المرأة و العمل



ليلى محمود
2009 / 9 / 5

يعرف موضوع علاقة المرأة بالعمل التباسا كبيرا، رغم كل السيول من الكتابات التي نشرت حوله طيلة التاريخ المعاصر من شتى الاتجاهات والمرجعيات المختلفة. وما زاد في خلق اللبس حول الموضوع تداخل مجالات متعددة في تناوله، الاجتماع، التاريخ، السياسة، الاقتصاد، الدين...
وغالبا ما يتناول عمل المرأة ــ حتى بالنسبة لبعض مناصري حقها في العمل ــ بالاعتماد على مسألة الحاجة المادية لها أو لأسرتها، التي تضطرها للبحث عن عمل تغطي من الأجر المقابل له نفقاتها أو تساعد في تغطية نفقات رب الأسرة زوجا كان، أبا أو أخا.. وعليه فعمل المرأة وفق هذا المنظور ليس إلا مصدرا للرزق ووسيلة الهدف منها هو تلبية الحاجات المادية.

وبالنظر إلى الوضع الدوني للمرأة في المجتمع، بحيث دائما مرتبة أقل من نظيرها الرجل، وينظر إليها ــ كما تنظر إلى نفسهاــ باعتبارها كائنا ناقصا وعاطفيا ( بالمعنى السلبي) وغير مسؤول، فعملها هو الآخر ليس إلا مساعدة ودعم ثانوي لعمل الرجل الرئيسي، ولا حاجة له إذا تمكن من إعالة الأسرة وتلبية حاجاتها الدنيا. ولأنه كذلك فلا ضير أن تعمل المرأة عدد ساعات أكبر فليس لها من المسؤوليات والحاجات ما لدى الرجل، وأن تتقاضى أجر أقل فهي على كل حال غير مطالبة بتأسيس أسرة وإعالتها، فكل ما تحصل عليه مقبول. ولأن رب العمل قبل بتشغيلها وهي الضعيفة، الهشة والمغلوب على أمرها فلا بأس إن كافأته بالمرور إلى " الفيلة" التي يقيم فيها للقيام بالأعباء المنزلية من طبخ وكنس وغسل الصحون... وأن تتغاضى عن تحرشه بها أو بابنتها البكر التي ترافقها فهو ولي نعمتها ومشغلها.

هكذا يصبح عمل المرأة أبو الشرور في المجتمع، فهو سبب تفشي البطالة، بمنافستها للرجل على مناصب الشغل المتوفرة، وهو سبب تدني الأجور لأنها تقبل العمل ولو بأجر متدن مقارنة بأجر الرجل، وهو سبب تفشي الانحلال الأخلاقي لأنه يمكنها من الخروج من المنزل والبقاء خارجه معظم اليوم بل وفي الليل أيضا، خصوصا وأن الشارع وطبيعة العمل يفترضان الاختلاط لتتحول المرأة العاملة إلى داعرة بالضرورة في منظور مرضى الهوس الجنسي والكبت الشبقي، الذين إن هم أعفوا عن اللحي وحلقوا الشوارب واختاروا الزي الأفغاني لباسا، نصبوا أنفسهم أوصياء على المرأة والمجتمع.
إن كل هذه الأحكام والمواقف تنطلق من أساس خاطئ وغير علمي، ليس فقط فيما يتعلق بالمرأة العاملة بل أيضا في تحديد مفهوم العمل وماهيته ، واختلاف طبيعته من مجتمع إلى آخر.
فالعمل هو النشاط الرئيسي الذي يميز الإنسان عن باقي الكائنات الحية، إنه خاصية إنسانية لا يشترك في ممارسته مع الإنسان أي من باقي الكائنات، وعبر العمل ينتج الإنسان العامل القيم والثروات والعمران.. معتمدا على ما توفره الطبيعة من مواد خام، إن العمل هو أساس وجود الحضارات البشرية المتنوعة، فتنوع الحضارات يعود إلى اختلاف مستوى تطور العمل وأدواته ومهارات وتجارب البشر العاملين. وصيرورة العمل لا تنتج فقط القيم والثروات المادية.. بل أيضا تنتج الإنسان الذي تتطور إنسانيته خلال العمل، من خلال اكتسابه خبرات ومهارات إنتاجية جديدة، وامتلاكه القدرة عل المزيد من الفعل والإبداع والتفكير. وعليه فمسألة العمل بالنسبة للمرأة هي مسألة إنسانيتها في أول وآخر المطاف، مسألة أن تكون أنسانا أولا تكون.

ويختلف شكل العمل من مجتمع إلى آخر، فالعمل المأجور مثلا هو شكل خاص للعمل يتميز به المجتمع الرأسمالي دون غيره من المجتمعات سواء السابقة على وجوده أو اللاحقة. إنه عمل مفروض على العاملات والعمال، يدمر الطبيعة من خلال الاستنزاف المكثف للمواد الخام والثروة الحيوانية والقضاء على المساحات الخضراء وتلوث الهواء... كما يدمر الإنسان العامل ومواهبه وقدراته الإبداعية من خلال تقسيم العمل الذي أخضع العمل والعامل للآلة في نفس الوقت، إذ لا يعدو العامل إلا مكملا للآلة أو جزءا منها، يقوم بعمليات جزئية وصغيرة في سلسلة الإنتاج، يعيد حركات بسيطة آلاف المرات يوميا، تشل إمكاناته الفكرية و الإبداعية .. وهو مطالب بكمية من الإنتاج ونوعية جيدة في وقت محدد لا يترك له إمكانية الراحة والتفكير.. يصبح الإنسان العامل في المجتمع الرأسمالي عبدا مملوكا للوقت، فالوقت كل شيء والإنسان لا شيء. وكنتيجة لذلك تجد العمال يكرهون عملهم يحاولون الهرب منه بكل الحيل، يجدونه كعقاب أبدي، نشاط قسري ومفروض بقوة الحاجة المادية والعوز والفقر الذي يعانونه.

إن الاعتبار المغلوط للعمل المأجور كشكل وحيد وتابت للعمل للعمل هو أساس النظرة الخاطئة إلى عمل المرأة بكونه ضرورة تفرضها الحاجة المادية لها ولأسرتها، فهي امتدادا لواقع العمل المأجور بشكل عام سواء بالنسبة للرجل أو المرأة.


إن تصحيح المنظور الخاطئ و اللاّعلمي للعمل بشكل عام وعمل المرأة بشكل خاص يضعنا أمام مهمتين رئيسيتين :

ـ 1 ـ النضال ضد كل العقبات والحواجز التي تقف عائقا أمام حق النساء الكامل في العمل باعتباره تجسيدا لإنسانيتها ولو تغلفت ـ أي الحواجزـ بالخطاب الأخلاقي أو الديني أو الاجتماعي...

ـ 2 ـ نضال العاملات ــ إلى جانب العمال ــ ضد العمل المأجور، العمل المفروض والشاق والمنتج لفائض القيمة من عرق العمال وكدحهم، والمكدس في الأرصدة البنكية للباطرونا والبرجوازيين ومن أجل العمل البديل كنشاط لجميع أفراد المجتمع المبدع والخلاق الذي هو استعادة للإنسانية الكاملة للعاملة والعامل، وللتحكم الإنساني في الطبيعة وحفاظا عليها.