نخلة عراقية ..تصارع آفة الحرمان



علي جاسم
2009 / 9 / 6

كعادتها تجلس وسط السوق الصغير الذي يتوسط منطقتنا الفقيرة تفترش الارض ببسطيتها المتواضعة التي اعتادت ان تبيع فيها الخضروات "الخضورات" تجاوزت عقدها الخمسيني لكنها ترفض ان تستلم لليأس وتصارع من اجل البقاء وتأبى ان تجلس حبيست البيت بين جدرانه المتآكلة التي تحمل ما تبقى من ذكريات حزينة وتسجل اثار دموعٌ تساقطت في لحظة الالم والعوز في ليالي الحصار الطويلة التي اهلكت الجميع ، ترفض ان تقع فريسة المرض والفراش لتصبح من الهامش بعد ان ينساها الجميع وسط زحمة البحث عن لقمة العيش ومتاعب الحياة الكثيرة..
"ام جواد" امرأة لطالما سميتها بالحديدية لانها لم تستسلم لظروف الحياة الصعبة بعد ان اخذت على عاتقها تعمل لسد متطلبات اسرتها ، رغم صغر حجمها الا انها تشبه الجبل الشامخ عندما تقف امام بضاعتها وبحركات خفيفة مصحوبة بكلمات عذبة تلتقط بيدها بعض الخضروات لتقدمها الى الزبائن ، هكذا هي تعمل منذ شاهدتها اول مرة عندما كنت في مرحلة الرابع الابتدائي ، حيث اصادفها كلما مررت في طريقي وسط السوق باتجاه المدرسة، القي التحية عليها كل صباح وتبادلني السلام بكلمات بسيطة تعكس سريرتها المجهولة ومستواها الاجتماعي البسيط ، كلماتها ترفض الذاكرة محوها من مخيلتي "هلة يمة، هلة بعلاوي شلونك وشلون امك" بهذه العبارة الجميلة استهل يومي ، اودعها وكلي حزناً على حالها ، اتمنى لواني املك شيء اساعدها به ، فحسبي لا املك الا الكلمات الطيبة اقدمها لها كل يوم.
هذه المراة تعمل بلا ملل ، لم تثنها متغيرات المناخ العديدة والمتقلبة عن الحضور كل يوم الى السوق للعمل ولم يحد من عزمها البرد القارس ولا زخات المطر الشديدة التي سرعان ما تحول منطقتنا اشبه ببركة ماء يستغرق طفحها لعدة اسابيع دون ان تحرك الجهات المعنية ساكناً، عشرون عاماً مرت وانا اشاهدها تتواصل مع الحياة دون انقطاع.
فكرت لاكثر من مرة اجراء لقاء صحفي معها لكني اتردد ، كنت اخشى ان ترفض ان تتحدث معي وتتصور اني ابحث عن قصة اسوقها عبر الصحف من اجل المال او الشهرة ، والحقيقة كانت عكس ذلك تماماً ، فالدوافع التي ساقتني لاجراء حوار مع هذه المرأة لا تتعدى من كونها دوافع انسانية بحتة تجسد واقع المرأة التي اثقلتها متاعب الحياة لتجد نفسها في قلب الاحداث تسير مع دوامتها السريعة والمتأرجحة ، دوافع تبحث عن صورة واقعية للمرأة العراقية التي سخرت وقتها وجهدها في العمل في الاسواق الشعبية والمصانع الصغيرة من اجل مواكبة الحياة وتأمين العيش الكريم الحر لاسرتها بعيداً عن مد يد العوز للاخرين تسترجي رحمتهم عليها، ، هذه الصورة كانت تدور في ذهني منذ كنت صغيراً وانا امر من امامها كل يوم وما اكثر النساء اللواتي يفترشن الارض في الاسواق الشعبية بعد ان اثقلتهن الحياة.
بعد صراع طويل مع النفس لملمت جرئتي واتجهت صوبها سعياً مني لاجراء حوار معها لتحدثني عن مشوارها مع هذا العمل المتعب الذي لا يأتي بارباح تمكنها من ادخار بعض المال "لايام الشدة" ، اكثر من مرة اصل اليها ثم اتراجع ، لم تسعفني جرأتي على الاقتراب منها والحديث اليها بالرغم من انها تحبني كثيراً وتلقي علية التحية كلما صادفتني ..
اخيراً سرت باتجاهها متردداً ، خطوة الى الامام واثنان الى الخلف ، لا اعرف كيف ابدأ وبماذا ابدأ واي كلمة اختارها لابدأ ، القيت عليها التحية كما تعودت ان افعل كل يوم فردت وبنظرة الحزن التي كانت تطوق عينها حدقت بي وأبتسمت ابتسامة ممزوجة بمعاناة السنين وكأنها تخبأ عالماً من الحرمان والالم والتعب خلف جفنيها، قالت " هلة بيك وميت هلة ، ها يمة كم باگة كرفس وريحان خليلك" ابستمت وبسرعة اخبرتها عن نيتي اجراء حوار صحفي معها للتحدث عن تجربتها المريرة ورحلتها الشاقة مع العمل ، نزلت عند رغبتي بعد ان طلبت مني ان لا اصورها فاتحةً امامي صندوق اسرارها المؤلم تاركة باب رزقها جانباً وكأنها استاذة جامعية تستعد لالقاء محاضرة على طلابها، بدأت الحديث عن حياتها منذ تزوجت وهي في عقدها الثاني عندما تقدم صديق والدها لخطبتها لاحد ابنائه، قالت" تزوجت وانا في الخامسة والعشرون من عمري ، لم تكن حياتي هانئة يوماً انجبت اربعة اولاد وابنتان ، احدهم يعاني من تخلف عقلي والذي كان حملاً اخراً يضاف الى بقية حمولتي ، بدأت رحلتي الشاقة مع الحياة عندما استدعي زوجي الى الجيش الشعبي عام 1986 ، فلم اجد امامي الا ان اتحمل المسؤولية ففكرت ان اعمل ، وبقيت افتش عن عمل يتناسب مع قدراتي ومعرفتي البسيطة بالحياة لكني عجزت عن ايجاد اية فرصة عمل ، وما كان امامي الا ان افترش بسطية صغير في هذا السوق لأبيع الخضروات .. مازالت تسترسل في حديثها " لا انكر اني واجهت صعوبات عديدة في بادء الامر ، اولها معارضة زوجي الذي رفض ان اعمل كونه يخجل من اقاربه واصدقائه ، لكن بعد اصراري الشديد عليه اضافة الى ظروف الحياة الصعبة وجدته راضخاً للامر الواقع.
توقفت برهة لبيع بعض الخضروات الى النساء اللواتي بدأن مندهشات من جلوسي على الارض بقربها املي ماتقوله الي بسرعة وارتباك ، اخذت نفساً عميقاً وكأني اتسلق قمة جبل ، لكنها سرعان ما عادت من جديد ، لم تحتاج الى التفكير او الوقت لتنطلق بكلماتها الصادقة الخارجة من الاعماق ، تابعت حديثها " استيقظ كل يوم الساعة الرابعة صباحاً سواء كان ذلك شتاءً او صيفاً ابدأ بترتيب بعض اغراض البيت ، احضر الطعام لابنائي ثم اتجه الى علوة جميلة حيث اشتري الخضروات ثم استأجر سيارة "جيب" هذا كان في السابق اما الان "ستوتا" لنقل بضاعتي التي تتكون من " الكرفس والريحان والكراث والفجل ، وغيرها" وعند وصولي في الساعة السابعة الى السوق افترش بسطيتي وسط السوق ،وعند الظهر اضظر لترك البسطية واذهب الى البيت لتحضير وجبت الغداء والاطمأنان على حال الاولاد ثم اعود مسرعة الى العمل الذي قد لا ينتهي لحد المساء وهكذا اقضي عملي يومياً".
خبأت حزني الشديد من هذه القصة وسالتها عن الصعوبات التي تواجهها كمرأة تعمل في سوق شعبي معظم اصحاب المحال فيه من الرجال ، قالت "لا انكر ان عمل المرأة في الاسواق الشعبي هو شيء صعب بالنسبة لها لاسيما ونظرة المجتمع لا ترحم لكن انا اعمل في هذا السوق منذ ثلاث وعشرون عاماً ومعظم اصحاب هذه المحلات انا ربيتهم وهم يساعدوني كثيراً وهذه ليست صعوبة بالنسبة للمرأة التي تعمل انما الصعوبات تكمن عندما ارى ابنائي يموتون جوعاً وانا اقف مكتوفت الايدي " تابعت "المرأة لاتختلف بشي عن الرجل وعليها ان تساعده في توفير متطلبات المعيشة ، فانا لا انكر ان الظروف المعيشية الان اختلفت تماماً عن السابق فاولادي يعملون وزوجي موظف لكن رغم ذلك انا لا استطيع ان اجلس في البيت لاجد نفسي يوماً مرمية في احدى المستشفيات مصابة بمرضٍ ما ، ان الحركة تمنحني الصحة والقوة "
بهذه الكلمات انهت هذه المرأة حديثها الشيق لكنها استطاعت ان تعبر بكلمات بسيطة مرتجلة ما قد تعجز عن تعبير عشرات الاستاذات الجامعيات ، كونها نقلت صورة واقعية لحال المرأة العراقية التي لم تجد فرصة للتعليم واجبرتها الظروف للعمل لموكبة متطلبات الحياة الكثيرة وضجيجها المعتاد.