الحجاب الإسلامي: من تأنيث الألوهية إلى تذكيرها/الجزء الثاني



ابراهيم ازروال
2009 / 7 / 31

لقد كرس الإسلام الحجاب والخماروالفصل بين الجنسين ليس بهدف اقصاء الجنسانية اللاارثوذكسية فقط ، بل لتكريس غياب الأنثوي وبروز الفكراني حتى في العلائق النكاحية .فالمرأة تحجب جسدها عن الآخرين ، وتحجب جمالها عن زوجها .فالافتتان بالجسد ، يعني الإطلالة من جديد على المقدس المسكوت عنه ، واستعادة البلاغة الشعرية ، المحظورة ، والاستنكاف عن الجهاد القتالي . فغواية المرأة يمكن أن تحول المحبة الطبعية إلى المحبة الشركية.
(....فأمرها فغنت وشرب يزيد وشرب الفتى وشربت الجارية ثم أمر بالأرطال فملئت ثم قال للفتى : سل حاجتك ؟ قال : تأمرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر :
مني الوصال ومنكم الهجر حتى يفرق بيننا الدهر
والله لا أسلو كمو أبدا ما لا ح بدرا وبدا فجر
فأمرها فغنت قال : فلم تتم الأبيات حتى الفتى مغشيا عليه فقال يزيد للجارية : قومي انظري ما حاله فقامت إليه فحركته فإذا هو ميت ، فقال لها يزيد : ابكيه ، فقالت : لا أبكيه يا أمير المؤمنين و أنت حي فقال لها : ابكيه فو الله لو عاش ما انصرف إلا بك فبكت الجارية وبكى أمير المؤمنين و أمر بالفتى فجهز ودفن ، و أما الجارية فلم تمكث بعده إلا أياما قلائل وماتت. )
(-شهاب الدين الأبشيهي – المستطرف في كل فن مستظرف – شرحه ووضع هوامشه : إبراهيم أمين محمد – المكتبة التوفيقية – ص.459)
فبدلا من الاستشهاد في مضامير الجهاد ،يموت العاشق من فرط العشق،بمحضر المعشوقة و الخمر والموسيقى .وفرط العشق لا يعني إلا تقديس الأنثى ، أي الإقرار بالتعديد . ومن هنا ، فإن المعيارية الإسلامية ، لا تتسع للجمال ولمستتبعاته التعبيرية والسلوكية والوجدانية ، إطلاقا . فلئن انشغل المقدس المحايث ، بالمزج بين الأنوثة والقداسة ، فإن الإسلام شرع للفصل بينهما ، وحكم الشريعة في كل تماس جنسي بين الجنسين .وهكذا مثل الإسلام ، نقلة من "الشعرنة "إلى" الشرعنة "، من صوغ الاستعارات والعواطف إلى تعيين قائمة المحظورات والمباحات ، في العلائق الممكنة بين الجنسين .
والواقع أن تشدد الإسلام المعياري ، في إقصاء الأنوثة من فضاءات التقديس ، وحصر العلائق بين الجنسين في النكاح الشرعي ، وإبعاد الجمال الأنثوي من المشهدية الاجتماعية والثقافية ،يرجع إلى اعتبارات ثقافية خاصة بالإرث الفكري للكتابيين عموما ، والى التاريخ العقدي للإسلام خصوصا .
فمن المحقق ، أن الفكرية التوحيدية لاقت مقاومة ثقافية كبيرة ، في الشرق الأدنى القديم ، الغارق في أنساق رمزية قدسانية متعددة .فالمقدس الوثني المحايث ، المتأصل في المخيال الثقافي الشرقي ، عنيد وقادر على العودة كلما تراخت المؤسسة الكهنوتية الأرثوذكسية للكتابيين .
( و أحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون موآبيات وعمونيات و أدوميات وصيدونيات وحثيات من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل لا تدخلون إليهم وهم لا يدخلون إليكم لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم . فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة . وكانت له سبع مئة من النساء السيدات وثلاث مئة من السراري فأمالت نساؤه قلبه . وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه . فذهب سليمان وراء عشتروث إلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين . وعمل سليمان الشر في عيني الرب ولم يتبع الرب تماما كداود أبيه . حينئذ بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين على الجبل الذي تجاه أورشليم ولمولك رجس بني عمون .وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن ويذبحن لآلهتهن .)
( الملوك الأول – الأصحاح الحادي عشر – 1-8)
فالمحبة تقود إلى عودة المكبوت أي إلى عودة المقدس بصيغة المؤنث ، مما يؤشر على صعوبة إزالة القداسة عن المؤنث وترسيخ المقدس البطريركي.والمسكوت عنه الأكبر ، هنا هو ارتكاز الفكرية التوحيدية على مستندات تعديدية ، رغم كل البلاغة التنزيهية المتعالية الظاهرة .
( فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزييين والحويين واليبوسييين .واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساء وأعطوا لبنيهم وعبدوا آلهتهم . فعمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب ونسوا الرب إلههم وعبدوا البعليم والسواري . فحمي غضب الرب على إسرائيل فباعهم بيد كوشان رشعتايم ملك أرام النهرين . فعبد بنو إسرائيل كوشان رشعتايم ثماني سنين .)
( قضاة : الأصحاح الثالث : 5-8)
يفصح الشاهد الكتابي ، عن تمزقات النفسية اليهودية ، وقوة إغراء القداسة الوثنية وانجذاب اللاوعي العبري إليها كلما خفت الخطاب الايلي/ اليهوهي .وتأتي المرأة في هذا النص ، كمقدمة مفضية إلى التعديد حتما .فالخطاب التوحيدي ، المبني على قاعدة الاصطفاء ،إذ يحلق في سماء التجريد ، يعجز عن إطفاء جذوة التعديد والوثنية المتوغلتين في الوعي واللاوعي الثقافيين بالشرق الأدنى القديم .فالتوحيد إذ يتوغل في التنزيه والتجريد والتعالي ،يتناسى قيعانه التعديدية ،وأنسغاه التشبيهية المبثوثة في طياته ، والقابلة للبروز والانبثاق ، كلما فقد الخطاب التنزيهي تناسقه وتماسكه .
وليست حادثة الغرانيق في هذا السياق إلا دليلا على عودة المكبوت في لحظة ارتباك في سيرورة ترسيخ الفكرية الإسلامية .فحادثة الغرانيق ، تمثل ، تعيينا ، عودة الأنثوي والتشريك والقداسة المحايثة إلى المشهد الفكري الإسلامي ، في لحظة اختلال دلالي حرج.
( قال السيوطي بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ( أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ) [ النجم : 19-20] تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى . ففرح المشركون بذلك وقالوا : قد ذكر آلهتنا ، فجاءه جبريل فقال : اقرأ علي ما جئت به ، فقرأ: ( أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ) [ النجم : 19-20] تلك الغرانيق العلى ، و أن شفاعتهن لترتجى. ففرح المشركون بذلك وقالوا : قد ذكر آلهتنا ، فجاءه جبريل فقال : اقرأ علي ما جئت به ، فقرأ : ( أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ) [ النجم : 19 -20] تلك العرانيق العلى ، و إن شفاعتهن لترتجى ، ، فقال : ما أتيتك بهذا ، هذا من الشيطان ، فأنزل الله ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ) الآية ".)
( - محمد بن علي الشوكاني – فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير – اعتنى به وراجع أصوله : يوسف الغوش – دار المعرفة – بيروت – لبنان – الطلعة الأولى – 2002- ص. -971)
لا شك في أن الانبثاق الفجائي لللات والعزى ومناة ، يفصح عن تجذر المقدس الأنثوي في اللاشعور الثقافي للجماعية الإيمانية الأولى؛ لم يكن العربي قادرا على إدراك الألوهية خارج مدارات التأنيث والتعديد ، وعد تذكير وتوحيد الألوهية بمثابة هرطقة .فتأنيث الألوهية ، دليل على الاستمرارية في التاريخ العقدي للشرق الأدنى القديم .ومثلما وجد اليهودية صعوبات كبرى في فصل اليهود عن إغراء الإلهات الوثنية ، فإن الإسلام استعمل آليتين في التعامل مع ظاهرة المقدس الأنثوي، لاحتواء المقدس النقيض وامتصاص حضوره الوازن في النفسية والذهنية :
1- آلية التقريع الساخر :
لقد أصرت الأدبيات الإسلامية الأرثوذكسية على نفي حادثة الغرانيق ، بدعوى لا موثوقيتها سندا ، ومنافاتها لمقتضيات الإيمان متنا .فتثبيتها يحمل على التشكيك الجوهري في كل المفاهيم العقدية ؛ وعليه ، فإن الوعي الإيماني ، يميل إلى إنكارها جملة كما فعل القاضي عياض وأبو بكر ابن العربي وابن كثيروالبيضاوي ، تلافيا لتسرب الشك إلى شقوق الخطاب والى ثغرات المعنى الشرعي .
( هذا توهينه من طريق النقل ، فأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة و أجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل عليه السلام وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا –وذلك كفر – أو سهوا وهو معصوم من هذا كله ...)
(-القاضي عياض – كتاب الشفاء بتعريف حقوق سيدنا المصطفى – اعتنى به وراجعه : هيثم الطعيمي ونجيب ماجدي – دار الرشاد الحديثة – الدار البيضاء – المغرب – 2003-ص. 303) .
و أيا كانت نوعية حجاج القاضي عياض النافي لحادثة الغرانيق ، فإن النص المؤسس ، يكشف عن إصرار العرب آنذاك على تأنيث المقدس ،وعلى اضطراه الشخص المؤسس إلى تفكيك الرمزية القدسانية القديمة ، والى التدليل على مفارقاتها الداخلية .والملاحظ أن الحجاج القرآني ، يقيس المواضعة القدسية على المواضعة الاجتماعية ؛ والحال أن للمواضعة القدسية ، جينيالوجيا موغلة في التاريخ العقدي ، للشرق الأدنى ، فيما ليست المواضعة الاجتماعية ، إذاك في العربيا ، إلا نتاج مخاض متأخر مطبوع بالتحولات الثقافية والتثاقفية للضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط .فالتشبث بتأنيث المقدس ، يفصح عن تجذر القدسانية المؤنثة في اللاوعي الثقافي وفي الذهنية الفكرية العربية ، رغم المفاعيل التوحيدية للحنفية الإبراهيمية وللبطريركية الزاحفة في ركابها .
يقول الشوكاني :
( ثم كرر سبحانه توبيخهم وتقريعهم بمقالة شنعاء قالوها ، فقال : ( ألكم الذكر وله الأنثى ) أي : كيف تجعلون لله ما تكرهون من الإناث ، وتجعلون لأنفسكم ما تحبون من الذكور ، قيل : وذلك قولهم إن الملائكة بنات الله ، وقيل المراد : كيف تجعلون اللات والعزى ومناة ، وهي إناث في زعمكم شركاء لله ، ومن شأنهم أن يحتقروا الإناث . ثم ذكر سبحانه أن هذه التسمية ، والقسمة المفهومة من الاستفهام قسمة جائزة ،فقال : ( تلك إذا قسمة ضيزى ) )
( - محمد بن علي الشوكاني – فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير – اعتنى به وراجع أصوله : يوسف الغوش – دار المعرفة – بيروت – لبنان – الطلعة الأولى – 2002- ص. -1419)


2- آلية الاجتياف الاضطراري :
تنهض الفكرية الإسلامية في تعاملها الإشكالي والصعب في ذات الآن مع النسق الرمزي التعديدي ، على الاجتياف والاستدخال .وليست أسلمة الحج ، إلا استجابة إسلامية متكيفة للذاكرة القدسانية التعديدية المتطلبة .فرغم حدية الحجاج النقلي ، وصرامته التوحيدية في تفنيد ودحض التماسك النظري للنسق التعديدي والتشريكي ، فإنه اضطر إلى الامتياح من معينه .وهكذا ، عادت القدسانية التعديدية ، لتغوص في الجذور ، وتمنح الخطاب التوحيدي ، إمكان البروز في الصيرورة التاريخية .
(حدثنا يحيي بن يحيي .حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قال : قلت لها : إني لأظن رجلا لو لم يطف بين الصفا والمروة ، ما ضره قالت : لم ؟ قلت : لأن الله تعالى يقول : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) [البقرة : 158].إلى آخر الآية فقالت : ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة .ولو كان كما تقول لكان فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما . وهل تدري فيما كان ذاك ؟ إنما كان ذاك أن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر . يقال لهما : إساف ونائلة . ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة . ثم يحلقون فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما . للذي كانوا يصنعون في الجاهلية قالت : فأنزل الله عز وجل : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) إلى آخرها قالت : فطافوا . )
(-مسلم بن الحجاج – صحيح مسلم –اعتنى به : محمد بن عيادي بن عبد الحليم – مكتبة الصفا – الطبعة الأولى -2004- كتاب الحج – باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به– ص. 641)
استلزم اجتياف المقدس التعديدي هنا ، التخلي عن التعابيروالتجليات الصريحة للمقدس الوثني ، وإحداث تكييف ظرفي في المتن الطقوسي القديم ، حتى يستجيب لمتطلبات النظام الرمزي الجديد .فقد تم حجب المقدس التعديدي القديم وإخفاء انثويته الطاغية وزود بشخصيات مستعارة من النسق الرمزي التوحيدي ( آدم وزوجه) .وهذا الاجتياف ، هو المرفوض في رد فعل المتشككين في الشرعية العقدية لطقس الطواف بين الصفا والمروة خاصة أو للحج عامة كما نجد عند الحلاج وابن سبعين وابن عربي .
( قال الشيرازي : وحدثنا إبراهيم بن محمد قال : سمعت الحسن بن علوية يقول : سمعت طيفورا الصغير يقول : سمعت أبا يزيد يقول :حججت أول مرة حجة فرأيت البيت ، وحججت الثانية فرأيت صاحب البيت ولم أر البيت ، وحججت الثالثة فلم أر البيت ولا صاحب البيت . )
(- ابن جوزي – تلبيس إبليس – تحقيق : محمد عبد القادر الفاضلي – المكتبة العصرية – صيدا - بيروت – 2006-ص.330)
وهكذا، افرغ الفضاء القداسي التعديدي،ظاهريا ، من أبطاله الميثين ، إلا أن أسراره لا زالت تطل ، من ثنايا الطقوس المحينة والمؤولة بما يخلق توليفا بين القيعان التعديدية والسطوح التوحيدية . فالأنثى المقدسة ، لا تغيب اسما ‘ إلا لتحضر رسما وأثرا، ولا يلمع غيابها ، إلا بحضورها الساري في تعابير اللغة وفي استعارات الشعر وفي فضاءات الحج .
( أخبرنا عبد الحميد بن محمد قال : حدثنا مخلد قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه قال : حدثني مصعب بن سعد عن أبيه قال : حلفت باللات والعزى فقال لي أصحابي : بئس ما قلت قلت هجرا ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : "قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير و أنفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ بالله من الشيطان ثم لا تعد " )
( -النسائي – سنن النسائي –ضبط نصها : أحمد شمس الدين –دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان – الطبعة الثانية – 2005- كتاب الأيمان والنذور– باب الحلف باللات والعزى - -ص.617) .

والواقع أن الاجتياف يكشف عن السمة التركيبية أو التوليفية للمعتقد الجديد ؛ والتركيب مهما كان بارعا على مستوى الصياغة الخطابية ، كثيرا ما يخفى ، علامات التوتر واللاتجانس، مما يدفع الخطاب في كثير من الأحيان إلى السعي إلى تجويد العبارة كلما برز اللاتجانس المؤسس من خلال التجانس البياني الظاهر .وعليه ، فالتشديد على المنحى الذكوري البطريركي التوحيدي ، يفصح عن إرادة الاحتفاظ بالمكون التعديدي ، مخفيا في قاع الرؤية .فكلما التمع البيان ، توغل التعديد في الأصول .وتلك مفارقة ، لا يتأسس التوحيد إلا على صخرتها .
واستنادا إلى ما سبق فإن الإسلام المعياري ، ينزع إلى فكرتين :
1- الانقطاع عن المقدس المحايث الأنثوي ،
2- اجتياف بعض عناصره بعد تبيئتها وتكييفها وتلوينها إسلاميا .

يظهر الإسلام المؤسس كثيرا من التردد ، في معالجته للتعبيرات العمومية للجسد الأنثوي ؛ فالتقليص من حجم حضور الأنثى في المجال العمومي ، وفرض تشريعات موغلة في التحريمية ، لا يعنيان إلا استعصاء الأنوثة عن الاندراج في المخطط التأليهي الإسلامي . ومن هنا ، فالتشريعات والحدود ، ليست إلا الحل العملي ، لإشكالية الانفصال النظري بين الألوهية والأنوثة في الإسلام . فالانئسار للجسد والتغني به إلى حدود الوله والوجد والانصعاق ، يدلان على قدرة العشاق والمحبين على الارتفاع بالإحساس بالأنوثة إلى أقسى مراتب التأله .وكأن الشاعر والصوفي ، يحققان ما عجز التجربة المؤسسة عن انجازه ، في هذا السياق .
يقول ابن عربي في ( فصوص الحكم ) :
( فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهودا في منفعل ، وإذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه شاهده في فاعل .
وإذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورة ما تكون عنه كان شهوده في منفعل عن الحق بلا واسطة .
فشهوده للحق في المرأة أتم و أكمل ، لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل ؛ ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة .
فلهذا أحب صلى الله عليه وسلم النساء لكمال شهود الحق فيهن ، إذ لا يشاهد الحق مجردا عن المواد أبدا . فإن الله بالذات غني عن العالمين . )
(-محيي الدين بن عربي – فصوص الحكم – اعتنى به: عاصم ابراهيم الكيالي – دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2003- ص. 204)

ليست الشريعة ، بكل تحليلاتها وتحريماتها ، إلا الجواب الوظيفي ،عن البون الميتافزيقي ، القائم ، إسلاميا ، بين الألوهية والأنوثة .فالتشريع الردعي ، لا يأتي إلا في سياق أزمات كاشفة عن استحالة تحقيق التعالي الكلي ، واحتواء الأنثوي بكل ما ينطوي عليه من فرادة ونرجسية وتلذذ وغندرة واستعراض جمالي .

ومن الضروري التشديد هنا ، على عدم تمكن الإسلام من الاسلمة الكلية للجسد الأنثوي ، خصوصا في أشد لحظاته لصوقا بالجنس أو بالخصوبة أو بالغريزة .فالحائض والنفساء لا تؤديان الشعائر إلا بعد التطهر ، ومعنى هذا التعليق الظرفي ، للحياة الطقوسية ، خروج حالة الخصوبة والجنس والتوالد عن الاسلمة .فالاسلمة لا تطال والحال هذه ، إلا الجسد الموزع بين طبيعة مدجنة وثقافة رمزية مطبوعة بالمعيارية المتشددة للشريعة .إن الدورة العبادية لا تطال الجسد حين يفصح عن خصوبته؛ فكلما خضع الجسد لما هو أكثر طبيعية فيه ، نأى عن الفكرية ، ولا يعود إلى جاذبية المعتقد إلا بعد طقوس تطهرية مقننة بدقة .فالمرأة الحائض أو النفساء أو الجنب ، تعلق إسلامها ، وتعود إلى طبيعتها الجنسانية السابقة للأدلجة الثقافية للجسد .فكل حيض ، هو عودة إلى وضع طبيعي ، مناقض للوضع الفكراني ، المطبوع بالمآل الماورائي . إن الحيض علامة على عودة الطبيعي ، واحتجاب الثقافي ؛وعودة الطبيعي ، تحدث تقطعات في مسار التوحيد ، مما يشكك في شمول احتواء الإسلام ، للطبيعة وللزمان .فالطبيعة إذ تمنح الآيات الكونية ، لا تنسى ، التذكير بانتظامها الناموسي ، أي باستحالة" تثقيفها "، واحتوائها لغويا وبلاغيا .
( أخبرنا قتيبة عن مالك عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة : أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم استفتت لهاأم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيض من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بالثوب ثم لتصلي . )
( -النسائي – سنن النسائي –ضبط نصها : أحمد شمس الدين –دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان – الطبعة الثانية – 2005- كتاب الحيض والاستحاضة – باب المرأة يكون لها أيام معلومة تحيضها كل شهر -ص.65) .
و الأنكى من كل هذا ، أن المرأة مستعصية على الاسلمة ، طالما أنها تملك أكثر من وشيجة ورابطة مع العوالم الخفية . فالأسلمة والطقوس المصابحة لها ، لا تفلح على الحقيقة في" أدلجة " المرأة . إن للمرأة خصائص شيطانية أو طاغوتية ، يقف إزاءها الخطاب الإسلامي عاجزا ، عن إحداث النقلة وتغيير المهجة ، وتأنيث حلاوة الإيمان !
( حدثنا عمرو بن علي . حدثنا عبد الأعلى . حدثنا بن أبي عبد الله ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة .فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها . فقضى حاجته ، ثم خرج إلى أصحابه فقال : " إن المرأة تقبل في صورة شيطان ، وتدبر في صورة شيطان ، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله . فإن ذلك يرد ما في نفسه")
(-مسلم بن الحجاج – صحيح مسلم –اعتنى به : محمد بن عيادي بن عبد الحليم – مكتبة الصفا – الطبعة الأولى -2004- كتاب النكاح – باب ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه إلى أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقعها– الجزء الثاني- ص. 4-5)
يشيرهذا النص ، إلى صعوبة تأنيث الإسلام وأسلمة الأنوثة ، وأدلجة الجسد الأنثوي ، الموصول بالغرانيق أو ما يسمى إسلاميا بالطواغيت . وتتضح المفارقة أكثر في هذا السياق متى ، علمنا ، أن الإسلام لا يعد في العالم الآخر ، إلا بالأنثى .فالمسلم مطالب بالاندماج شبه الصوفي في الحياة الطقوسية ، وبالانخراط في الصلاة ، أولا وفي الجهاد ثانيا .فالصلاة والجهاد ، مجاهدات ، تفترض ، الاقتصاد في استعمال الجسد وتعاطي اللذات والمباهج الجسمانية في حدود شرعية مقننة بصرامة .
( حدثنا هشام بن خالد الأزرق أبو مروان الدمشقي ، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك ، عن أبيه ، عن خالد بن معدان ، عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من أحد يدخله الله الجنة إلا زوجه الله عز وجل ثنتين وسبعين زوجة ، ثنتين من الحور العين ، وسبعين من ميراثه من أهل النار ، ما منهن واحدة إلا ولها قبل شهي ، وله ذكر لا ينثني . "
قال هشام بن خالد : من ميراثه من أهل النار : يعني رجلا دخلوا النار فورث أهل الجنة نساءهم كما ورثت امرأة فرعون . )
(- ابن ماجة القزويني- سنن ابن ماجة – اعتنى به وقدم له : محمد بربر – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت- الطبعة الأولى – 2006-الجزء الثالث – كتاب الزهد– باب صفة الجنة –الجزء الثالث – ص .767)
فالمجاهد مدعو إلى الانفصال الذهني والوجداني عن الأنثوي وأن ينخرط في أشد أشكال التعالي صفاء وتجردا من الدنيوية ،عبر الاستعداد للاستشهاد والموت من اجل إعلاء راية التوحيد . فالصلاة والجهاد ، يفترضان ، التروحن ، وتغليب الإلهي على ما سواه ، والانتظام في عالم ذهني مخالف للعالم الدنيوي المجبول على النقصان والكدورة . فعالم الكمال والصفاء الموعود ، لا يمكن ، نظريا ، إلا أن يكون روحانيا ،أي منفصلا ، كليا ، عن التشبيه الأنثوي وعن إغراءات الجسد والتتيم بالآخر الأنثوي .فالتوله بالمرأة بما ما ينطوي عليه من مستتبعات طقوسية وعبادية، ضرب من التشريك في المحبة ومن تعديد في مقامات وأحوال التروحن والتعالي والتأله .والحال ، أن التلويح بسعادة أخروية مرتكزة على جنسانية استعراضية لم يرض كثير من المتفانين في التنزيه والتوحيد مثل البسطامي والحلاج ورابعة العدوية مثلا .
(...ثنا أحمد بن العباس المهلبي قال : سمعت طيفورا وهو أبو يزيد يقول : العارفون في زيارة الله تعالى في الآخرة على طبقين : طبقة تزوره متى شاءت و أنى شاءت ، وطبقة تزوره مرة واحدة ثم لا تزوره بعدها أبدا .
فقيل له : كيف ذلك ؟ قال : إذا رآه العارفون أول مرة جعل لهم سوقا ، ما فيه شراء ولا بيع إلا الصور من الرجال والنساء ، فمن دخل منهم السوق لم يرجع إلى زيارة الله أبدا . قال : وقال أبو زيد : في الدنيا يخدعك بالسوق ، وفي الآخرة يخدعك بالسوق ، فأنت أبدا عبد السوق . )
(- ابن جوزي – تلبيس إبليس – تحقيق : محمد عبد القادر الفاضلي – المكتبة العصرية – صيدا - بيروت – 2006-ص.321)
فالتوحيد لا يعد في المآل الماورائي ، إلا بالأنثى أي بجنسانية باذخة مرجأة ؛ وهذا ما أدخله بعض الصوفية في المكر الإلهي .لا يمكن أن تكون المطالبة الرمزية بفك اشتباك العقيدة بالأنوثة في العالم الفيزيقي والتاريخي ، والانتهاء بالتلويح بالجزاء الأنثوي الجنساني في العالم الماورائي ، إلا مفارقة ماكرة في التفكير الصوفي .إن نزع الأنثى المقدسة من المتخيل ، عملية شبه مستحيلة ، بدلالة استعادتها حينا في الطقوس الإسلامية ، وبناء الوعد الأخروي والسعادة الأخروية الكبرى ، على تعبد آخر في محراب الحور العين .وهذا ما دعا أبا يزيد البسطامي ، إلى تفضيل جنة المعرفة عن جنة النعيم .
هذه عناصر ، عن نزع الأنثوية في الإسلام وعن صعوبة هذه العملية الوجدانية والذهنية الصعبة . وقد أتينا بها ، للتدليل على ضرورة الإلمام بحيثياتها في أية محاولة لسبر أغوار مسألة الحجاب . وهي مسألة تتأصل كما رأينا في خطاب يتناص ، سلبيا ، مع النصوص الميثية القديمة للشرق الأدنى القديم ، ويتخذ مظاهر شتى ، حسب السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية .