منع الاختلاط بين الرجال والنساء جريمة



نهرو عبد الصبور طنطاوي
2009 / 11 / 4

ستظل العلاقة بين الرجل والمرأة في عالمنا العربي والإسلامي محل نزاع وسجال فكري وديني دائم ما لم يتم الحسم فيها حسماً دينيا يبدل تلك الأفكار الشاذة التي تسكن وتعشش في رؤوس القوم منذ قرون طويلة، تلك الأفكار التي استقاها القوم من عادات الآباء والأسلاف الهالكين وعدوها شرعا ودينا يتقربون به إلى الله الخالق من دون تفكر أو اختبار لها أو مراجعة.

إن الفكر الجنسي المشوه الموروث لدى العرب والمسلمين الذي قام بزلزلة العلاقة بين الرجل والمرأة، وعد النظر إلى المتعة (الجنس) بين الرجل والمرأة شيء مستقذر ثانوي هامشي أو شيء يحرم الحديث فيه أو تناوله أو نقاشه وعده من ترف القول ومن ثم يجب قبره في مقبرة الظلام الفكري والاجتماعي لهذه الشعوب البائسة لأنه حسب نظر أكثرهم: (عيب، حرام، قلة أدب)، إن هذا الفكر لهو أكبر أسباب تخلف هذه الشعوب العربية والإسلامية وانحطاطها الفكري والعلمي والثقافي والسياسي والاقتصادي والديني، بل إني أكاد أجزم أن الفكر الجنسي للعرب والمسلمين هو من أكبر العثرات التي عملت على عوق هذه الشعوب عن التقدم في أي مجال فكري أو علمي أو ديني أو سياسي أو اقتصادي، بل عمل على قذف هذه الشعوب إلى الوراء إلى حيث ما بعد ذيل التخلف بدهور.

وما ذاك إلا إن ذلك الفكر الشيطاني يحمل في كونه وتكوينه أثقالا من أمراض شتى: نفاق وتناقض وحرج وحرمان وعوق وشره وضعف وعنت وحيرة وانفصام، كل هذه الأثقال تنوء بكاهل الرجال والنساء بين قومنا العرب والمسلمين، لأنه إلى الآن لم يتم حسم هذا الأمر حسما دينيا يرعى طبيعة النفس البشرية وحاجتها الطبيعة لعامل المتعة بين الرجل والمرأة، وفي هذا يقول الدكتور عبد السلام زهران في كتابه: (علم نفس النمو) ما يلي: (تعتبر الغريزة الجنسية من أقوى الغرائز والدوافع لدى الإنسان حيث تحمل تأثيرا كبيرا على الصحة النفسية والفكرية والجسدية. وتتجلى هذه الغريزة في مظاهر مختلفة ابتداءً من مرحلة الطفولة وانتهاءً بانقضاء العمر، ويتوقف نشاطها على مجموعة من العوامل العضوية كالهرمونات والعوامل النفسية كالحاجة الماسة لإشباع هذه الرغبة. يقول دوجلاس توم: "إن كثيرا من أنواع الصراع العقلي والشذوذ النفسي التي نشاهدها اليوم في الكبار والصغار على حد سواء ترجع بصورة مباشرة إلى المواقف والخبرات السيئة في الأمور الجنسية. وليس هناك من قوة في الدنيا وفي الحياة الفعلية بأجمعها أكثر من تلك القوة إلحاحا في سبيل الظهور على أي شكل من الأشكال")انتهى.

ومن هنا أقول إن إطلاق حرية المتعة الجنسية بين الرجال والنساء وفك قيودها قد ساهم وبشكل أساس وفعال في انطلاق الناس رجالا ونساء في المجتمعات الغربية نحو التقدم في كل شيء، التقدم العلمي والفكري والسياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي. لذلك أرى أنه من الضروري إطلاق حرية المتعة (الجنس) بين الرجال والنساء في قومنا بحيث تصبح في متناول أيديهم كتناولهم للماء والهواء وفق الاستقامة التي شرعها الله والتي سنأتي عليها في دراسة لا حقة، فدنيا من دون متعة بين الرجال والنساء ما طابت لساكنيها، فالمتعة إكسير الحياة، وروح الدنيا وريحانها، بل لولاها ما أينع في الأرض روض وما اخْضَرَّ فيها ذابل.

إن الناظر فيما يحدث في عالمنا العربي والإسلامي حول قضايا الفكر الجنسي يجد عجبا، فمن جانب يجد شيوخ السلطة والتيارات الدينية المختلفة تنادي وتحذر وتنذر وتطلق دوي صفارات الإنذار ليل نهار من خطر داهم سيفتك بشعوبنا وشبابنا وأمتنا ألا وهو (الاختلاط بين الرجال والنساء، مصافحة النساء، سماع صوت المرأة لأنه عورة كما يدعون، فرض الحجاب على كل أنثى، وغيرها من الأشياء التي تكاد تصل إلى تحريم تقبيل الرجل زوجته إلا من وراء الجدار). هذا من جانب، ومن جانب آخر نجد الأنظمة الحاكمة في بلداننا العربية لا تدخر جهدا في التشجيع على كل ما يثير غرائز القوم الجنسية وخاصة الشباب في الأعلام المرئي والمقروء والمسموع، فتقع الشعوب المسكينة وخاصة الشباب فريسة لذلك الصراع المنظم غير الظاهر بين السلطة الدينية والسلطة الحاكمة، ويعلم كل ناظر حصيف وكل ذي لب أن ما يحدث ما هو إلا لعبة سياسية ومؤامرة قذرة تدار من خلف ظهور الشعوب المغلوب على أمرها، إنها لعبة قذرة يتبارى فيها فريق الأنظمة العربية الحاكمة وفريق السلطة الدينية التابعة لها والتيارات الدينية الأخرى، للإيقاع بالشباب المسكين فريسة في مصيدة حملات التحريم والتخويف والتحذير الديني من حرمة التفكير في المتعة (الجنس) بين الرجال والنساء، وحملات الإثارة الجنسية الطاغية التي تقودها وتشعل نيرانها الأنظمة الحاكمة ونخاسيها من أهل الفن والإعلام، ويصب كل ذلك في نهاية المطاف في صالح بقاء واستمرار الأنظمة الحاكمة في السلطة لعشرات السنين دون منازع أو رقيب أو حسيب.

لقد حيكت هذه المؤامرة بحرفية ودهاء ماكر لإلهاء الناس وخاصة الشباب المسكين الذي ينتظره مستقبل مجهول مظلم لا ملامح له في الأفق القريب بقصد إلهائه عن قضايا أمته وأوطانه وحاضره ومستقبله واستنزاف أوقاته وطاقاته وتفكيره وميوله، فتحريم كل ما هو جنسي بصورة دينية مقصودة ومبالغ فيها مع الإلحاح المغالي في الفصل بين الجنسين الذكر والأنثى من جانب التيارات الدينية، والإثارة الجنسية المقصودة والمبالغ فيها من السلطات الحاكمة، جعل هذه الشعوب ينصرف جل تفكيرها وأوقتها واهتمامها وتربصها وإنفاقها وخاصة الشباب إلى كيفية الحصول على المتعة (الجنس) أو كل ما فيه أدنى أثارة من جنس حلالا أو حراما اتفاقا أو اغتصابا مشروعا أو ممنوعا حتى انصرف القوم عن شئون من يسوسونهم وعن العمل والعلم والفكر والإنجاز والتقدم بل اتخذوا كل ذلك وراءهم ظهريا.

(هذه كانت من مقدمة دراسة مطولة لي تأتي فيما يقرب من مائة صفحة أقوم على إنجازها حاليا، أتناول فيها كل ما له صلة بين الرجل والمرأة من تعامل واتصال وجنس وأحكام وتشريعات وحلال وحرام وسوف أنشرها فور الانتهاء منها).

## منع الاختلاط بين الرجال والنساء جريمة :

لا يوجد شيء في شريعة الإسلام حول منع أو تحريم (الاختلاط بين الرجال والنساء)، وكلمة الاختلاط هذه هي من زعم وافتراء شيوخ التيارات السلفية وليس لها أي أصل في الكتاب ولا في أحاديث النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وهم أوردوها يقصدون من وراءها منع الاجتماع بين الرجال والنساء في أي محفل تعليمي أو عملي أو أي مكان يمكن للنساء والرجال الاجتماع فيه، وذلك بدعوى كاذبة أن النبي محمد عليه الصلاة والسلام نهى عن الخلوة بين الرجل والمرأة، فكلمة (الاختلاط) هي تحريف وتبديل مقصود ومتعمد لكلمة (الخلوة) التي وردت في بعض أحاديث النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يرد ببال القوم أن الخلوة لا تعني الاختلاط والاختلاط لا يعني الاجتماع. فلكل من هذه الكلمات دلالتها التي تخالف فيها دلالة الكلمتين الأخريين، فمثلا كلمة: (خلو) تدل على تعري الشيء من الشيء وخلوه منه، يقال هو خلو من كذا إذا كان عاريا منه، فهو المضي عن الشيء إلى غيره، والخلاء هو المكان العار من شيء به. أما كلمة (خلط) فتدل على خلط لشيء بغيره فهو مختلط مع الحفظ لحدود الخليطين من المزج بحيث لا يعرف أحدهما من الآخر. أما كلمة (جمع) فتدل على تضام شيء أو ضمه إلى شيء تقول جمعت الشيء جمعا أي ضممته إليك وقربته منك.

فكما نرى إن لكل كلمة دلالتها التي تخالف الأخرى فالاختلاط أو الاجتماع بين الرجال والنساء بهاتين الدلالتين واللفظين لم يرد فيهما أي منع أو حرمة لا في الكتاب الكريم ولا في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام أما ما ورد في بعض الأحاديث هو التحذير والإنذار وليس الحرمة أو المنع من اختلاء الرجل والمرأة معا في مكان خلاء أي خال من أحد فيه، فلا يعمدن رجل وامرأة إلى الاختلاء عن عيون الناس إلا لسوء القصد من الطرفين أو من أحدهما، لأنه أدعى لارتكاب الفاحشة، خاصة إذا كانت المرأة متزوجة، لنهيه عليه الصلاة والسلام عن الدخول على النساء في بيوتهن وهن بمفردهن وخاصة أقارب الزوج من الرجال وهي خلو أي بمفردها، فذلك أدعى للوقوع في فاحشة الزنا كما جاء في حديث عقبة بن عامر أن رسول الله قال: (إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت.) (رواه البخاري ومسلم(. والحمو هم أقارب الزوج من الرجال، فانظر الفارق بين ما جاء في أحاديث النبي محمد عليه الصلاة والسلام الذي يمنع من دخول الرجال على النساء في بيوتهن في غياب الزوج وبين ما فهمه شيوخ التيار السلفي وتحريمهم لاجتماع الرجال والنساء حتى في المساجد.

إن الاجتماع (الاختلاط) بين الرجال والنساء في شتى المواضع لم يرد فيه أي تحريم أو منع لا في الكتاب ولا في أحاديث النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما هو شيء من اختلاق بعض من ينسبون أنفسهم للفتيا ومن يتحدثون في شريعة الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، فالناس رجالا ونساءً على عهد النبي محمد عليه الصلاة والسلام كانوا أكثر اختلاطا واجتماعا من الناس اليوم، فاليوم يعْمِدَنَّ القوم إلى الفصل التام بين الرجال والنساء في المساجد وبعض دور العلم والنوادي والمطاعم والحمامات العامة وبعض الحدائق وبعض وسائل المواصلات العامة وفي كثير من المواضع، وكثيرا ما نجد لافتات مخطوط عليها (للسيدات فقط). أما في عهد النبي محمد عليه الصلاة والسلام لم يكن هناك هذا الفصل وهذا السور المضروب بين النساء والرجال اليوم، ففي عهد النبي محمد عليه الصلاة والسلام كانت النساء تختلط بالرجال في مسجد واحد ليس فيه مصلى للنساء ولا مصلى للرجال، وكانت النساء تصلي مع الرجال وأمامهم وكان الرجال يصلون مع النساء وأمامهن دون أي فصل أو منع أو تحريم كما يحدث في جميع مساجد المسلمين اليوم، وكانت النساء تختلط بالرجال في أقدس بقاع الأرض في المسجد الحرام أثناء تأدية فريضة الحج ومن دون حاجز بل وفي الحروب حيث كان الرسول وصحبه يصطحبون معهم في غزواتهم بعض نسائهم من دون حاجز أو منع، وفي الأسواق وفي الطرقات وفي كل مواضعهم، ولم يكن في المجتمع النبوي تلك اللافتات المخطوط عليها (للسيدات فقط).

أما عن الخلوة بين الرجل والمرأة فلم يرد في حرمتها ومنعها أي نص لا في الكتاب ولا في أحاديث النبي محمد عليه الصلاة والسلام، سوى حديثان وردا بعدة روايات وكلها تجمع على التحذير والإنذار مما قد يحدث في الخلوة بين الرجل والمرأة وليس التحريم والمنع من الاختلاط كما يزعم القوم، ومن هذه الروايات ما يلي:
الرواية الأولى :
روى الترمذي: "عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ" رواه (البخاري، مسلم، الترمذي، أحمد، الدارمي).
الرواية الثانية :
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان، عن عمر بن الخطاب قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا خطيبا كقيامي فيكم، فأمر بتقوى الله وصلة الرحم وإصلاح ذات البين، وقال: (عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة وإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد. لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما) وصحح الألباني إسناده في المشكاة برقم: 3054.

فنص الروايتان لم يرد فيهما أي منع أو تحريم للخلوة بين الرجل والمرأة، أما ما ورد فيهما هو أن الرجل إذا خلا بامرأة فإن الشيطان يكون ثالثهما، فهل سيتغلب عليهما الشيطان أم لا؟ هذا يعود لتقوى وإيمان كل منهما، ووجود الشيطان معهما ليس بملزم في أن يرتكبا محرما، ولا يعني وجود الشيطان ثالث لهما حتمية غلبة الشيطان عليهما، فقد يخلو رجل بامرأة من دون حدوث فاحشة، فقد يستعصم الرجل أو تستعصم المرأة وقد يستعصمان معا، وقد يرتكبا الفاحشة، فليس وجود الشيطان حتمي في ارتكاب الفاحشة، ناهيك عن أن الشيطان موجود مع كل الناس في كل مكان وفي كل الأوقات، فالشيطان موجود بالمسجد مع المصلين وموجود مع موظفي البنوك وموجود مع جميع الناس، ولكن رسول الله في هذا الحديث ينذر ويحذر وحسب، والحق في هذه المسألة أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ينه صراحة ولم يحرم خلوة الرجل بالمرأة تحت أي طارق، وما جاء في الروايات هو مجرد إنذار وتحذير وتنبيه، يخلو من أي حرمة أو منع.

فالخلوة المقصودة في الروايات ليست الاجتماع في أماكن العمل أو الدراسة أو السوق أو الطرقات أو الأماكن العامة أو أماكن العبادة أو غيرها من المواضع التي يلتقي ويجتمع الناس فيها رجالا ونساء، فكل ذلك ليس بخلوة، فالخلوة والخلاء هو المكان الذي لا ساتر فيه ولا سكن ولا عمران ولا أحد من الناس، فالخلوة في مكان كهذا هو ما حذر منه النبي محمد عليه الصلاة والسلام من دون منع أو تحريم.

## مصافحة المرأة ليست محرمة :

رأيت أن أتعرض في هذا المقال لموضوع مصافحة المرأة لكثرة ما يثيره هذا الموضوع من جدل بين الناس، فقد حرم القوم مصافحة الرجل للمرأة (الأجنبية) كما يسمونها، وكان برهانهم في هذا التحريم بعض الروايات المنسوبة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، لعدم وجود أي نص في الكتاب يحرم ذلك، ونناقش هذه الروايات على النحو التالي:
الرواية الأولى:
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"لأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لا تَحِلُّ لَهُ". أخرجه الطبرانى (20/212، رقم487)، والروياني في "مسنده" (227/ 2)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1/ 395).
بإمعان النظر في هذه الرواية نجد أنها لم تنص صراحة على تحريم مصافحة الرجل للمرأة بل خيم على القوم منها كثير من الغموض، لقد فهم القوم من هذه الرواية أن الرسول عليه الصلاة والسلام حرم مصافحة المرأة أو لمسها باليد، ولو وقفنا قليلا أمام النص لوجدنا أن النص لا يشير إلى ذلك على الإطلاق، فالنص يقول: (خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لا تَحِلُّ لَهُ)، فلو سلمنا جدلا أن هذا النص يحرم لمس ومصافحة الرجل للمرأة التي لا تحل له باليد كما قال القوم، ألا يحق لنا أن نسأل من هي تلك المرأة التي لا تحل لنا وبالتالي لا يحل لنا مصافحتها ولمسها باليد؟؟. الجواب: أن الله قد أعلمنا في كتابه أن النساء اللاتي لا يحللن لنا هن: الأم، الأخت، الإبنة، ابنة الأخ، ابنة الأخت، الخالة، العمة، المرأة المتزوجة، زوجة الأب، أم الزوجة، زوجة الابن، بنت الزوجة، فكل هؤلاء النسوة لا يحللن للرجل نكاحهن، فهل نفهم من ذلك أن نص الحديث يحرم على الرجل مصافحة هؤلاء النساء اللاتي لا يحللن له؟؟، فهل حرم الرسول مصافحة الأم ومصافحة الأخت ومصافحة الابنة ...إلخ؟؟، وهل نفهم من هذا أن مصافحة النساء من غير هؤلاء حلال؟؟، فهل يقول بهذا أو يخطر هذا ببال عاقل؟؟.

إذاً في الأمر غموض ولبس وعدم فهم نشأ من عدم علم القوم بالدلالة الحق لكلمة (مس)، فقد فهم القوم أن كلمة (مس) تعني اللمس والمصافحة باليد، بل إن القوم لم يفرقوا بين كلمة (مس) وكلمة (لمس) وظنوا أن الكلمتين بمعنى واحد، وهذا ما أوقعهم في كثير من المآزق التي لم يجدوا لها مخرجا إلى الآن. إن كلمة (مس) لا تعني اللمس باليد، وإنما الفعل (مس) يدل على احتواء شيء لشيء أو دخوله فيه أو إحاطته به أو تلبسه به، هذا هو المدلول الحق لكلمة (مس)، أما الظن بأن معنى ومدلول كلمة (مس) هو جس الشيء ولمسه باليد لهو معنى باطل ومدلول خاطئ لم يرد في الكتاب ولا في غيره، وبرهان ذلك: هل يقول عاقل أن الكبر: (التقدم في السن) يمكن أن يلمس الإنسان بيده؟؟، وهل يقول عاقل أن الشيطان يلمس الإنسان بيده؟؟، وهل يقول عاقل أن النار تلمس الزيت بيدها؟؟، وهل يقول عاقل أن الضر يلمس الإنسان بيده؟؟، وهل يقول عاقل أن البأس يلمس الإنسان بيده؟؟، وهل يقول عاقل أن النار تلمس العاصي بيدها؟؟، الجواب على كل هذا سهل ويسير، فمن اليسير على كل أحد أن يجد في كثير من آيات الكتاب ما يبرهن على أن كلمة (مس) لا تعني إطلاقا اللمس باليد، بل ما تعنيه كلمة (مس) من دلالة حق هو: احتواء شيء لشيء أو دخوله فيه أو إحاطته به أو تلبسه به، ومن هذه النصوص ما يلي:
(قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) (54_ الحجر).
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا) (201_ الأعراف).
(لا يقومون إلا كما يقوم ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ مِنَ ٱلْمَسِّ) (البقرة:275).
(يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) (35_ النور).
(مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ) (الأنبياء:83).
(وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) (41_ ص).
(مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ) (البقرة:214).
(وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ) (البقرة:80)،

وبرهان آخر من آي الكتاب يدل على أن كلمة (مس) لا تعني اللمس باليد، قوله تعالى:
(وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) (237_ البقرة).
ينص مدلول هذه الآية عن أن من طلق امرأته قبل أن يمسها فلها نصف ما فرض لها من أجر وصداق، ولو كان المس كما يقول القوم هو اللمس باليد أو المصافحة فهل يخطر ببال عاقل أن من عقد نكاحه على امرأة لا يستطيع لمسها بيده ومصافحتها خشية أن يطلقها قبل الدخول بها فتذهب بكل ما فرض لها من أجر وصداق؟؟، إذاً: نخلص من كل ما سبق أن كلمة (مس) لا تعني سوى احتواء شيء لشيء أو دخوله فيه أو إحاطته به أو تلبسه به، ولو عدنا إلى نص الحديث: (لأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لا تَحِلُّ لَهُ). نرى أن المدلول الحق له هو: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس: "يحيط ويحتوي ويتلبس ويدخل" بامرأة لا تحل له). وليس (أن يلمس أو يصافح امرأة لا تحل له).

الرواية الثانية :
ما رواه البخاري (13/251فتح) عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية {لا يشركن بالله شيئاً} قالت: وما مسَّت يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأة إلا امرأة يملكها".
الرواية الثالثة :
ما رواه أحمد (6/401) والترمذي (4/151) عن أميمة بنت رقيقة قالت: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء نبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئاً ـ الآية ـ قال: فيما استطعتن وأطعتن، قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا: يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء إنَّما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة". قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح اهـ. وقال ابن كثير في تفسيره (4/450) هذا إسناد صحيح اهـ.
في الروايتين السابقتين نص على أن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام كان لا يصافح النساء مما يدل على أن هذا أمر خاص به عليه الصلاة والسلام، فلم يرد في الروايتين ولا في أية رواية أخرى أي تحريم أو نهي للأمة بعدم مصافحة النساء. وفي الروايات والأحاديث كثير من التكاليف والخصوصيات التي اختص بها النبي محمد نفسه ولم يكلف بها أمته ومنها الوصال في الصوم. ففي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال. فقال رجل من المسلمين إنك يا رسول الله تواصل فقال رسول الله وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني). ثم كيف تكون مصافحة النساء حراما ويسكت عنها الرسول ولا يذكرها في حديث واحد بتحريم أو نهي للأمة؟؟.

الرواية الرابعة :
ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخُطَى والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه).
هذه الرواية تتحدث عن الزنا لا عن المصافحة، وتتحدث عن الزنى الكاذب الذي لا إثم فيه ولا حرمة له، وهو ما يكون بالعين والأذن واللسان واليد والرجل، وتتحدث عن الزنى الصادق الذي يصدق بالفرج، فالرواية تنص على نصيب ابن آدم من الزنى الكاذب وليس الزنى الصادق، فكل نظرة بشهوة هو نصيب من الزنى الكاذب، وكل استماع بشهوة هو نصيب من الزنى الكاذب، وكل كلام بشهوة هو نصيب من الزنى الكاذب، وكل بطش باليد بشهوة هو نصيب من الزنى الكاذب، وكل خطوة إلى شهوة هو نصيب من الزنى الكاذب، وكل قلب يهوى ويتمنى بشهوة هو نصيب من الزنى الكاذب، وما لم يصل الأمر إلى الفرج فهو من الزنى الكاذب الذي كتب على ابن آدم نصيب منه، أما لو وصل الأمر إلى الفرج وتم الوقاع فكل ما سبق يتحول إلى زنى صادق حقيقي محرم على كل مؤمن ومؤمنة. أو كما قال الرسول: (ويصدق ذلك الفرج ويكذبه).