كرست الأديان والتشريعات البدائية وضعية المرأة هاته وقضت بالاٌ مهمة لها سوى إمتاع الرجل وخدمته والإنجاب.

V. خلاصات
1. المرأة لم تكن منذ الأزل مضطهدة ومستغلة ( بفتح الهاء والغين ) ، بل إن اضطهادها تاريخي مرتبط بشروط اقتصادية واجتماعية وفرت إمكانية ذلك بما يعني أن انتفاء هذه الشروط يوفر بالمقابل إمكانية تحررها من الاضطهاد.
2. كما أن الاضطهاد لم يكن أزليا، كذلك "العائلة" أو "الأسرة" كمؤسسة اجتماعية هي الأخرى لم توجد منذ الأزل إذ أن "المجتمع المشاعي" لم يعرف هذه المؤسسة وكانت القبيلة والعشرية هما الإطاران الاجتماعيان السائدان، ولم تظهر "العائلة" إلا كمؤسسة تستجيب للنظام الاجتماعي العبودي ولسيطرة الرجل الاجتماعية.
3. لقد كانت المرأة مساوية للرجل بل ومتفوقة عليه في أولى مراحل التاريخ البشري "المشاعة"، لأنه كان قائما على المِلكية الجماعية لوسائل الإنتاج وعلى التوزيع العادل والمتساوي للثروات.
4. على الرغم من التطور الذي عرفته أساليب الإنتاج طيلة تاريخ البشرية (أسلوب الإنتاج الإقطاعي، الأسيوي، الرأسمالي..) إلا أن اضطهاد المرأة ـ وإن اختلفت أشكاله ـ بقي مستمرا فيها جميعا نظرا لاستنادها على نفس شكل المِلكية الذي ساد أسلوب الإنتاج العبودي، أي المِلكية الخاصة الفردية لوسائل الإنتاج.
5. إن النضال من أجل تحسين أوضاع النساء يجب أن يرتبط استراتيجيا بالنضال ضد الملكية الخاصة والفردية لوسائل الإنتاج وضد كل أشكال الاضطهاد والاستغلال ومن أجل إقامة المجتمع اللاطبقي القائم على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج والخالي من كل أشكال الاستغلال.




هوامش:
القوى المنتجة: الناس الذين يتمتعون بالمعارف والتجربة الإنتاجية وخبرات العمل، إضافة لوسائل الإنتاج.
علاقات الإنتاج: علاقات الناس بالطبيعة وعلاقاتهم فيما بينهم خلال عملية الإنتاج، وتتبين هذه العلاقات من خلال شكل ملكية وسائل الإنتاج والعلاقة بين الطبقات خلال الإنتاج وتوزيع الثروة..
أسلوب الإنتاج: أسلوب محدد تاريخيا للحصول على الخيرات المادية، ويتشكل من وحدة القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج في مرحلة تاريخية ومكان محدد ما.

مثال مبسط: المجتمع الرأسمالي.
 القوى المنتجة: معامل ومناجم ضخمة، استخدام الآلات والتقنيات الحديثة، إضافة ليد عاملة مؤهلة وتقنية أكثر تطورا بكثير عن عبيد العهد القديم وأقنان العصور الوسطى.
 علاقات الإنتاج: طبقة البرجوازية المالكة لوسائل الإنتاج تستغل الطبقة العاملة التي لا تملك إلا قوة عملها التي تبيعها للبرجوازية مقابل أجر محدود أقل بكثير من القيم المنتجة ، يضمن تجدد قوة العمل وبالتالي استمرار الإنتاج.
 أسلوب الإنتاج: أسلوب الإنتاج الرأسمالي.