قاسم أمين وتحرير المرأة



محمد زكريا توفيق
2009 / 9 / 20

كان تأثير الإحتكاك بالحضارة الغربية على الفكر الإسلامى المعاصر خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كبيرا. فنجد رجال مثل جمال الدين الأفغانى والإمام محمد عبده، يقومون بمقاومة التخلف الثقافى والإقتصادى والسياسى للعالم الإسلامى. عن طريق الإنفتاح على الغرب وأخذ علومه وحضارته.

وهنا فى هذا المقال، أوضح تأثير هذه الأفكار فى الكتاب والمفكرين، الذين عاصروا الإمام محمد عبده. كان بعضهم أكثر جرأة، والبعض الآخر أكثر تحفظا. لكنهم اتفقوا جميعا فى طلب الإصلاح السياسى والإجتماعى بالنسبة للعالم الإسلامى.

فى عام 1899م، أصدر قاسم أمين ذو الثقافة الفرنسية، كتابا عن تحرير المرأة فى العالم الإسلامى. جاء فيه أن العالم الإسلامى فى إنحدار مستمر. بلغ به الضعف درجة تهدد وجوده. الدول والمجتمعات تحكمها قوانين التطور التى تجعل البقاء للأصلح. لا مكان للضعيف وسط الأقوياء. الفناء لمن لا يستطيع أن يتغير أو يتأقلم مع الظروف الجديدة. سبب تأخر وأنحدار الدول الإسلامية، هو تفشى الجهل، وغياب القيم الإجتماعية الثابتة. وعدم وجود علوم تبحث فى القوانين والروابط التى تحكم السلوك البشرى.

تخلف الدول الإسلامية يبدأ من الأسرة. العلاقة بين الرجل والمرأة، وبين الأم وطفلها. وهى علاقة أساسية فى كل المجتمعات. القيم التى توجد داخل الأسرة، هى نفسها القيم التى توجد داخل المجتمع. لكن فى المجتمعات الإسلامية، ليست للرجل أو المرأة دراية بما يجب أن تكون عليه الحياة الأسرية الكريمة. المرأة بصفة خاصة ليس لديها الحرية أو الثقافة اللازمة للقيام بهذا الدور.

ليس هذا بسبب الإسلام. الشريعة الإسلامية وضعت قواعد المساواة بين الرجل والمرأة. المشكلة أتت من الشعوب التى اعتنقت الإسلام، وفرضت عاداتها وتقاليدها التى تستعبد المرأة وتحط من وضعها الإجتماعى.

هذه الشعوب أفسدت أيضا نظام الحكم فى الإسلام. ولم تحدد بوضوح واجبات وحقوق كل من الحاكم والمحكوم. وأبدلته بنظام حكم إستبدادى، يعتمد على القوة الغاشمة. العالم الإسلامى على مر العصور وحتى اليوم، بإستثناء فترة قصيرة فى صدر الإسلام، نجد فيه القوى يفتك بالضعيف، والرجل يستعبد المرأة.

أساس المشكلة الإجتماعية فى العالم الإسلامى اليوم، هو وضع المرأة بالنسبة للرجل. إعطاء المرأة حقوقها وتحريرها من قيودها، لن يأتى إلا عن طريق التعليم. وطالما هى تعتمد على الرجل إقتصاديا، فإنها سوف تظل تحت رحمته، وعرضة لطغيانه، مهما أعطاها القانون من حقوق. التعليم فقط هو الذى سوف يحرر المرأة من ظلم الرجل، ويخرجها من سجن النقاب.

الدين الإسلامى لم يمنع ظهور وجه المرأة. النقاب يعوق المرأة ويمنعها من القيام بدورها المنتظر فى المجتمع. نقاب المرأة ليس له علاقة بالفضيلة. بل العكس، الممنوع مرغوب. وضع المرأة داخل النقاب، يطلق للرجل حرية التخيل بدون حدود.

النقاب ضار بالمرأة والمجتمع. ويأتى من فقدان ثقة الرجل فى نفسه وفى المرأة ، وعدم إحترامه لها. فهو لا يعتبرها تنتمى إلى المجتمع البشرى. لقد سلب منها إنسانيتها، وحولها إلى مادة لمتعته الجنسية فقط.

ليس هناك إمرأة سوية تقبل أن تشاركها إمرأة أخرى فى زوجها. تعدد الزوجات يسبب آلاما نفسية مبرحة للمرأة. تنعكس على حياتها وحياة أولادها. تؤثر فى نفسية الأجيال التى نعدها للمستقبل.

إذا كان لابد من تعدد الزوجات، فهى حالات خاصة. مثل مرض الزوجة الأولى، أو عدم قدرتها على الإنجاب. أو لنقص شديد فى عدد الذكور بسبب الحروب مثلا. فى مثل هذه الحالات فقط، يكون تعدد الزوجات، وبتنظيم خاص.

هذا يوافق مبادئ الشريعة الإسلامية، التى تبيح تعدد الزوجات، لكنها فى نفس الوقت، تحذر من عواقب هذا التصريح. بحجة أنه سوف يؤدى إلى الظلم وعدم العدالة. الله سبحانه لا يرضى أن نكون غير عادلين فى تعاملنا مع أقرب الناس إلينا. إذا كنا كذلك فى تعاملنا مع زوجاتنا، فكيف يكون تعاملنا مع الآخرين.

ما يقال عن تعدد الزوجات، يقال أيضا عن موضوع الطلاق. الطلاق هو أبغض الحلال عند الله. يترك الآن بدون قيد أو شرط للرجل. الرجل له الحق فى طرد زوجته، وتشريد أولادها دون مساءلة من أحد. فى حالات كثيرة، يتم الطلاق لمجرد إظهار بطولة الرجل وإستبداده. المرأة تطلب فى بيت الطاعة دون إرادتها، وتطرد من بيتها دون رغبتها. ولا تستطيع أن تطلب الطلاق، إذا حدث أن تزوجت إنسانا معتوها أو وحشا فى ملابس إنسان.

الطلاق بغيض بكل المقاييس. تأثيره مدمر بالنسبة للأولاد. السجون والعيادات النفسية مليئة بضحايا الطلاق. لكن له ضرورة. فقد تستحيل المعيشة بين الزوجين. يكون الطلاق فى هذه الحالة أقل الأضرار. لذلك، يقترح قاسم أمين، أن يكون الطلاق مقيدا بالقانون. وإذا سمح به، يكون للمرأة الحق فى الطلاق مثل الرجل.

حاول قاسم أمين التقريب بين أفكار الحضارة الغربية الحديثة وبين مبادئ الإسلام، بالنسبة لقضية المرأة. فيقول بأن أفكاره لا تتعارض بأى حال من الأحوال مع مبادئ الدين الإسلامى. ويهيب بالمسلمين ورجال الدين، لكى يعيدوا تفسير الشريعة فى ضوء نصوص القرآن الكريم، وصحيح الحديث.

هذا يعنى أنه إذا كان النص واضحا، فلا مكان للمناقشة وما علينا سوى السمع والطاعة مهما كانت النتائج. لكن إذا غاب النص، أو لم يكن واضحا، فمن واجبنا المصلحة العامة. التفسيرات القديمة أو حتى الإجماع، ليست مقدسة.

لا يجب أن توضع فى منزلة القرآن الكريم نفسه. وإلا نكون قد خلقنا أصناما جديدة، تشاركنا مقدساتنا، لكى تحجب عنا وضوح الرؤية. هذه التفسيرات، إن كانت تصلح لجيل ما، فهى نفسها قد تكون ضارة بجيل مختلف وزمان آخر.

أثار كتاب قاسم أمين، كما هو متوقع، معارضة شديدة داخل الأوساط الدينية. فى خلال شهور قليلة، ظهرت عدة مؤلفات ردا على كتاب قاسم أمين. بعضها يؤيده، والغالبية تهاجمه. فقام قاسم أمين فى عام 1900م، بنشر كتاب آخر أشد خطورة عن المرأة أسماه المرأة الجديدة. ليكمل فيه بحثه السابق عن وضع المرأة البائس فى مصر والعالم الإسلامى.

كتاب قاسم أمين الثانى يعتمد فى تحليله على العلوم الإجتماعية الحديثة. فنجده متأثرا بأفكار أوروبية لفلاسفة مثل هيربرت سبنسر وغيره. ونجد عبارات عن الحرية والتقدم والمدنية تملأ الكتاب.

الحرية هى حرية الفكر والإرادة والعمل. طالما ظلت هذه الحرية فى إطار القانون والقيم الإجتماعية. لكن الحرية بالنسبة للمرأة هى أم الحريات. عندما تتحرر المرأة، يتحرر المواطن ويتحرر الوطن. الذين يحاربون تحرير المرأة، يستخدمون نفس المنطق الذى يحاربون به حرية الصحافة وحرية الرأى وكل الحريات.

أنظر إلى دول الشرق، ستجد المرأة جارية الرجل. والرجل عبد للحاكم. الرجل ظالم فى داره، مظلوم خارجه. أنظر إلى الدول الأوروبية، ستجد الحكومات تطبق مبدأ الحرية وحقوق الإنسان. وضع المرأة بلغ درجة عالية من الإحترام، وكفلت لها حرية التعبير. وهو هنا يذكرنا بالأفغانى، فى توضيحه لأسباب الإنحلال الذى تمر به المجتمعات الإسلامية. فالمدينة الفاضلة، لا تبنى على أساس الدين فقط. لكن يجب أن تبنى على أساس العلم أيضا.

الحضاراة الإسلامية فى الماضى، وصلت إلى ما وصلت إليه منذ زمن بعيد. قبل أن تصل العلوم الإجتماعية والسياسية، إلى ما وصلت إليه الآن. النموذج القديم، لا يصلح اليوم بدون تعديل. الحضارة الإسلامية، مثل باقى الحضارات، لها مزاياها وعيوبها.

ليس هناك ما يدعو إلى الإعتقاد بأن المسلمين أيام أوج حضارتهم، كانوا أفضل أو أسوأ من باقى الشعوب. أسلوب الحكم عندهم، لم يبلغ مرحلة النضج. الحاكم كانت لديه سلطات غير محدودة. فلم يكن هناك دستور يحد من سلطاته، أو يجبره على الإلتزام بمادئ الشريعة.

البيعة كانت عملية صورية. وحرية الرأى كانت بقدر ما يسمح به الحاكم. الشورى لم تكن ملزمة. الخليفة هو الذى يقرر شؤون الحرب والسلم والضرائب. هو الراعى للأمة وفقا لرأيه الخاص. بدون مشورة من أحد. الكمال لم يوجد فى ماضى الدولة الإسلامية. وإن وجد، ربما يكون فى مستقبلها عن طريق العلم.

أوروبا الآن هى المتقدمة علميا. المجتمع الغربى أفضل من المجتمع الإسلامى. بالرغم من وجود من يقول أن الغرب متقدم فى العلوم المادية فقط. لكننا متقدمون عنه فى الأخلاق والروحانيات. لكن قاسم أمين يقول، أن هذا وهم غير صحيح. الأوروبيون أكثر تقدما فى الأمور الخلقية والروحانية من أهل الشرق.

حقيقى أن الطبقة العليا والطبقة السفلى فى المجتمع الأوروبى أقل فضيلة بالنسبة للأمور الجنسية، إلا أن الطبقة الوسطى وهى عماد المجتمعات الصناعية، تتحلى بأخلاق عالية بكل المقاييس.

لماذا يدير العالم ظهره لمتع الدنيا وحياة الترف، ليكرس حياته للبحوث وحل المشكلات. وماذا يحث رجل الدين على المعيشة فى الغابات والأحراش لهداية الشعوب البدائية. وماذا يحض الرجل الغنى على التبرع بثروته للأعمال الخيرية.

كل هذا يدل على أن الشعوب الأوروبية لها أخلاقها وقيمها هى الأخرى. فضلا عن أنها بصفة عامة، تحب النظام والنظافة. وتكره الكذب. وإذا وعدت، أوفت. إتهامها بأنها شعوب تتخلف عن شعوبنا، هو إتهام غير عادل. لأن أخلاقنا تنحصر فى شئ واحد. هو حفظ الفرج وثلمة الأثداء، وعفاف المرأة وإخفاء وجودها.

السبب فى أخلاق الغرب علمى لا دينى. أرسطو له كتاب كامل عن الأخلاق. ليس فيه كلمة واحدة عن الثواب والعقاب فى الحياة الأخرى. كل فيلسوف تناول موضوع الأخلاق من الناحية الفلسفية. الأخلاق بدون المعرفة والفهم، تصبح حالة عارضة غير مستقرة.

حرية المرأة فى أوروبا وكذلك إلغاء الرق، لم تتم لأسباب دينية. وكذلك الحرية، والمساواة بين بنى البشر، بغض النظر عن اللون والجنس والعقيدة. كل ذلك بسبب تقدم العلوم السياسية والإجتماعية.

واضح مما سبق، لماذا قوبلت أفكار قاسم أمين الثورية، فى كتابه المرأة الجديدة، بعاصفة من الهجوم. قاسم أمين كان عنيفا فى نقده للمجتمع الشرقى. فهو يقول بصراحة شديدة، أن الدين فقط لا يكفى لقيام دولة أو حضارة.

الحضارات تقوم لأسباب كثيرة، منها الدين كأحد العناصر وليس العنصر الوحيد. لكى تستمر الحضارة، يجب أن تبنى على المساواة التى، يدعمها العلم ويكفلها القانون. بالرغم من أنه يكن للإسلام كل الإحترام، إلا أنه يقول أن من حق الحضارة أن يكون لها عناصرها وأهدافها الأخرى التى تكفل لها البقاء والإستمرار.