المادة/ 41 من الدستور ومبدأ المواطنة العراقية..!



باقر الفضلي
2009 / 7 / 14

إنه لمن المفيد تأكيد القول؛ بأن من أهم منجزات ثورة الرابع عشر من تموز/1958 على الصعيد الإجتماعي، تشريعها لقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، ، الذي يعتبر من القوانين الأكثر رقياً وتحضراً في المنطقة، لما تميز به من نظرة أكثر عدالة ومساواة للمرأة العراقية مع الرجل في الحقوق الشخصية أمام القانون، ولكونه جاء شاملاً وموحداً لأهم القضايا المتفق عليها في المذاهب الدينية المختلفة في الشريعة الإسلامية وطبقاً للمقاصد العامة لتلك الشريعة..!

وبموجبه حققت المرأة العراقية مكاسب كثيرة فتحت أمامها الطريق لفك أسار العزلة والإنغلاق التي إرتهنتها قروناً في ظل عبودية التخلف والإسترقاق، والتحكم الذكوري المفرط بالتعسف وقبرها حبيسة الدار ومربية للخلف وصانعة للمتعة ..!


ولقد جاء من الأسباب الموجبة لصدور قانون الأحوال الشخصية رقم 88 لعام/1959 ، هو الحالة السائدة يومذاك والمتميزة [[“في تعدد مصادر القضاء واختلاف الاحكام ما يجعل حياة العائلة غير مستقرة وحقوق الفرد غير مضمونة، فكان هذا دافعاً للتفكير بوضع قانون يجمع فيه اهم الاحكام الشرعية المتفق عليها”.]]


فتشريع القانون يعتبر من الصفحات البيضاء، التي وبحق، ما يسجل لثورة الرابع عشر من تموز/1958، من منجزات التغيير التي لا تنسى، بعد قرون من ظلم المرأة وإستعبادها في ظل أحكام مبنية على إجتهادات فقهية متباينة، شرع لها لتكون قواعد شرعية ثابتة بعيداً عن مقاصد الشريعة نفسها، في المساواة والعدالة بين الرجل والمرأة، فوحدها القانون في أحكام مدنية تشمل جميع المسلمين في قضاياهم المدنية كعقود الزواج والطلاق والنفقة، وفي قضايا المواريث وغيرها من قضايا الأحوال الشخصية، لتبدو في معظمها أكثر ملائمة مع تطلعات الحداثة والتنوير والحضارة؛ كما وحد قضائهم، بعد أن كان مشتتاً في محاكم مختلفة تحكمها شراثع المذاهب الفقهية المتباينة، في الوقت الذي صان حقوق غير المسلمين من ذوي الأديان الأخرى بموجب لوائحهم الخاصة..!


فجاء تشريعه بالنسبة للمسلمين، وهم الفئة الأكبر في المجتمع، مقرباً ما بين تلك المذاهب وطوائفها، ومعززاً لمتانة النسيج الإجتماعي، وعاملاً ديناميكياً لمحاربة ثقافة الطائفية، وكل عناصر التعصب الديني والطائفي، ومانحاً المرأة مكانتها اللائقة في المجتمع، بعد أن وضع الظوابط الدقيقة والرصينة لحكم الشريعة في تعدد الزوجات، وفي مسألة المواريث والنفقة والحضانة..!


هذا أقل ما جاءت به ثورة الرابع عشر من تموز/1958 في حقل الأحوال الشخصية وحقوق المرأة، فما الجديد الذي جاء به عصر الديمقراطية الجديدة في العراق، ما يجعلها تفخر به من تغيير في شأن الأحوال الشخصية للمرأة..؟ هل كل ما تفخر به هو قرار مجلس الحكم رقم/ 137 الذي شاركت في إصداره، وهو القرار الذي تم بموجبه إلغاء قانون الأحوال الشخصية رقم 188/لعام/1959 أم هو نص المادة/41 من الدستور الدائم الجديد..؟؟!


مما لا شك فيه أنه قد كتب الكثير حول القانون المذكور، كما وقد جرت عليه بعض التعديلات السلبية منذ تشريعه بعد إنقلاب/1963، وهناك من منتقد له، وكذلك من يرى فيه قانوناً يتناسب والتطور الحضاري للمجتمعات، ويرفع الكثير من الغبن الذي لحق بالمرأة العراقية خلال عقود طويلة من الزمن، ويكفيه القول أنه يحضى بتأييد جميع المنظمات النسوية العراقية..!


وإذ تنشط لجنة تعديل الدستور في مجلس النواب هذه الأيام لدراسة الأمور الخلافية بشأن المادة الدستورية رقم/41 التي وضعت الأساس الذي ينبغي إعتماده عند القيام بتشريع قانون جديد للأحوال الشخصية، يكون بديلاً للقانون 188/1959 آنف الذكر، والملغي بموجب قرار مجلس الحكم رقم 137 كما أسلفت، فإنه من المناسب القول بأن ما يميز المادة/41 من الدستور؛ هو ترسيخها لحالة التباين الطائفي بين أفراد المجتمع الواحد ذي الديانة الواحدة، ووضع حواجز بين ابناء الطوائف المذهبية، بعد أن رفع القانون/188 لعام/1959 تلك الحواجز، وثبت من الأحكام ما كان متفقاً عليه بين فقهاء تلك المذاهب، فكان عاملاً مساعداً على التقارب والتزاوج بعيداً عن كل ما كان يفرق بين طائفة وأخرى، بسبب إجتهاد مذهبي، أو تفسير فقهي خاص، قد لا يجد ما يدعمه في ثوابت الأحكام الشرعية ومقاصدها العليا..!


فمهما يقال عن حرية الأشخاص في إتباع معتقداتهم المذهبية الخاصة في إدارة أحوالهم الشخصية، كالزواج والطلاق والميراث..الخ وكل ما يترتب على ذلك من تبعات ومتعلقات مع الآخرين، فإن مثل هذه التبعية لا تعني سوى تفرقاً بين أبناء المجتمع الواحد من ذوي العقيدة الدينية الواحدة، ما يدفع الى التنافر الطائفي من جانب، والإستقطاب الطائفي من جانب آخر، في نفس الوقت الذي يزرع فيه مقدمات النزاعات الطائفية، ويشيع ثقافة التخندق داخل الإسرة الواحدة، ويقتل بوادر الألفة والتقارب والتصاهر بين الأسر من المذاهب المختلفة، ويفتح الطريق أمام العزل الطائفي في السكن والإقامة، الذي بدوره يصبح عاملاً مساعداً يقف وراء التقسيم الكانتوني للسكان، وينثر بذور الكراهية والتخندق وراء الطائفة المذهبية، مما يضعف في النتيجة، أواصر التلاحم الإجتماعي الوطني، لتنعكس ابعاده الطائفية على الصعيد السياسي، وما له في ذلك، من تداعيات سلبية على مجمل حياة الناس في الأمن والطمأنينة والسلم الإجتماعي، مما يبني ليس فقط "جدراناً كونكيريتية" بين الطوائف حسب، بل يشيد جدراناً نفسية من الكراهية والبغض والتشرذم الإجتماعي لأجيال قادمة..!؟


الأمر الأهم في نص المادة /41 الدستورية، لا يكمن في مسألة التباين والإختلاف في أحكام الشريعة الإسلامية في بعض أمور الأحوال الشخصية، وهي في أغلبها أمور فقهية إجتهادية، يمكن تجاوزها من خلال إيجاد الصيغ المناسبة حول ما هو أقرب للتوافق بين المختلف عليه من تلك الأحكام، وهذا ما جاء به قانون الأحوال الشخصية رقم/188 لعام/1959 على الصعيد العملي التطبيقي؛


ولكن الأهم من كل ذلك، هو ما يكتنف روح المضمون الدستوري للمادة المذكورة، والذي تم الإشارة في أعلاه، الى بعض من تداعياته؛ فالغالب على المضمون المذكور، وهكذا يفهم بعد التدقيق في نص المادة المذكورة، هو حالة تكريس الإنقسام الطائفي الموجود ضمن أصحاب الديانة الواحدة على سبيل المثال (المسلمين)، وهم يشكلون أغلبية سكانية، مما يعني تكريساً للإنقسام المذهبي داخل المجتمع، ليصبح دستوراً تدعمه الدولة، وتؤسس بموجبه القوانين المناسبة التي تؤكد هذا التقسيم إجتماعياً..!


ومن هذا المنطلق فإن ما يقال، وعلى سبيل المثال، عن تثبيت الصفة المذهبية في بيانات هوية الأحوال المدنية للفرد العراقي لأغراض التعداد السكاني، إنما يجد أساسه الدستوري في جوهر نص المادة الدستورية /41 آنفة الذكر، وهو أمر لا يخرج في مردوداته عن تكريس للحالة الطائفية في المجتمع رسمياً، وما يستدعيه ذلك من تبعات سلبية خطيرة، أبرزها الدفع بإتجاه أن يبحث حتى أصحاب الديانات الأخرى عن مذاهب لهم في أديانهم الخاصة لبناء طوائفهم وفقاً لذلك..!


وحيث يجري الحديث في النص الدستوري هذا عن العراقيين دون تمييز، فهو ينصرف من أجل تنظيم أحوالهم الشخصية الى قانون يجمع بين دفتيه مجاميع من الأحكام من كل مذهب ودين، وعلى الصعيد القضائي مجاميع من المحاكم الشرعية بألوان وإختصاصات تتلائم مع تلك المذاهب والإديان، ومعروف ما لهذا من نتائج مربكة على مستوى العائلة الواحدة أوالقضاء، والعودة بحالة الأحوال الشخصية الى ما كانت عليه قبل أكثر من نصف قرن من الزمن قبل اليوم..!


ورغم ما قيل عن المادة/41 من الدستور؛ بأنها لم تأت بجديد في مجرى ما هو متعارف عليه من تعدد المذاهب والأحكام الفقهية بين المسلمين في شؤون الأحوال الشخصية، إلا أن الأمر البالغ الأهمية من الناحية الدستورية، هو أن هذه المادة، ليس فقط قد إعترفت من ناحية الدولة رسمياً، بوجود حالة التعدد المذهبي والطائفي بين المواطنين المسلمين حسب، بل أنها قد منحت هذا الواقع أساساً دستورياً، بتكريسها لإستمرار وجوده وتعميق حالة الخلاف والإختلاف بين ابناء الديانة الواحدة، وكذلك إذكائها للدفع بإتجاه الولاء الطائفي المقيت؛ ومن هنا تأتي أهمية المناداة والدعوة الى إلغائها من صلب الدستور، أمراً مفهوماً ومشروعا، لتعارضها مع روح الدستور نفسه، في شد لحمة النسيج الإجتماعي، وتكريس المواطنة العراقية كأساس لهذه اللحمة..!


فلا يخفى على أحد أن روح الدستور بشكل عام تؤكد على (المواطنة العراقية) بإعتبارها الأساس إعتبارياً ودستورياً في الحكم أمام القانون، كما جسدها نص المادة/14 من الباب الثاني/الفصل الأول/ الحقوق(**) ؛ فلها السمو والعلوية على جميع ما يذكره الدستور من أديان ومذاهب أو مسميات أخرى، وبالتالي فإن أية إجراءات تعديلية على الدستور في مجال الأحوال الشخصية، ينبغي أن تأخذ بالإعتبار مقصد وروح النص الدستوري المثبت في هذه المادة، وأن يبنى أي قانون قادم للأحوال الشخصية في طريقه للتشريع، في قصده ومحتواه، على مبدأ المواطنة العراقية، كما وأن يعتمد الولاء الوطني فقط على أساس هذا المبدأ، كي يكون منسجماً وغير متعارض مع روح ومقاصد الدستور نفسه..!


ولمجمل تلك الأسباب، يظل قانون الأحوال الشخصية رقم/188 لسنة/1959، بعد تشذيبه من التعديلات السلبية؛ القانون الأكثر صلاحية في مجاراة روح الدستور ومبدأ المواطنة، والأكثر ملائمة للمرأة والرجل على حد سواء، لما فيه من تقارب وعدالة للجانبين، والأكثر إنسجاماً مع مقاصد الشريعة النبيلة، والأفضل رقياً وتحضراً ومجاراة للعصر، إذا ما أرادت لجنة التعديلات ومن بعدها مجلس النواب، التوجه الى تشريع لقانون جديد للأحوال الشخصية..!
____________________________________________________
(*) المادة/(41): العراقيون احرارٌ في الالتزام باحوالهم الشخصية، حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، وينظم ذلك بقانون.
(**) الماد/(14):العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييزٍ بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي.