البكيني مقابل الحجاب والأكفان السوداء



نضال نعيسة
2009 / 9 / 12

(نظام الماريشال البشير الإخواني السوداني حاكم الصحفية لبنى الحسين، على ارتداء بنطال ادعى أنه عير محتشم، ويتحدى القيم "العربية والإسلامية الأصيلة" هكذا، ومن الجدير ذكره أن السودان يعاني المجاعات والحروب الأهلية منذ فرض الجنرال الراحل النميري الشريعة الإسلامية وساعد في نفس الوقت، على تهريب اليهود الفلاشا للدولة العبرية).

وتنظر ثقافة المنظومات البدوية بريبة إلى المرأة بشكل عام، وإلى لباس المرأة كالبنطال والبكيني والسفور باعتباره مدعاة للفجور والفسق والانحلال والعياذ بالله. وأية امرأة تضبط مثلاً بالبكيني أو الشورت في شوارع المنظومة البدوية، وحتى بالبنطال، كما في حالة لبنى الحسين، "فياويلها ويا ظلام ليلها"، ولن يكون وضعها بخير على الإطلاق، بحجة أن ذلك يؤذي مشاعر المسلمين، ويحرض على الرذيلة وارتكاب المعصية أو الزنا بالنظر، على أقل تقدير. كما تطارد الشرطة الدينية، وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، النساء السافرات، وتدبر لهن التهم، وتفتش موبايلاتهن، وتزج بهن في غياهب السجون، في منظومة الخليج الفارسية، عموماً، التي يظهر أن النقاب والبرقع غير القانون، هو الزي الرسمي المفروض عليهن. فلا هم للأنظمة البدوية، شمالاً، وجنوباً، شرقاً، وغرباً، سوى عورة المرأة، وما بان وما ظهر منها، تاركين أمر الاختراعات والإنجازات الحضارية الكبرى، لليهود والصليبيين والكفار الآخرين الذين سخـّرهم، وخلقهم، الله تبارك وتعالى، فقط، وحسب الخطاب الدعوي الصحوي، من أجل تلك المهمة الإنقاذية النبيلة.

وتدور اليوم في أوروبا، وعلى غير صعيد ومحفل، أكثر من معركة ضارية، ومواجهة ضروس وشرسة، بشأن فرض الحجاب والبرقع البدوي، والأزياء المسيسة الأخرى في العمق الأوروبي النوراني العلماني المتحضر المتحرر، للتو، من كهنوت بيع صكوك الغفران. وبيع صكوك الغفران، في الواقع، هو غير غريب عن الثقافة البدوية، أيضاً، التي تهيمن على المنطقة منذ 1400 عام، ويماثلها تماماً، ثقافة الفرقة الناجية من النار التي تختص لوحدها، دون غيرها، بجنة الله. ويكفي الاستماع لبعض من وعاظ الأنظمة الكهنوتية الذين يرسلون هذا وذاك للجنة، ويبقون آخر في السعير والعذاب، لندرك مدى التقارب الفكري والرؤيوي بين الكهنوت الكنسي، والكهنوت البدوي، بل في مدى تطابق وتقارب الفكر الديني، جوهرياً، برغم تنويعاته الشكلانية والاسمية، وهو، امتدادات بعضه لبعض، ومنه ما يكمـّل الآخر. فحين يرسل واعظ بدوي، أو أي وزير ثقافة متأخون باطنياً، ومستعرب ظاهرياً، هذه الفرقة أو تلك إلى النار، ويحتفظ لنفسه بالجنة والحور العين، مع غلمانها المخلدين، فإنه يفعل تماماً، ما كان يفعله زملائه "المراحيم"، من القسس، أو الكهان القروسطيين الذين كانوا يبيعون دروايش الكاثوليكية وبهاليلها صكوك الغفران، والأراضي في الفردوس المقيم.

وآخر معارك الحجاب، تلك، هي ما تجري في مدينة أنتورب البلجيكية، التي أصدرت مدارسها قراراً بمنع ارتداء الحجاب في المدارس. وبداية، يمثل هذا السلوك غير المسؤول، واللانضباطي ذروة التحدي للقيم والعادات الغربية، واستفزاز لمشاعر السكان، وصراع محتدم بين قيم ماض موغل في بدائيته ورؤاه القاصرة والمحدودة، وقيم حاضر منفتح على كل الاحتمالات والثقافات ومتجاوز لكل ما هو آفل وضيق وماض. وهذه المعارك المفبركة التي يختلقها ويفتعلها البعض، بين الفينة والأخرى، في الغرب ما هي، في أحد وجوهها، إلا تعبير عن الشعور المر بالإفلاس والخواء والعجز الحضاري المقيم في مواجهة الغرب المتحضر، أو الإتيان بشيء مفيد وجوهري، فيتم اللجوء لهذه المعارك الجانبية والخلبية في محاولة مفضوحة لإثبات الذات، والإيحاء بأن لدى هؤلاء شيئاً ما وهوية متميزة وسلاحاً وتراثاً فريداً يواجهون به العالم ويميزهم عن العالم ألا وهو قطعة القماش تلك. فلو كان لدى هؤلاء المطرودين من بلادهم والفارين منها، قيم يعول عليها، وإنجازات أخرى يباهون بها، من الأساس، لما تباهوا لا بالحجاب ولا بالنقاب. أو لو كان لديهم دول تحترمهم، وتحترم خياراتهم الشخصية لما غادروها وعاشوا بشكل طفيلي على حضارات الغير وتعبهم وتنعموا بإنجازاتهم وإبداعاتهم. ولو حافظ الغرب على قيم الحجاب والتجلبب والتزمت والانغلاق التي يطالب بها هؤلاء، اليوم، لما وجد هؤلاء المهاجرون أي مفر ومهرب يلجؤون إليه، ولقضوا في بلدانهم كمداً، وفقراً، وقمعاً، واستبداداً، وحجباً وتحجيباً وتحجباً، ولما تمكنوا، ويا حسرة، وكل الحسرة، من المطالبة بلبس الحجاب ودفن المرأة في أكفان سوداء جثة هامدة بلا روح ولا إرادة، ولا أمل ولا مستقبل ولا أي عرق نابض بالبسمة والحياة.

ويجادل أنصار الحجاب اليوم بأنه جزء من ثقافة وتاريخ وسلوك، ولا تكتمل شخصية وكرامة وشرف المرأة، حسب رؤيتهم، إلا من خلال خرقة وقطعة قماش توضع على الرأس، ويغطى بها شعرها، هكذا بكل تسطيح وتسذيج لرسالة ومكانة المرأة المقدسة والعالية في الحياة، واختزال متعمد لدور المرأة الذي هو أكثر من مجرد كونها مفرغة لمكبوتات الرجال الجنسية، وكما هو وضعها الحالي المعاش، في هذا الجزء من العالم.

والحرية الشخصية أمر مصان ومقدس، وكلام جميل ونقف معه بكل جوارحنا، وندعمه، ولكن بشرط أن يطبق ويعمم ويقبل به في كل مكان من العالم. ومن هنا سنفترض قيام مجموعة من الفتيات "والنسوان" الغربيات، من بنات وزوجات الغربيين المقيمين في المنظومة البدوية، بارتداء البكيني والذهاب للمدارس بالشورت و"السوتيانة"، ومحاولة فرضها هناك على المجتمع المحافظ، في تحد للقيم الشرقية كما تفعل المسلمات في الغرب في تحديهن للقيم والحياة الغربية عبر رفضها وفرض بدائل لها. فهل ستسمح المنظومات البدوية للنساء بارتداء ملابس غير محتمشة تؤذي مشاعر الناس في بلدانها، كما تطلب ثقافتها بارتداء ملابس غاية في الاحتشام؟ أليس التطرف والمبالغة في الاحتشام، يوازي، من حيث المبدأ، المبالغة والتطرف في اللاحتشام، وهو بكلا الحالين اختزال لدور ومكانة المرأة في الحياة، ونظرة قاصرة لها؟ وإذا كان الحجاب ثقافة، فإن البكيني، ومتفرعاته هو، الآخر، ثقافة أيضاً. فلماذا يسمح بفرض ثقافة هنا، ويمنع فرض ثقافة هناك، من دون النظر إلى مضمون الثقافة، كونها تبقى في النهاية في إطار الممارسة السلوكية الخاصة والمصانة، وتعبير عن حرية فردية، وخيار شخصي؟

هذا، ويعتبر البكيني اليوم رمزاً من رموز تحرر المرأة وممارستها لحريتها الفردية، ورداً صاعقاً على النزوعات الماضوية التي كبلت المرأة على الدوام. كما يعتبر الحجاب، رمزاً لاستمرار أسر المرأة وانحباسها ورفضها التواصل مع العالم. ورغم أن البكيني لا يحرض الغربيين على الاعتداء الجنسي، وافتراس المرأة في الغرب كما يتوهم دعاة الحجاب، فإن فرض الحجاب، والبرقع، والمطاردة البدوية الأزلية للمرأة، في نفس الوقت، لم تمنع من ممارسة الرذيلة والشذوذ والانحلال، والاعتداء على المرأة، واغتصابها، ولم تخلق ثقافة فوبيا الجنس سوى مزيداً من الهوس والكبت الجنسي، إذ تسجل هذه المنطقة أعلى معدلات مما يسمى حسب اصطلاحنا بـ"وأد الكبيرات"، أو جرائم الدفاع عن الشرف، وهو نمط ممنهج وحق محفوظ دستورياً، لممارسة الجاهلية، علناً، بشكل آخر، التي لم تبرح، في الحقيقة، هذه الأصقاع يوماً، وبرغم الخطاب البدوي الزاهي والكاذب، عن الخروج التاريخي من نفق الجاهلية المظلم.

وإذا كان الحجاب هو رمز للمرأة المسلمة، وعصور الانغلاق والظلام المخيمة على هذه المنطقة منذ ألف وأربعمئة عام، فيصح القول بأن البكيني الغربي هو رمز لتحرر وانعتاق المرأة من كل تلك الأطر التي حاولت قوى الظلام فرضها عليها عبر تاريخ من القهر والاستحواذ والاستعباد، وحبسها في الأكفان السوداء طيلة الحياة.

لن تكتسب معركة الحجاب، والبرقع البدوي، في أوروبا، أية شرعية على الإطلاق، ما لم تعترف المنظومات البدوية بالبكيني كزي "شرعي" غربي، يجب أن يحظى بالاحترام والاعتبار لا كما ينظر له الفقهاء والوعاظ بازدراء واحتقار، وعلى أن تمنع مطاردته ومحاربته والقبض على كل من ترتديه في الشوارع والساحات العامة، وحتى على الشواطئ السياحية. أي واحدة بواحدة.

كما لا يحق للمسلمات المحجبات، في الغرب، وكما يفعلن في بلداهن المتواطئة مع الكهنوت الوعظي القروسطي، المطالبة بلبس الحجاب وتحدي قيم المجتمعات الغربية وثقافتها عبر احتقار الرجال باعتبارهم ذئاباً آدمية لا يؤمن جانبهم، ما لم يؤمِـنّ أنفسهن، بحرية المرأة الغربية في ارتداء ما تشاء من ملابس وثياب وعلى رأسها البكيني والنظر إليه وإليها باحترام وإجلال كما يطالبن بالنسبة للحجاب. فالحجاب في الثقافة البدوية، وكصاد للجنس ومانع له، هو امتهان للمرأة باعتبارها مجرد موضوعة جنسية تثير الغرائز والشهوات، وتستسلم فوراً وتذهب عذريتها وكرامتها وشرفها لمجرد خلعها للحجاب، وهذا تجن وافتراء بل ازدراء للمرأة واعتبارها مستسلمة لغرائزها ولا تتحكم بها وغير قول لا لأي ذكر يظهر أمامها. والبكيني في الثقافة الغربية هو رمز لانتصار المرأة على عوامل قهرها ودفنها وتسليعها، وممارسة الجاهلية الأولى عليها، وتحد لكل محاولات استحواذها، وتنميطيها، وتكفينها ودفنها في الحياة.