حمّالة الحطب.. عن المرأة والغزو!..



وديع العبيدي
2009 / 5 / 14

لم يكن ما حدث للعراق في ظل الاسلام ظاهرة يتيمة في نوعها، وانما هي جزء من ظاهرة عامة استشرت في عموم البلاد التي وقعت تحت سنابك خيل الغزو. وحري بالذكر أن كل عملية تلاقي بين طرفين أو عنصرين هي عملية ثقافية/ تثاقف. والمواجهة بين الثقافات أكثر حراجة من مواجهة عسكرية، وقد كتب لهؤلاء الخارجين من قمقم شبه الجزيرة ومن درع الصحراء أن يجدوا أنفسهم محاطين بأمم أعرق منهم أصلا وأكثر ثقافة وأبعد في مضمار الدولة والحضارة. فكيف نظر مقدمة الغزو لأهل البلاد الجديدة؟..
الاجابة عن ذلك تتكشف في العودة إلى تاريخ تلك القبائل والجماعات وصورة توزعها القبلي والحضري في شبه الجزيرة وطبيعة أسس العلاقات المتحكمة فيما بينهم.
تروي كتب التراث أن أحدهم يشق في الصحراء فإذا صادف امرأة جميلة في طريقه رغب فيها وراودها عن نفسها، فإذا شاءت مكنته منها وأن لا، زعمت أنها (تحت) فلان. ان الجمال بحدّ ذاته سلطة تتحدى كيان الشخصية، عندما يجد نفسه ضعيفا أمامها، -انظر: فاطمة المرنيسي/ هل أنتم محصنون ضد الحريم؟- أو أن المرأة التي معه أقل منها حسنا وإثارة، فيسعى للسيطرة على غيرها، ونيل وطره منها، - أو إرضاء غروره فيها-. ذاك ان (الجماع) أو (السفاد) يتضمن من عناصر الحطّ والاذلال والتخسيس والعنف ما يوازي عناصر الهزيمة العسكرية أو الانتصار العسكري، الذي لا يكتفي بالوقوف على المشارف، وانما يدفع جنوده لاختراق القصبات والأحياء في جو احتفالي انفعالي أهوج تكون ذكراه أكثر قسوة من حرب على الحدود. وقد استخدم الجنس (البغاء) إلى أقصى حدوده في المؤسسة السياعسكرية والدينية، لاستحثات همم الجنود و(المؤمنين) للقيام بواجباتهم وخدمة قادتهم وفق أفضل شروط الطاعة والخنوع. فتوصيف المجتمع (بالمرأة) المحكومة بالطاعة والنفقة وترميز الدولة (بالفحل) الذي يحكم وينفق. وفي العهد القديم أشيع استخدام (الزنا) وفي الاسلام (البغي) تعبيرا عن مخالفة الوصايا أو المروق عن التقليد (الدين). وكان محمد وأتباعه يستحثون همم الرجال للغزو وذلك بترغيبهم في نساء العدو من سبي وغنائم وعبيد. وطريفة هي القواعد (التراتبية) التي اتبعتها جيوش المسلمين في تقسيم (الحريم). هذه الجدلية العضوية بين (نصرة الاسلام) عادت للبروز مع انتشار (الاسلام السياسي) الذي زاد من معدل جرائم الاغتصاب وخطف النساء والبغاء حيث انتشروا- سيما عقب الغزو الأمريكي للعراق، الذي دفعت المرأة العراقية ثمنه أكثر من سواها!-. أليس هذا مبعثا على التناقض بين مفهوم ديني يدعو لبناء مجتمع صالح وعفيف ومقدس، وبين انحطاط القائمين (العسكر) والقوامين (في الدولة) إلى أحط مستويات الغريزة والفساد والبغي باسم الدين؟. هذا الوضع يلقي على مؤرخي العراق مهمة إضافية لم تخطر لهم بحسبان، وهي أهمية وضع تصانيف وتواريخ لعلاقات أولي الأمر الجنسية والنسوية وعدد محظياتهم ونسائهم وملكات اليمين، مع أهمية تدقيق العاملين بإمرتهم من رجال مرفقين بصور قيد العائلة وما لهم من نساء وبنات ومحظيات. ان السؤال الذي يخطر في قراءة عراق الأمريلامي هو حياة الساسة والجندرمة وبقية الولاة الزوجية والجنسية قبل الغزو، وحياتهم الجنسية بعد الغزو. أما السؤال عن أوضاعم المالية وحساباتهم البنكية قبل الغزو وبعده فهو أقل أهمية، في بلد لم يعد فيه للخراب موجع، ولا للبناء موضع.
*
لماذا المرأة..
المرأة هي وجه العائلة والمجتمع، هي القنطرة الممتدة نحو المستقبل، وبها ومعها يمكن توسّم ملامح ذلك المستقبل. البدو يحجمون عن حمل نسائهم معهم في الغزو أو الصيد أو التجارة، ويتركون عليهن حراسا وخدما يتولون حمايتهن وخدمتهن. و أعرافهم ما زالت تقرّ بجرائم قتل الشرف (Honor killing)، لقطع ذكر من يلوث إسم (شرف) العائلة.
الأمر الذي يحرصون على تفاديه في أنفسهم، هو تماما ما يحرصون على ايقاعه بأعدائهم أو مناوئيهم. ومفهوم العداوة هش وقصير النظر لدى البدوي. ضمن هذا الاعتبار، كان البدوي الغازي من أجل الحصول على الطعام، لا يتورع عن حمل ما يجده في طريقه من نساء وفتيات. فجهاز الهضم ينتهي بجهاز الجنس، فإذا أكل وشبع صار يفكر بالجنس والرفس، متناسيا ما تلزمه الأفواه الجديدة من طعام، وهو الذي اعتاد (وأد) مواليده من الاناث (خشية إملاق) وضيق ذات اليد. ان فعل الغزو ليس ممارسة عسكرية مجرّدة، أو حرب تقتضيها أهداف سياسية أو اقتصادية، وانما هي حرب نفسية في الدرجة الأولى. تتحكم فيها عوامل الفراغ والامتلاء النفسي قبل كل شيء، وما يشاع فيها عن الشرف والكرامة، هو بمثابة جوائز اليانصيب المجانية أمام جنود لا يملكون من الدنيا شيئا غير قواهم الجسمانية، وجوعهم التاريخي الذي لا يُسَدّ. من الظواهر التي كان لها ردود فعل سيئة في حرب الثمانينيات (الخليج الأولى)، هو اعتداء بعض الجنود على نساء وعوائل الطرف الآخر. عندما تراجعت خطط المعارك وخفت القتال (الهجمات المنظمة) حدث أمر غريب، فصائل عسكرية عراقية برفقة ضباطهم قاموا باجتياح قرى عراقية مجاورة لهم وانتهكوا أعراض نسائهم.
هرج ومرج يدعمه جبروت عسكري ورغبة في التسلية وتفريغ نزعة الانتقام والتسلط. في قواطع أخرى، كانت الوحدات تسطو على قطعان العشائر لاقامة ولائم كبرى للضباط لمناسبة فطور رمضان. ولا بدّ أن أبناء العشائر المغزية كانوا يخدمون في وحدات الجيش تحت عنوان الدفاع عن (الحرمات والشرف والحلال). لا وجود لشيء أسمه المبادئ. واثنان لا تجتمعان، الغريزة والقيم الخلقية. كل غريزة هي انحطاط، مهما كانت مبرراتها وظروفها، وكل امتناع عن غريزة، سمو ونبل، مهما كان ثمنه. صحيح أن حركة التاريخ تنمو بالغرائز، ولكن الانسان، كقيمة، ينحطّ وينحطّ، مع انشغاله بالغريزة. وهذا سرّ التناقض ما بين التطور المادي وتراجع مفهوم الانسان. فإذ يحتفل البشر بما لم يسبق من رقي الكتروني وتكنولوجي، تعود قطعات كبرى من البشرية إلى مراتب لا تنقصها الهمجية على صعيد التعاملات البينية والأغراض الضيقة.
في حملة نابليون يتم توصية أعضاء الحملة بضرورة الحذر في التعامل مع الأهلين واحترام عاداتهم وتقاليدهم التي لها شأن أقرب للقداسة في حياتهم. هكذا تعامل الفرنجة مع أهل مصر، فنقلوا إليها ثمار حضارتهم وجنى علومهم وفنونهم. وبقي ذلك علامة عصر مصر الذهبي في الشرق الأوسط حتى عهد السادات وفتح المجال امام الاسلام السياسي السلفي الذي أعاد جرائم النساء والبغاء إلى صدارة المجتمع.
في جرائم دارفور كان الجنود يجمعون الفتيات والنساء ويجري اغتصابهن أمام عيون أهاليهن.. هذا هو مغزى الغزو عند من تنقصه الحضارة والتمدن. ففعل الاغتصاب هو إذلال لشرف العائلة، القبيلة، المجتمع، الوطن. وعندما يذل الشرف ينتهي الأمر، لا يبقى مبرر للمقاومة، لا يبقى شيء ذو قيمة!، أو أن المقاومة مهما بلغت لن تعيد شرفا مراقا..
كان الجنود والأمراء والشيوخ يتبارون لمجامعة سبايا الغزو، - تحقيق انتصار عسكري في الفراش- . بل أن علامات الخوف والذلة على وجه الأسيرة، تزيد من إثارة ذئبية المهزومين داخل ذواتهم، فينقضون عليهن كالفريسة، كالذئاب. الاغتصاب فعل جرمي نفسي ينصرف اليه نوع من المرضى الذي يعجزون عن تلبية حاجاتهم في مجتمع اعتيادي وحياة طبيعية، مما يشيع في أوساط المجتمع الأمريكي نفسه.
في تحليله لانتصار البداوة على الحضارة ركز ابن خلدون على عامل العصبية والرياضة البدنية التي تسم الجماعات البدائية، وتتراجع مع تقدم المدنية. وكان باستطاعة ذكاء محمد أن ينسب تلك الغلبة إلى (نصرة إلهية!). اله ينصر البغي والعدوان والخراب والبغي، انه يدمر مجتمعات ليطعم تنابلة البدو. وهو ما يتم تدريسه في مناهج التاريخ والوطنية والديانة رغم أنوف الطلبة من أبناء البلدان المحتلة.
وعندما تكون للدين والاله والوطنية والقومية والتربية الاجتماعية هذه الملامح القائمة على البغي والعدوان، كيف تكون صورة الطفل/ المتغذي على هاتيك السموم التراثية المقدسة!.. نزعة غريزية وازدواجية في القيم والسلوك.
المرأة عنوان الجماعة، عنوان المدنية، وحسب صورتها في المشهد الاجتماعي، تتحدد صورة المجتمع ومكانته في المسرح الأممي. ويبدو أن ما ذهب إليه ابن رشد في هذا المجال، كان إشارة إلى مدى فعل البداوة في نظرية الحكم والبناء الاجتماعي، حيث البداوة (البداءة) على طرف نقيض من المدينية والحضارة. فأن معاملة المرأة والنظرة إلى الانسان (بناء الله!) مختلفة بين الاثنين بما لا يقبل المساومة.
*
المرأة العراقية..
أصابت حرب الخليج الأولى والثانية المرأة العراقية في الصميم، عندما أنتجت ما يزيد على مليون أرملة، وملايين اليتامى. بعد حرب الخليج الثانية سمح النظام بحالة من التحلل والفوضى في صعد المجتمع والمؤسسات والاعلام، سمحت باستشراء علني لمظاهر الفساد والأمراض الاجتماعية ودخول تيارات دينية واجتماعية كانت محظورة من قبل كالوهابية والأخوان والمخدرات وما شابه. تراجعت القيم الاجتماعية واستشرت ظواهر زواج المتعة وسواها من دعارة وعهر شرعي وغير شرعي. وفي حين كانت تعليمات مشددة تمنع الزواج بثانية، حدث تساهل وتسيب كبير في معايير الزواج والطلاق سيما في صفوف الشباب. هذه المقدمة مهّدت لتطور أكثر انحلالا وفوضى بعد الغزو الأمريكي.
ضمن اجراءاتها العقابية عقب انتفاضة مارس 1991، لم تعن الدولة العراقية بانشاء مراكز ومؤسسات خدمية وتأهلية لافرازات الحروب السابقة، من أرامل وأيتام وأيامى، وأطفال بدون معيل. ولم يكن المجتمع العراقي، بعد، في المرحلة التي يسهم فيها التكافل الاجتماعي بتقديم العون اللازم، من أقارب أو غيرهم. وبالتالي كان ثمة تسيب على صعيد الشارع، اكتفت فيه الدولة بالفرجة، وحماية أمنها الخاص.
يشكل العامل الاقتصادي السبب الرئيس وراء التحلل الخلقي في المجتمع. وكان الانفتاح (الخصخصة) بمثابة (الضربة القاضية) على كاهل كثير من العوائل الضعيفة اقتصاديا. ان تراجع معدل الولادات والزيجات ابان حرب الحربين، انقلب إلى انفجار في حالات الزواج والولادات، عكس معادلات الواقع الاقتصادية الصعبة. فالجنس هنا بقي مجال التعويض الوحيد لكل الكبوتات والفقدانات.
اختفاء مؤسسة الدولة والنظام والحكومة والدكتاتور، كان بالنسبة للانسان والعائلة والجماعة هو اختفاء دور الوصي أو الأب أو الغطاء القيمي أو الرقابي. فظهرت النزعات الغريزية ومظاهر الكبت بشتى أنواعها، ظاهرة الفوضى وانعدام الغطاء دفعت كثيرا من العوائل للاحتماء بعباءة الدين لحماية البقية الباقية من القيم والتقاليد. لكن صعقات الواقع المتلاحقة غيبت عن ذهن الكثيرين، أن حركة المتغيرات السريعة لم تتركم حجرا على حجر- كما يقول المثل-. وأن المؤسسة الدينية تغيرت هي الأخرى، سواء بظهور جيل من الشباب، أو الاسلام السياسي المرتزق على موائد وهابية وخمينية أو بعثية صوفية، تختلف عن التقليد الديني الاجتماعي القديم. بعبارة أخرى، أن مظاهر الحجاب والتحجب لم تكن في حقيقتها غير أغطية سواء لممارسات خارج الاطار الاجتماعي أو العادي. ليست المرأة من يتحمل المسؤولية في هذا الانهيار، وانما الرجل الذي تنفست أوداجه وغرائزه على موائد الفوضى الجديدة، وأتاحت له مراكز النفوذ المستحدثة ، ليس مغادرة خنوعه، وانما مغادرة مركزه العائلي العائلي والاجتماعي المحافظ والانتقال الى نمط حياة قضت على اهتمامه بالاسرة والعائلة واستلبت معظم وقته ومشاغله. تعدد النساء والمحظيات ورفيقات الحكم والجهاد، قابله على الجانب الآخر، مفهوم الصداقة بين الجنسين. تتعدد أسبابها وعواملها، ولكنها تترك الباب لسوء الظن وسوء الاستخدام.
*
(سبايا بابلية)..
منعت البارات والملاهي في البلاد، وتحولت بعض المنازل بدائل تعويضية للحظر الخارجي. لكن المنازل التعويضية واداراتها النسوية استحدثت دور (المعلمة) من الأفلام المصرية، وصار لهذه شبكة تصطاد البنات والزوجات الغريرات لتنفيس هموم الزوجية، واقتيادهن إلى أحضان رجال (..) يتعاملون مع (المعلمة) وراء الستار. وللشبكة أساليب كثيرة ومثيرة للصيد والترويض والترويج. في رواية عراقية، سألت فتاة أحد مكاتب التشغيل الأهلية التي انتشرت في العراق، فأعطتها عنوان عائلة تبحث عن مربية أطفال. ذهبت هناك، وكانت العائلة تحتاج فعلا مربية أطفال. ولكن بيت العائلة، في أيام محددة، يستقبل ضيوفا كثيرين، نساء ورجال في كامل الزينة والشياكة، وصارت العائلة تلح على المربية وضع الدهون وأدوات الزينة وارتداء ثياب سهرة لائقة. كان ما يجري هناك مجتمع صالون ارستقراطي لا عهد للمجتمع العراقي به. مجتمع عهر وتحلل وغرف جانبية.
في التسعينات ظهرت بوادر بغاء أولية ، امتد بعضها إلى فنادق الأردن الغالية، ثم الرخيصة. وانعكس ذلك سلبا على سمعة المرأة العراقية. أقول العراقية، لأن التشخيص الاجتماعي وبالاسلوب الدارج، ينتمي إلى عقلية قبلية ثأرية وينطوي على غرضية تقفز على الموضوعية والتحديد إلى حالة من التسيب والشمول. فالبغاء ليس ظاهرة حديثة ولا يوجد مجتمع منها براء. وهي تستحث بفعل ظروف اجتماعية معينة واقتصادية وتتراجع في غيرها، لكن ذلك لا يجعل منها حالة عامة أو سمة لمجتمع أو هوية لثقافة معينة. لكن ما هو أسوأ من السوء، هو التوظيف السياسي والاعلامي للظاهرة. لقد حاولت جهات معينة تغذية الموضوع لإضافة طابع جديد للعراقيين، وصل به الأمر حدّ تسخير قلم رئيس تحرير (سابق) لجريدة الحياة (السعودية) في عموده اليومي في الصفحة الأخيرة للنيل من الانسان العراقي والعراقية. وهذا ما يقرب الموضوع من مغزاه. عقدة البداوة والمرأة.
في وقت متأخر فتحت بعض بلاد الخليج أسواقها (الأسواق غير الأبواب وغير البلاد) لبعض العراقيين، وتحت غطاء هذا الموقف (العروبي الاسلامي) – في ظاهره-، عملت جهات منظمة تدير شبكات عهر وبغاء في عواصم الخليج السياحية، وهي التجارة الأكثر ازدهارا حتى الآن. (حاول موقع ايلاف السعودي الترويج لذلك أيضا، ومواقفه المغرضة من العراقيين ليست جديدة!).
على نقيض المثل (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)، عملت العروبة الاسلامية على تسويغ مصطلح (افترس أخاك ظالما أو مظلوما). فبعد استنزاف الدم العراقي في معارك وحروب دونكيشوتية، جاء دور اللحم العراقي للافتراس على مائدة عربسلاموية، حتى يتحد اللحم باللحم والدم بالدم، وعجبا لمثل أحمد أمين في وصفه مجتمع الغزو البدوي (أكبر أمم متحدة) من سبايا ومحظيات، كيف يغمض عينيه عن البغي والعدوان، وعن الحضارة والتمدن وحقوق الانسان!.
*
لندن
الرابع عشر من مايو 2009