صوتها من داخل الطائره



حامد حمودي عباس
2009 / 11 / 6

بلمحة كأنها رقصة جفن العين ، غابت عني بين زحام المغادرين في المطار ، وحاولت مد عنقي ما استطعت ، لأسجل في كوامن روحي آخر صورة لجسدها المتعب ، وهي تترنح تحت ثقل سنينها المحملة بالهموم .. كان أحد أبنا ئي يقف ملتصقا بي وهو يستدر عطف الزحام ، كي يحضى هو الآخر برؤية أمه ، والتي غادرتنا الى المجهول لتكمل ما عليها من ضريبة الأمومة ، إلى وطن إنسلخت منه أحاسيس الأمومه .
وحينما غابت عني تماما ، لا أعرف كيف سنحت لها فرصة الاتصال بي من داخل الطائره .. لقد أخبرتني بأنها الان تجلس في مقعدها ، وقد استعارت تلفون سيدة تجلس بجوارها لتتصل بي .. كان صوتها هو ذاته لم يتغير ، يحمل ذات القوة والقدرة على التأثير فينا نحن تلاميذها الصغار ، لم يثنها الخوف من ركوب متن المجهول أن توجه لي آخر نصائحها وتوجيهاتها بالنسبة للبنات والاولاد .. لا تنم لساعة متأخرة فيفوت موعد المدرسه .. لا تنسى إغلاق الابواب بإحكام حينما يجن الليل .. لا تترك ابنتك الصغرى تقترب من المطبخ لكي لا تؤذيها نار الفرن .. الصحون الموجوده على يسار الخزانة الموجوده في وسط الشقه ، انقلوها الى مكان آخر .. اطفيء الثلاجه وبقية الاجهزة عندما ينقطع التيار الكهربائي ...
لم أكن بالضبط مسحورا بغير موجات صوتها وقد تجسدت لي حينها كل قوة المرأة في ذلك الصوت .. وتأكدت كم هي ضعيفة تلك الإرادات المتهاويه ، حينما تحاول إزاحة المرأة لتضعها خلف الركب .. إنها زوجتي أم أبنائي .. تلك القوية التي سارت أمامي في المحن ، وقاومت ببسالة متناهية جبروت العوز والتشرد .. لتحرث معي الارض حينما لفضتني قوى الشر، وسلبت مني وظيفتي وبيتي بسبب أفكاري المتمرده ، وسارت مرفوعة الرأس ، وأمامي أيضا ، لتلبس سلاسل الاعتقال بكل شموخ حيث لم يرعبها موت الكثيرين امام أعينها .. ولم تكن يومذاك مذنبة بشيء الا كونها زوجتي
فهي لم تعتد أن تكون غير ربة بيت ومربية لجيل .. ولا تحسن في حياتها عدا أن تكون قائدة لركب أسره
لم تسألني في لحظة من لحظات رفقتها لي عن شيء غير الذي يتعلق برسم مصير أبنائنا وبناتنا .. ولم أجدها يوما منشغلة بغير تنظيم شئون محيطها الاسري المقدس لديها غاية التقديس ، خيوط شعرها الابيض كانت تروي لي حينما أراها ، سجلا حافلا بالعطاء ، وعيونها التي أذبلتها السنين العجاف تنطق دوما بالترقب والحذر مما يهدد عشها ويسعى لتخريبه ، لقد كنت أحسها أما لي كما هي لأبنائها ، وحينما تغيب عني ولو لوقت قصير ، يضطرب عندي كل شيء ، وتغيب عني سبل التدبير ، ويغادرني فن الاختيار بين الاشياء .
ترى .. كيف يجرؤ من لا يحترم في المرأة روحها الطيبة المتفانية ، ليقول فيها ما يقول من هدر لقيمتها الانسانية ، ومن ثم يسمح لنفسه أن يبقى يحمل صفات آدمية تتيح له أن يدخل رقما في تعداد سكان الارض ؟؟ .. كيف لمدعي بما يميزه عن حيوانات الغابة ، أن يجرح كرامة امرأة أيا كانت ، ويدفع بها الى الخطوط الخلفية دون وجه حق ؟؟ .. كيف ومن أقر أن تجلد النساء ، وترجم ، وتموت ظلما على أيدي يحركها عفن العقول ، ويدفع بها إلى ركوب متن الجريمة مع سبق الاصرار والترصد ؟؟ ..
ومع كل هذا الكم الهائل من العهر الاجتماعي والديني ، والمتحشد ضد المرأة ، ستبقى رمزا من رموز الحب والجمال والعطاء ، وكيانا يصارع خفافيش الظلام ، وهرما يحمل على جنباته ألوان الحياة الجميله ، وستبقى صوتا يرمز لألحان جنان من نوع آخر ، غير تلك التي ينتظرها ، ويعدنا بها ، من هم أعداء الفرح وسعادة الانسان .