همـزة العفيف وسونيا وفستـان فيفي



مفيد مسوح
2004 / 6 / 10

لو أن همزة (فاجــأت) التي وردت خطأً في مقال (تحية إلى الأصولية الهندوسية) جاءت في مقال آخر ليس للعفيف الأخضر، أستاذنا الفيلسوف والمفكر والكاتب الكبير، لعبرتهـا دون اكتراث كما أفعل في عشرات المقالات والخواطر والمداخلات والمواد الإخبارية هنا وهناك .. فأخطاء اللغة والنحو والمفردات التي تمتليء بها كتابات البعض ممن ينقصهم الإلمام بقواعد اللغة العربية وتراكيبها وصرف أفعالها تتجاوز حدود ما يمكن التسامح به ضمن هامش ما اصطلح على اعتباره (خطأً مطبعياً).
أما أن يكون الخطأ في نص للعفيف الأخضر، الكاتب السخي الذي تشدك لقراءته لغتـُه السلسة مثلما يشدك الموضوع وتتلذذ بتراكيبها مثلما تسهـِّـل عليك استيعاب عرضه وتحليله واستنتاجاته، فلا بد أن لهذا الخطأ سبباً غير عادي يتعدى حالة السهو !!
ولكنك لن تتعجب عزيزي القاريء إن أنت عدت إلى بداية الجملة (ملاحظة) إذ يقول العفيف: (عندما أمليت هذه السطور ...) فالخطأ إملائي سببه الشخص الذي يكتب ما يملي عليه العفيف، وكلنا له ممتنون!
اختلجت مشاعري وأنا أقرأ الفعلين (أمليت) و (فاجئت) .. وكادت دموعي تبلل أجفاني التعبة مساء الجمعة .. حزنت وانقبض قلبي وعادت بي ذاكرتي القريبة إلى كلمات الأخضر على شاشة قناة الحرة عن مرضه المفاجىء ومعاناته واكتئابه حيال عجزه الطارىء عن الكتابة بيده اليمنى، وهي رابعة عناصر ثروته: قلبه وعقله وعينيه، واضطراره لإملاء أفكاره ونصوصه على من يساعده في الوصول إلى قرائه وتلامذته ومحبيه !!
وما زاد مقتي أنني كنت مشمئزاً من برنامج أتحفتنا به شاشة الـ mbc بعد ظهر يوم الجمعة وهو لقـاء كنا له متعطشين مع إحدي سيدات فن (هز البطن) وكانت تتحدث عن تربعها على عرش هذا الفن الشرقي المتميز الذي يعاني من إهمال المعنيين وعدم تقديرهم وكذلك عن الظلم الكبير الذي لاقته في حياتها والذي حرمها حق التمتع الشخصي بملذات الحياة وبالسياحة واللهو والتسلية كونها كانت مشغولة بهموم (رسالتها) !!
(فيفي) التي كانت تجيب على أسئلة المحاور واستنطاقاته استفزتني، ولا أدري كم من الآخرين معي، وأثارت مشاعر السخط لدي .. ليس عليها شخصياً، فما زلت أعتبر أشخاصاً كفيفي ضحايا ثقافات رديئة ورجعية وذكورية، وإنما على البيئة المتخلفة التي تجعل المجتمع يبدو وكأنه بحاجة لا نقاش فيها إلى هذا الفن الرخيص المبتذل وإلى مهاراتٍ لا بد من تسليط الضوء على أصحابها وتشجيعها وتقديرها كجزء من ثروة ونعمة اختص بها الشرق.
لقد بدت (الفنانة القديرة فيفي) من خلال استعراضها لسيرتها وفلسفتها ورؤيتها للحياة والفن بطلة قومية ومناضلة من أجل سعادة الوطن وكرامته .. فهي التي تكره اليهود وتتمنى لهم الفشل والهزيمة .. وقد أركعت أمامها المتدربات اليهوديات على الرقص الشرقي لتذلهن في حين كن على ظن بأن هذا الركوع هو جزء من التدريب !!
لهذه الفنانة حقوق ومتطلبات .. إذ يتوجب عليها أن تظهر أمام الجمهور أنيقة ورشيقة ومتبرجة مما يرفع من كلفة حياتها ومقتنياتها الباهظة الثمن .. فأرخص فستان يزيد سعره عن 45 ألف جنيه !! ناهيك عن السيارات الخاصة والشقق الفاخرة وبدلات الرقص والأكسسوارات والمعالجة التجميلية والعناية بالجسد وكذلك مستحضرات التجميل والأحذية إلخ ..
وأنا أستمع إليها بحزن واكتئاب تذكرت أطفال وأمهات غزة ورفح والنجف والفلوجة وفقراء افريقيا ومرضاها وملايين المشردين في العالم .. وتخيلت كم من ملايين الدولارات تصرف على الموائد التي ترقص فيفي حول كؤوسها المعربدة وأطباقها العفنة إشباعاً لنزوات ذكور الشرق البائس الجريح يتوهمون السعادة ويتفاخرون بخبلهم المغطى بما يدفعونه بسخاء وببلاهتهم المقنعة بمرح مصطنع أجوف !!
تذكرت مآسينا وتعثرَ كافة أشكال النهوض والسير إلى الأمام وخطط التخلص من الشرور والتخلف بسبب زبائن فيفي وأنانيتهم وسيطرتهم على البلدان والشعوب ومصائرها وقمع أصحاب الأدمغة والعقول النيرة والقلوب المخلصة .. وتذكرت الكذب والرياء والخداع الذي يلجأ إليه الكثيرون متظاهرين بنضالهم من أجل كرامة الشعب وعزة الوطن وهم يقامرون بقوته ويبددون خيراته في مرحهم الأناني المبتذل في حين يفتقر الكثيرون إلى ثمن الخبز والدواء والكتاب.
وتذكرت العفيف الأخضر قبل أن أقرأ (تحيته إلى الأصولية الهندوسية) وتذكرت حاجته إلى العلاج، وهو أقل ما يقدم لواحد من أكثر المفكرين العرب نبلاً وكرماً ونكراناً للذات .. في حين ضاقت السبل وضاع الحياء !!
وكالعادة .. في مقالات العفيف أجد تفسيراً لما يؤرقني .. فتجربة الهند الأخيرة مثل حي ساطع جلي يضع عالمنا العربي أمام خيارين لا ثالث لهما .. لقد أثبتت الهند أنها بلد ديمقراطي علماني تحتل المواطـَـنة فيه مكانتها الصحيحة دون اعتبارات دينية أو عرقية ضيقة، تحميها مظلة التآخي الإنساني واحترام الدستور وحقوق الوطن وهذا سيؤمن للجميع العدل والمساواة والأمن والرخاء.
أما نحن، وما نمر به الآن من تحدٍ وجدية اختبار، فليس أمامنا، إن أردنا الخروج من هذه المآزق المميتة، إلا الاقتداء بالروح الرياضية لحزب (بهارتا جناتا)، الذي احترم دون تردد أو خجل إرادة ملايين الناخبين وقبل النتيجة التي ظهر فيها مهزوماً أمام مصلحة الوطن.
ولا بد لنا من الإقلاع نهائياً عن عادة الاستهتار بالآخرين، لعدم سماوية معتقداتهم، ومن التخلص من المقولات الرجعية المتعلقة بدونية المرأة وبربط الدين بالسياسة وبالتفوق العرقي وبتوارث السيطرة والملك .. ولا بد لنا أيضاً من إلغاء كافة الشعارات اللامنطقية واللاإنسانية التي تظهرنا أسياداًً منتصرين دوماً ويركع الآخرون عبيداً ذليلين عند أقدامنا في حين نكون عاجزين عن الدفاع عن أبسط حقوقنا ..
و لن يكون لنا مهرب من الانتقال إلى معسكر الديمقراطية الشعبية المتمثلة بالمساواة والشفافية والعلمانية المطلقة واحترام حقوق الإنسان بدءأً بالاعتراف بحقوق المرأة الكاملة ومساواتها التامة بالرجل في كافة مناحي الحياة وفسح المجالات العملية والقيادية أمامها بعيداً عن اعتبارها (ناقصة عقل ودين) ولا تصلح إلا لبيتها أو (لهز البطن)، تماماً كاعتراف المجتمع الهندي بكافة أطيافه وشعوبه بحقوق وقدرات المرأة الهندية متمثلاً باختيارهم سونيا غاندي، التي كانت ستقود البلاد المترامية الأطراف وملياراً من البشر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وعلمياً دون مشاكل ودون عنف ودون سيطرة شمولية ..
في مجتمع مدني علماني متطور فقط سيكون للأدباء والمفكرين والمبدعين، كما لجميع أفراد الشعب المنتجين والمخلصين لأوطانهم وشعوبهم، أمنهم وحريتهم وحقوقهم المدنية والاجتماعية والصحية ولن يأرق الناس خوفاً من طارىء أو مرض مفاجىء .. ولن يكون ثمن فستان الراقصة، وهو متوفر أو يسهل توفيره، مساوياً لكلفة عمل جراحي كبير غير متوفر لمن يحتاجه إلا بتطوع ِ كريم ٍ ندُر أمثاله !!

أتمنى الصحة والعافية للأستاذ الجليل العفيف الأخضر .. فنحن بانتظار مقالاته ومداخلاته القيمة دوماً ..
وأقدم من أعماقي الشكر الجزيل لصاحب القلب الكبير الذي عبر باهتمامه النبيل وجوده عن محبة الألوف وتضامنهم.