غادة السمان ( طائر العنقاء )



بابلو سعيدة
2009 / 10 / 20


فتاة نرجسية ، متماهية في دمشق ، أقدم مدن تاريخ العالم . وهي مستقلة في حياتها الفكرية واليومية .
تربت في أسرة مثقفة ومتمدنة ، مما أفسح لها المجال الحر لبناء شخصيتها خارج مفردات الحاجة والتملق والتسلق .
فقدت غادة مبكراً الثلاثي المقدس في حياتها ، الأم والأب ودمشق ، مما جعلها فتاة غرائبية ومشاكسة للمألوف السائد في جغرافية عربية ، تعتبر شرفها الأساسي محصوراً في عضو بيولوجي من أعضاء المرأة .
وغادة الوحـيدة لوالديها ، والوحيدة في وطن الطفولة ووطن المنفى ، أحبت الوطن والحرية والمساءلة .
رفضت في نصوصها وحياتهـا ، مفـردات التحزب والتأدلج والحلم والوهم وعمى الألوان النقدي ، والخدمة الإلزامية للأدب وللأدباء ، لأنها عاشقة للحرية وللوطن الحرّ .
وهي دمشقية في امتلاكها للأسلحة الفكرية والحضارية
ولاذقانية في صفاء عالمها الداخـلي الممتزج بصفاء البحر وزرقة السماء
وبيروتية في ثقافتها ولبرلتها
وباريسية في خبرتها بشؤون الحياة ومتاعبها
وعالمية النزعة في أسفارها
ووطنية الجذور في عينيها وذاكرتها .
وسببت لها صراحتها وجرأتها ، واندفاعاتها البركانية إرباكات وإشكالات مع الواقع والذهنية الراكدين .
وسبب لها نشر مذكراتها ورسائلها أزمات وأقاويل ومتاعب .
وفي كل عقد عاشته غادة، عانق الموت إنساناً عزيزاً على قلبها .
أول فجيعة ألمّت بها، معانقة الموت لوالدتها .
الفجيعة الثانية، الإحباط العام الذي أصاب الأنا الفردي والجمعي على أثر هزيمة يونيو 1967 .
في الستينات عانق الموت والدها .
في السبعينات فقدت كنفانها غسان ، وناصرها جمال ، وكوكبة شرقها أم كلثوم .
في الثمانينات ، عاشت مأساة الحرب الأهلية اللبنانية .
في التسعينات ، رحل قبانها نزار اقرب وأحب الأدباء إلى فكرها وقلبها. لقد شكلوا مجتمعين ، قافلة من شهداء الكلمة الحرّة .
في العقد الأول من القرن الراهن ، همّش النظام العالمي الجديد نظامها العربي ، الرسـمي منه والأهلي . وكانت أحزان غادة قاتلة ، وجروحها عميقة لا تندمل . ولف قلبها رداء حزين ، رافقها في رحلاتها إلى مدائن الريح والمنافي .
ويبقى الموت استراحة مؤقتة لولادة جديدة .
(( الحياة جميلة ، وأجمل ما فيها ، إننــا لا نموت إلا لنحيــا من جديد ولا نترنح إلا لنركض من جديد )) .(4)
وغادة أحبت في نصوصها وحياتها ، الغوطة وقاسيون وبردى ودمشق التي احتضنتها في طفولتها ، وبيروت تعهدت بكفالتها ، وعرّتها من أشيائها الجميلة.
(( تعريني إلا من البرد والغربة والذكرى
أنا هنا وحيدة
شهقة متعبة في سمفونية ليل المشردين )) .(5)
أحبت غادة ، قاسيون ، وبردى ، وغوطة دمشق ، وساحاتها .
وحملت غادة ، دمشق في عينيها وذاكرتها أينما حلّت أورحلتّ .
وظلت دمشق رفيقتها المدللة في مدائن الريح والمنافي .
وكانت تنتظر من دمشق أن ترسل لها رسـالة حب وعتاب ، وبطاقة دعوة إلى أرض طفولتها ... وجاءت الرسالة، فكانت فاتورة حسابّ !
وبقيت دمشق في مخيلة غادة ، مرتسمة ، ومطبوعة على كل الأماكن والمطارح التي زارتها في مدائن الريح والمنافي .
(( ففي عينيّ اختزنتك يا دمشق
حملتك عام بعد عام
ودرت بك الدنيا
وكنت أبداً ملجأي ، ومبكاي ، ومصلاي ، ومبخرتي ، ويوصلتي، وتعويذتي التي بها أطرد شرور العالم
وجذوري كانت أبداً مغروسة في قاسيونك
ونسفك يصيب شراييني
وكانت الغربة عنك، مزيداً من الالتصاق برحم تاريخك)) .(6)
شـــكلت غادة من دمشق ، سمفونية عالمية حاملة هموم الإنسـان وأفراحه ، وهزائمه ، وانتصاراته ، وغربته ، وانتمائه .
(( أراك ، وأرى نفسي منك
يا حكايا التعاويذ والتقاليد
يا رسمي الممزق في مهرجان الأقنعة
يا تمثالي المطعون في طقوس الزيف
يا مبدعة عذابي
وسيدة تشردي )) .(7)
إن دمشـق تفتح كل صبـاح ذراعيها ، لاحتضـان ابنتها المدللة ، وضمها إلى صدرها ومعانقتها لأجمل طفلة ولأهم كاتبة مبدعة ، وإذا ما عادت الطفلة إلى أمها ، ستهطل السماء دموعاً من مطر الفرح . وتنام دمشق مخمورة بالأمل ، وتستيقظ محاطة بتاج النصر.
وبات من المؤسف حقاً أن يعود الأديب أو الفنان أو السياسي المهاجر، إلى وطنه، وهو مغمض العينين . وينام نـوماً أبديـاً معانقاً تراب الوطن في مماته لا في حياته !