غادا فؤاد السمان : خالفت العُرف والمألوف والمُعتاد الذي تدخل الأنثى فيه باب الأدب لتصل مخادع السلطة الذكورية



مازن لطيف علي
2009 / 11 / 4

الإنسان الغربي يتوق إلى شرقنا ومخزونه الساحر من القصص والتقاليد وحتى الخرافات يأتينا من كلّ حدب وصوب، وكم يُدهشني هذا الاستبسال في سبيل تقليد الغرب بمسألة الانفلات والتحرر، مع أنّ الرجل الشرقي نهاية المطاف لن يعمد في العلاقة الحقيقيّة إلا إلى التقاليد الشعبية هذا ما تؤكده الشاعرة والاديبة السورية غادا فؤاد السمان المعروفة بجرأتها ونقدها للثقافة العربية وللمثقف العربي وخاصة في كتابها الذي احدث اشكالا اثناء صدوره "أسرائيليات بأقلام عربية " .. كان لنا معها هذا الحوار :


ماهو السبيل لتوضيح العلاقة المدنية الصحيحة بين الرجل والمرأة من خلال الجنس ,السلطة ,المال ؟
على الرغم من بساطة هذا السؤال وسلاسته ووضوحه وتداوله وشيوعه كمنهج دارج من جملة القضايا العصرية التي أصبحت خارج التدقيق والرقابة، إلا أنه يعتبر فخّا من الفخاخ التي نُحاذر فعليا الدخول عبر متاهةِ الإفصاح فيها ليس لجبنٍ مستتبٍّ فينا، أو لخفرٍ أو غباءٍ أو حياءٍ أو مراوغة، وإنما لكونه أشبه بشرنقة صلبةٍ يُمكن أن تلتفّ حول أذهاننا وأرواحنا وكياناتنا وقناعاتنا ومسلكياتنا وثقافاتنا وألسنتنا وتركيبتنا البشرية عموما والإنسانية خصوصا بشراسة الاختناق الذي لا يُجيز عادةً سوى زفرة استثنائية تتلخّص بالتنظير تحت وابل من العناوين العريضة التي نبتهج لموسيقاها كوقع، ونفجع لفحواها كواقع، أردد ما ورد في السؤال بشكل موجز "العلاقة المدنيّة الصحيحة بين الرجل والمرأة " وإذا بكل مفردة تفتح أمامي مسرابا من الدلالات يصعب أن أتخطّاه، ولو قدّر لي عرض ما تنطوي عليه تلك الدلالات لوجدتني أغرق في استفاضات مُرهقة، لهذا تحايلت على أثر السؤال في الذهن بالقفز عنه والتجاهل له،علني أخرج من طوباوية المنظور، ورقيّ الصياغة، ومثالية القصد.
ولكن ظلّ بريق الفكرة يراودني عن يقيني ويدعوني للمنازلة بإلحاح، ولم يكن أمامي سوى الاستسلام للخوض في معترك المحاولة التي أتحفّظ مبدئيّا عن توصيفها المُسبق، ولا أخفي أن المفاضلة كانت فادحة بالنسبة لي لأبدأ من حيث أوجزتَ في السؤال، وأباشر الفرز أيّهما أجدى الحديث عن مفهوم "العلاقة "؟ "المدنيّة "؟ "الرجل "؟ "المرأة "؟ إذ أنّ لكل مفردة كما أسلفت دلالتها الشاسعة، وأنطلق من مفهوم المدنية كمرحلة متقدّمة من تاريخ العلاقات الإنسانية، والمدنيّة هنا تعني الانتقال من التجمّع البدوي أو البدائي الذي يقوم على القبلية والعشائرية التي لا تخلو من عادات وتقاليد وأصالة وسلوكيات خاصة حميدة أحيانا فجّة أخرى، والتحوّل إلى المجتمع الحضري المرتبط بأنماط مختلفة في طبيعة التشكيل بين المدن الصغرى والعواصم، مع ضرورة الانتباه إلى اختلاف خصوصيات العواصم بكل ما فيها من تفاوت ثقافي، وتباين مسلكي تلعب فيه البيئة الدور الأول في إعطاء الصبغة بعموميتها، وتدخل كذلك عوامل أخرى لتمييز مجتمع مدني عن مجتمع مدني آخر، أهمها طبيعة النظام ووجهته الإيديولوجيّة، فهل يُمكن أن نتحدّث عن طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة في دول الخليج كما هي عليه في منطقة بلاد الشام التي نستثني منها المجتمع اللبناني كتجربة منفردة لمجتمع
ديموقراطي افتراضيا، ونظريا، إذ أنّ مبدأ السيادة مفصّل بطرق ووسائل
أخرى تختلف ربما عن بقية المجتمعات ذات النظام الديكتاتوري بنسب
متفاوتة، ومن هنا نتساءل هل قدّمت المدنية لمفهوم العلاقة المناخ الأنسب
لبنائها على أسس وقواعد ونظم وأرضيات وفق هندسة إنسانية قائمة على ثقافة عقلانية وعاطفية واعية ومدركة؟، أم أنها مجرد حالة من حالات التواصل "التصادفي " أحيانا و"التصادقي " أخرى و"التصادمي " على الدوام كشكل من أشكال الفوضى التي تعتري الواقع عموما، اعتبارا من اعتلال المجتمع واعتلال السياسة واعتلال الثقافة واعتلال الاقتصاد العربي
وهذه قضايا مفتوحة للجهات الخارجية التي تتحيّن الفرص للانقضاض على
كيانيتنا بكلّيتها قبل أن نحدد جنسية هذا الكيان سواء كان لرجل أو لامرأة،
لهذا لا يمكن على الإطلاق الاسترسال بعلاقة صحيحة للرجل والمرأة في مناخ موبوء، ومجتمع معتلّ، وكيانيّةٍ مهددة، المال الذي يدخل مجتمعاتنا العربية يتكدّس عادة لصالح الطبقة الحاكمة ومن لفّ لفيفها بشكل خاص ومن هنا لا يُمكن أن تندرج ضمن هذا الاعتبار مصلحة الفرد المواطن، وهكذا يتحوّل الفرد المنتمي بحكم مواطنيته إلى الوطن، إلى فردانية اقتناص الفرص بكل ما فيها من معارج مختلفة تتفاوت بين الانتهازية والاستغلال والانحلال الأخلاقي
وإذا كنّا نبحث عن مفهوم العلاقة السليمة الصحيحة بين الرجل والمرأة فلا بدّ من إعادة صياغة المجتمع وصقل مفهوم المدنيّة فيه ومن ثمّ الالتفات الضروري إلى تأهيل الرجل والمرأة بشكل صحيح لتقبّل مصطلح العلاقة بينهما وبالتالي تمتينه على أسس وقواعد بيّنة وواضحة يُمكن بَعدها تقييم طبيعة تطبيق العلاقة سواء كانت صحيحة أم مختلّة. فالجنس في ظلّ المجتمعات السليمة هو ثقافة ونضج وكفاءة جسدية متبادلة وليس غريزة شهوانية مرضيّة تنطلق من المكبوت النفسي وتستمر بشكل أعراض لعقد مزمنة ومنفّرة، والسلطة في عرف المجتمعات السليمة مسؤولية واحتواء واستيعاب ووعي بخلاف ما نلمسه في مجتمعاتنا المتماسكة على مضض من غلّ وتسلّط وكيد وعداونية متبادلة، أمّا المال فلا بدّ من قنوات صحيحة واضحة وشفافة اعتبارا من مصادر الاستلام وانتهاء بوسائط التسليم.
ما زالت صورة الرابط الجنسي أو التواصل الجنسي خاضعة للمعتقدات الشعبية والأسطورية ؟
لا أعلم لماذا أصبحت الروابط الجنسية هدفا من أهداف الإباحة الثقافية لا البوح الثقافي بكل تأكيد، فكم من الأقنعة تعتري مثقفينا في مجمل أنماط حياتهم ناهيك عن الإزدواجية المستتبّة في كياناتهم المستوردة عند البعض والمُستعارة عند البعض الآخر،الذي يجعلنا نشعر ونتلمّس ونعي حقيقة ضمور الذات الكيانيّة الأصيلة عند الغالبية العُظمى ممن أوجدتهم الصُنعة الثقافية، والبدعة الفكرية، ودائما بحجة الحداثة وما بعدها وما أدراك.
ففي حال استثنينا المعتقد الشعبي المُتوارث أو المعتقد الأسطوري الراسخ، لنستعرض كل أنماط التواصل الجنسي المُعلنة بأساليب أوروبية وأمريكية وسائر الدول المتحضّرة التي خرجت من إطار التقاليد والدين والعادات وانتهت إلى مشاهد الانفلات البشعة رغم حرّيتها الكاملة وجرأتها الأكمل في فترة التسعينات، فهل حققت تلك العلاقات توازنا يذُكر بين الرجل والمرأة اللذان دخلا تجربة المتعة واللذة والنشوة المُبتكرة باسم الحرية والتحرر عن طريق ترويج الممنوعات وجعلها في مُتناول العامّة قبل الخاصّة،وهل بلغت مرحلة النضج والكفاءة الإنسانية لتعميم هذه التجربة على مجتمعاتنا المُنهَكة على سائر الصُعد؟ لننساقَ انسياقا أعمى غارقا في التقليد البهيمي والعمد إلى حرق المراحل التي مرّت بها نشأة وتطوّر طبيعة العلاقة الجنسية في المجتمعات المذكورة بينما المجتمع العربي وبتسهيل من تنظيرات ثقافية مدّعية أوجزت كل التطوّر الممكن لإنضاج العلاقة بين الرجل والمرأة وقدّمتها فورا على سرير التجربة كمذبح الخلاص، وبذلك نُحرت العديد من الاحتمالات الإيجابية التي كانت من المُحتمل أن تتكون تكوّنا جنينيّا طبيعيا يُمكن أن يُكتب له الحياة، لا على غرار الحياة المصطنعة الواهمة التي افشلت الكثير الكثير من الإمكانيات الطبيعية السليمة المُتاحة لسيرورة العلاقة، وليس من السهل تجاوز مفهوم التحريم والتحليل للخوض في علاقات غير مشروعة، إلا اللهم عن طريق التكتّم والتخفّي، وهذان الأمران كفيلان بتدمير أكبر علاقة جنسية مهما كانت درجة الانسجام فيها فليس من السهل أن يُصبح المرء مختلسا حتى وإن كان مجرّد " بنك " للسعادة، ففي النهاية لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار حُكم المجتمع الذي إن رَحَمَ وغضّ الطرف والتزم الحياد والصمت فبالتأكيد لن يُبارك ولن يحترم، وليس من السهل أيضا أن يفتقد المرء احترام المحيط حوله لأنه حتما سيؤدي إلى فقدان احترام الذات واحترام الآخر، اليابان مثلا مجتمع علماني بامتياز وقدّم للبشرية في العقدين الأخيرين أهم تقنيات العلم، ومع ذلك لا تزال العلاقة الحقيقية بين الرجل والمرأة تأخذ طابع القداسة،
الإنسان الغربي يتوق إلى شرقنا ومخزونه الساحر من القصص والتقاليد وحتى الخرافات يأتينا من كلّ حدب وصوب، وكم يُدهشني هذا الاستبسال في سبيل تقليد الغرب بمسألة الانفلات والتحرر، مع أنّ الرجل الشرقي نهاية المطاف لن يعمد في العلاقة الحقيقيّة إلا إلى التقاليد الشعبية أوالأسطورية ومن هنا لا أجد مُبررا لتلك "الاحتيالات " الفارغة على الذات وعلى المجتمع وعلى الآخر. باختصار العلاقة الجنسية انطلقت من غاية آدمية وستستمر لتلك الغاية الآدمية، ولا يُمكن أن يجمّلها ويُغنيها فعلا غير قليل من الثقافة الروحية والكثير الكثير من الثقافة الإنسانية وقتها فقط العلاقة الجنسية ستبلغ أرقى تجلياتها.
المرأة دائما قليلة التواجد في الساحة الثقافية ؟
وهل من وفرة واتساع وامتداد وتدعيم حقيقي لوجود ما يُسمّى بالساحة الثقافية؟ بتقديري ثمّة فُسحات ثقافية مُشرذمة هنا وهناك، أمّا الساحة التي بوسعها لو وجدت أن تكون ملتقى الفسحات كلّها. فهي مشروع مبكّر جدا جدا الحديث عنه.
هل وصل تأثير الحركة النسوية المطالبة بأخذ المرأة دورها ومكانتها في المجتمع الى الدول العربية ؟
إذا كان هنا قصد الإشارة بإصبع تمايز المرأة الغربية عن المرأة العربية بصفتها السبّاقة إلى مصاف العمل والحضور والجدوى، فاعتقادي أنّ هذا الزعم مغلوط جدا، إذ أنّ المرأة في المنطقة العربية رائدة في هذا المجال منذ أزمنة سحيقة، فقد كانت نفرتيتي حاكمة مصر، وزنوبيا سيدة تدمر، وبلقيس ملكة سبأ في اليمن، وعندما جاء الإسلام زاد من حقوق المرأة
ومن وواجباتها بالتأكيد، والمرأة عُرفت في ميادين عدّة جنبا إلى جنب مع الرجل في عدة حقول، منها الزراعية وبعدها الصناعية، ومن ثمّ العلمية،
حتى الحروب خاضتها المرأة جنبا إلى جنب الرجل أيام الجاهلية ومن بعدها الإسلام إذا فاعلية المرأة في منطقتنا العربية غير مستوردة، ولا فضل للمرأة الأوربية في تسليط الضوء لتعزيز دور ومكانة المرأة العربية، ولكن لو أردنا التمحيص الموضوعي في هذا الدور فبالتأكيد لا بدّ من دراسة معمّقة تُلزمنا أن نبدأ بدراسة المجتمع أولا وبعدها ننطلق لتقييم دور المرأة إن كان فاعلا في هذا المجتمع أم لا، وهكذا نعود إلى حيث بدأت في استرسال الإجابة للسؤال الأول.
برأيك لماذا نجحت الحركات الأصولية بجذب اكثر عدد ممكن من النساء على عكس الحركات الديمقراطية ذات التوجه المدني ؟
الحركات الأصولية لا أعلم مدى صحّة التقدير على أنها ناجحة! ربما هي
لا فتة جاذبة تستهدف الفرد البسيط الذي يسهل قياده، الفرد الأعزل نسبيا
الفرد الباحث عن شكل من أشكال الانتماء والاتّكاء والاحتواء نظرا لضعف المجتمع في توطيد أواصر اللحمة الإنسانية المُشتركة، الفرد الذي ترعرع على مفاهيم عدّة أهمها: " القومية العربية، الوحدة العربية، القضيّة العربية "
بهذا الثالوث الأقدس تمّ الاشتغال طويلا على ذهنية الفرد العربي، ليجد وبعد فترات طويلة جدا من الحقن والتأهيل بإيديالوجيّات تفرّعت عن كيانه كسنديانة وارفة وإذا بها تتساقط منه تِباعا غصنا غصنا وورقة ورقة وهو عاجز تماما عن تخصيبها أو استعادتها لدورة حياتية ثانية مهما قُدّم لها من أغذية وأسمدة ومنشطات، ليدركَ بصعوبة أنّها قد دخلت مرحلة الموات الذي لا بديل عنه، وهكذا تعاقبت المواسم وتبرعمت الأغصان العارية على حقيقة مُفجعة، وبدأت تتبرعم حركات جديدة كالفطريات التي لا تحتاج إلى كثير عناء أو تبديد فصول، بل هي قادرة على طرح
نِتاجٍ أكثر من المُتوقّع المهم في هذا كلّه توفير بذرة شديدة الخصوبة وعالية التركيز يُمكن أن نُطلق عليها مصطلحا مجازيا ك"الفتنه" أو " الطائفية " أو " المذهبية " نعززها بجملة من الأسمدة الشعاراتية المُبتكرة وما أسهل الابتكار كالقول مثلا " يا جنود الرحمن انجدوا الإسلام " وهنا الدعوة عامّة وشاملة وما أسهل الوقوع في فخّ الشعور الذاتي بذنب التقصير، فتضعف لدى المقصّر تلقائيّا الدفاعية المنطقيّة عن القناعة الذاتية، مما يتيح مناخا مُلائما لتأجيج الفوضى التي تُفرز وُلاة ومغالون في تعميم مبدأ الدعوة، حيث يعلو فيها الصوت بدرجة سلطوية تأخذ بطانة استبدادية لها ومع غوغائيّة العلاقة الناشئة من فراغ التجربة وخواء المحتوى وتعبأته التعبأة الآنية المُستعارة أو البديلة يصير "التقصير" في المواكبة مدعاة لل"تكفير" مرّة والتصفية الجسدية أخرى، والحجّة القاطعة أنه من ليس معنا فهو ضدّنا، ومن كان ضدّنا فهو عدوّنا، وقتل الأعداء واجب مُطلق بل مُطلق شرعي، وهكذا صار من السهل قتل أبناء الدين الواحد بحجّة الفوارق المذهبية، وتصفية أبناء البلد الواحد بحجّة الطائفيّة، وفاتنا بهذه العبقريّات المُفاجئة أننا نقدّم خدمات مُثلى للعدو الحقيقي الذي يُتابع ويُخطط ويتكاثر ويتمدد ويتسلل ويتمكّن ونحن لا نحرّك ساكنا تجاهه إلا ألسنتنا وعدسة شاشاتنا الفتيّة، ونتقن جيّدا تسديد الأهداف على مرمى بعضنا البعض، إن لم يكن لتصفية الأجساد فبالتأكيد لتصفية النفوس، وتنفيس القضايا والوطن والعروبة المتورّمة فينا بدرجة القيح لا أكثر ولا أقلّ. ويكفي أنّ نفقىء بين الحين والحين دمّلة عروبة محتملة بين قطر عربي وآخر لنرى كل أنواع العفونة الممكنة!...
نجحت المرأة العربية بدور الأم ولم تنجح بدور الصديقة والرفيقة وحتى الزوجة ؟
أخشى أنني أدور في الفلك ذاته، ولا أعلم سبيلا لتفادي التكرار في تصدير
رأيّ هنا، لعلّ المرأة عموما هي باحثة أبديّة عن صدق الأواصر التي تربطها بمن حولها، وما إن تخرج من عباءة العائلة لتبدأ مشروعيتها في بناء عائلة جديدة، ومفهوم العائلة في العالم العربي هو الخلية النواة لصنع المجتمع الذي يُعنى عناية فائقة بطبيعة هذه الروابط التي تنبثق من صلات الدم والرحم والأنساب والأفخاذ والمشارب، بينما في الغرب ربما الروابط الإنسانية تحللت كثيرا من مفهوم الأسرة، ودخلت حيّز التجاذبات الأخرى
منها الفكرية والثقافية والغائيّة والبرغماتية كذلك. المشكلة لا تنحصر في استطاعة المرأة على تقبّل مفهوم الصداقة أو رفضه أو حتى تكريس صلة
الزمالة أو تخريبها وبالتأكيد الدور الأهم في حياتها أن تكون تلك الزوجة النموذجية أو الفاشلة، المشكلة تتقاسمها هنا مناصفة مع الرجل، الذي لم ترتقِ ولم تنضج منظومته الفكرية تجاه المرأة، الذي ينظر إليها إمّا نظرة دونية تخوّله تجاهل صداقة المرأة، أو نظرة استغلالية تُسوّغ له استعمار
الأنثى أو استثمارها حسب الظروف المُتاحة، وهاتان النظرتان المريضتان
دون ريب لم تسلم منهما حتى المرأة التي تحتل صفة زوجة، نظرا لأن الرجل يعتبر علاقته هنا مع المرأة علاقة تمليك لا علاقة تكامل. طبعا هنا
لا أمنح صكّ البراءة الكامل والشامل للمرأة فلا ننسى أنّ الذي يربّي الرجل
هي الأم، والأم في تقاليدنا تحرص كل الحرص على تكريس مفهوم دونية المرأة نظير الرجل، بتظهير ضعف الأنثى لأنها في المجتمع الجاهل تظل الأنثى مجرد أنثى لا حول لها ولا قوّة، بينما يتمّ بالمُقابل تفعيل جبروت الذكر على أنه أكثر من ذكر على أنه كيان وشخصية وحضور وتمايز وسلطة واستبداد وديكتاتورية مُطلقة أحيانا. وكل هذه التفاصيل الموجزة كفيلة باختلال العلاقة للحيلولة دون توازنها وإنجاحها على أي صعيد كان.

لم تظهر لنا نماذج تحمل أفكارا مدنية تعالج قضايا المرأة كفاطمة المرنيسي ونوال السعداوي ؟
فاطمة المرنيسي لم أقرأ لها ولم أقرأ عنها إلا النذر اليسير للأسف، أمّا
الدكتورة نوال السعداوي فقرأت لها وعنها الشيء الكثير، وربما في سن مُبكر نسبيا، وتحديدا في مراحل تثقيفي الأولى، لا أذكر وقتها أنها قدّمت لي شخصيّا ثقافة تُذكر، إذ أن نوال السعداوي انطلقت من مُجتمع ريفي في مصر ولا زالت حتى يومنا وعلى الرغم من تحقيق ذاتها في مجالات حيوية عدّة أهمّها برأيّ اقتحام دائرة الضوء بشراسة فتّاكة أحيانا ومع ذلك نجدها تختزن في ذاكرتها تخلّف ذاك المجتمع الريفي الذي يُخلص ربما لتخلّفه، أكثر من إخلاص السعداوي للمنطق في كثير من الطروحات، وقد صدمتني ذات حوار عندما شرّعت العلاقة "المثلية " على أنها حرية شخصية وتذكرني هنا بسيمون دو بوفوار التي شرّعت وزوجها ممارسة الجنس مع الأطفال كمتعة مشروعة حتى وإن اندرجت في خانة الاغتصاب، اغتصاب البراءة، كل هؤلاء الذين حاولوا أن يشذّوا بقناعاتهم عن المألوف كانوا برأي يعبروا عن خلل في التركيب النفسي أو بحثا عن سبيل لاكتساب واستقطاب الضوء بأي طريقة، ناهيك عن أكثر القضايا التي تطرّقت إليها السعداوي والتي تتعلّق في طُرق معاملة المرأة وأهمها "الختان " وهي قضية شائكة في حياة المرأة المصرية تحديدا وقد أعطى السعداوي حريّة التوسّع في هذا النطاق ربما مجالها الذي ينطلق من مُرتكز طبّي أسس لها قاعدة ومنطلق للغوص في هذه المسألة، مسألة ختان المرأة وأعتقد أنها مسألة شديدة الخصوصية وهي عموما قضية لا تنطبق على سائر المنطقة العربية. لهذا انحسرت ثقافة السعداوي ضمن المجتمعات الشعبية ونجحت في البيئات المتخلّفة لكنها كثافة فعلية ذات أثر راقي في المجتمع النخبة لم تسجّل شيئا يُذكر.
السؤال الأخير غادا فؤاد السمان ماذا تشكّل في الحيّز الثقافي ؟
لأنني أحترم نرجسيتي أكثر بكثير من احترامي لتواضع الآخرين المُتكلّف والمُتعمّد بذكاء ساذج نلمسه أغلب الأحيان، أستطيع أن أجزم أنني علامة فارقة في زمن تشابهت فيه معظم العلامات والدلالات بكل ما فيها من انتحال واقتباس وسرقة مسكوت عنها، طمعا في التغريب والتقليد الأعمى والسعي الحثيث لمدّ الخطى نحو الآخر قفزا فوق الكرامة أو ركلا للكبرياء، وجدارتي تأتي ليس من فرط الموهبة التي لا مثيل لها، وإنما الاتّكال الكامل على ما تيسّر من موهبة حقيقيّة اقتنعت بها وارتضيت لها تمام القناعة والرضى سواء المُضي قُدما أو المراوحة التامة دليلي في الحالين الثقة المطلقة بالذات، ولأنني آثرت الاعتماد على النفس في ترويض وتليين وتقوية وتمتين خطوتي مُستوحدة على الدرب، لهذا كان الثمن باهظا لأنني بذلك خالفت العُرف والمألوف والمُعتاد الذي تدخل الأنثى فيه باب الأدب لتصل مخادع السلطة الذكورية، وما إن تصبح محظيّة من محظيّاته حتى تنهال عليها المِنَح والعطايا والامتيازات المختلفة، لكنّ خياري المُغاير جعل دربي كمن يسير في حقل ألغام، ولا أخفي أنّ إصداري الأخير إسرائيليات بأقلام عربية كان الخطوة الفادحة التي أدخلتني في جدار الفصل العنصري بين مثقفي التطبيع ومناضلوا الثقافة، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم لا زلت أبحث في هذا الجدار الشاهق الخانق عن ثغرة صغيرة تحررني من أسلاك الأذهان الشائكة، ومن أغلال الحظر والمَنِع الجائر الذي أصدرته بحقي معظم المنابر العربية، إكراما للالتباس.