ديكتاتوريّاتنا الفردية



محمد أبوعبيد
2009 / 7 / 17

ليس الفرد في حل من توصيفات بعض الأنظمة الحاكمة، كالديكتاتورية، مثلاً، التي هي في أعين النقيض أمّ الديمقراطيات وأبهى أشكالها، لكن يبقى ميزان المنطق الذي يقرر الوصف الصحيح. عندما يتهاوى نظام ديكتاتوري، وإنْ ليس بمعاول محكوميه، تتعالى العواطف المشحونة بالوطنية، كاذبة كانت أمْ صادقة، ابتهاجاً بتخلص البشرية من أحد مكامن شرورها، ثم تتسابق الأطياف على تبني اقتلاع ذاك الشر.
أمام هذا المشهد الذي كان صرحاً من واقع فهوى، نتعامى عن المشهد الأصغر حيث الديكتاتوريات الأخرى التي تعشش في دواخل كثيرنا، وتنخر في الأجساد كما السوس في فرائسه.إحدى مصائبنا هي اعتبار أن النظام الحاكم هو المُدان على الدوام ،كما المؤسسة ،بينما الفرد في تصرفاته وسلوكياته أبُ الديمقراطية والمُنظّر لها، وتلِكُم هي الكذبة الكبرى، لأن يوماً واحداً يقضيه المرء في الشارع، أو في مجمع تجاري، سيرى بعينيه أشكالاً من الديكتاتوريات التي قد تكون غذاءً كافياً لكتاب ينتظر التأليف.
الأسرة في مجتمعاتنا، لو سيقت مثلاً، هي مرتع لبعض اشكال الديكتاتورية ،فكون الأب رب الأسرة، هذا لا يعطيه مطلق الحق في فرض كل ما يعتنقه ويعتقده على أفراد مؤسسته البيتية فقط من منطلق أنه الأب الحاكم، وإلا لا فرق بينه وبين حاكم الدولة إلا في بعض الاستثناءات كانعدام حالات الإعدام والاعتقال والنفي داخل الأسرة،" فدمقرطة" الأسْرة وممارسة الحقوق ليست من أشكال العقوق. ولأن الخلف يرث عن السلف، يظهر جلياً أن الإبن يرث في أحايين كثيرة عن الأب سلطته ،فيمارسها، رغم وجود الأب، ليس على الأشقاء، إنما على الشقيقات اللائي يصبحْن في المجتمعات العربية والمسلمة مجرد أحجار شطرنج يحركها اللاعب الذكر، ورقاباً يسلط عليها سيف ديموقليس، فلا فرق حينئذ بين ذاك الشقيق والطاغية "الرفيق". ولو كان الأب ديمقراطياً في تعامله مع أركان أسرته لجنّب الخلف إرثاً نَكْرهُ أن نراه وصفاً لأنظمة الدول.
أما الشارع فهو حلبة تتصارع عليها أنماط أخرى من الديكتاتورية. ذلك يتمثل في أنّ كل واحد من أغلبية لا بأس بها، يتصرف كما لو أن العامّ مُلكه الخاص، وأن الآخرين يعتدون على هذا المُلك وليس لهم حق فيه. ليست في الأمر مبالغة، فالسيارة وحدها كفيلة بتأكيد ذلك عندما يقودها صاحبها من دون مراعاة القوانين العامة التي تكرّم الإنسان صاحب الروح، وتحترم ما حوله من موجودات، ويجعل منها طاووساً يختال في فنائه الخاص، ويا ويْل امرئ آخر أطلق بوق سيارته للطاووس حتى يسير كما تقتضيه الإنسانية أولاً ثم القوانين، أو على الأقل لتنبيهه أنّ الإشارة الضوئية الحمراء اخضرّت. بماذا اختلف الطاغية إذنْ.
حتى في نقاشاتنا تنعدم حرية الآراء، وصاحب الرأي يعتقد أنه الصائب وغيره الخائب، فلا يحاجج في إثبات قوة رأيه ولا يأتيك بالقرائن والأدلة، إنما يأتيك بأنواع الشتيمة وكل أوصاف التسفيه، ولو كان معه سيف يطال رقبتك لجَزّها، فقط لاختلافك معه في الرأي، ولا فرق بين الكلمة الجارحة وحد السيف في يد الطاغية. إذا كنا نُسَرّ لانهيار الأنظمة الديكتاتورية، فلنسمح لأنفسنا أن تتخلص من شرور ديكتاتورياتها أولاً. إن مجتمعاً أفراده ديمقراطيون، حتماً لن يحكمه ديكتاتوريون.