أمي.. معلمة .. ومرشدة ....



محمود المصلح
2009 / 11 / 24

كما كانت دوما أمي تنشر جناحيها علىينا محبة ورحمة ورافة ، كما كانت دوما المتوسط الحسابي الأكبر لنا جميعا ، عامل الجذب ، وناشر الحب ، معلم التعاون والتراحم ،
ناصحة ومرشدة اجتماعية من الطراز الأول ، بعيدا عن التعقيدات والمصطلحات العلمية والنفسية ، بعيدا عن الفذلكة والفلسفة والزيادة والنقصان ، هي كما أمهات اغلب جيلنا حريصة ، مهتمة ، منتبهة واعية ، متطلعة إلى الغد .. غدنا ربما أكثر منا ..بل مؤكد .. فنحن كما كنا على الدوام بالنسبة لها المستقبل والأمل الذي تعمل له وتتطلع إليه من موقعها كمرشدة وقائدة للأسرة ومن ثم المجتمع ..تدرك بحكمة المرشد الأجتماعي وحنكة القائد مواطن وأوقات التشجيع ، وأساليب التحفيز ، لأثارة الدافعية ، وبث روح التحدي مع الظروف والمجتمع .. وإشاعة جو التنافس .. بلا نظريات تعليمية أو إطار تربوي ..وبلا إطلاع ومطالعة .. وبلا كتب أو مجلات .. وحتما بدون الاستفادة من الشبكة العنكبوتية ..كما كانت تعرف كيف تعاقب ولماذا ومتى .. فلم تعاقب أحدأ من أمام الآخر .. ولا أمام أولاد الجيران . وكأنها تدرك الخصوصية الفردية ، والنفسية الإجتماعية للفرد ككائن معتز بذاته . حريصة على تلطيف الجو بعد العقاب بما لا يذهب العقاب بلا فائدة .
لم تدخل مدرسة ولم تتعلم ، لكنها تمكنت من دخول مدرسة محو الأمية وهي تدخل العقد الخامس من العمر ..ولكنها لم تثابر على ذلك .. اعتقدت وحرصت على أن نتعلم وندرس وسعت إلى ذلك حثيثا ، وكانت تقول العلم سلاح .. والشهادة نجاة في هذا الزمن الغادر ، فنحن ليس لنا إلا العلم طريقا للحياة ، لكن مضى وقت طويل طويل جدا حتى بعد ان أنهيت الصف العاشر أنا واخوتي ,وأختي الوحيدة .. مضى وقت طويل ونحن نعتقد أن امنا تتقن القراءة والكتابة ..فلقد كانت تراجع لنا دروسنا .. وتتفقد واجباتنا وتتابع اختباراتنا وتحصيلنا العلمي ... وتعاقب ..وتكافىء ..بعد زمن عرفنا كيف كانت تفعل ذلك ..تتابع دفاتر حل واجبانتا.. فكلما كانت الخط واضحا مرتبا .. كانت هناك مكافأة .. والعكس .. عقاب .. اما الأختبارات .. فكلما كانت علامة الصح كثيرة كانت هناك مكافأة .. وأما إذا كانت علامة الخطأ فالعقاب حتمي ..

كنا صغارا نركض في البيت الصغير المتواضع .. وكان يسعنا كلنا ويزيد ..( الآن وأنا في بيتي الواسع وعدد أطفالي القليل .. استغرب ) كنا اسرة كبيرة بامكانيات اقتصادية قليلة ، ضئيلة ، لكننا كنا مكتفيين ذاتيا .. وكان الرضى يغمرنا ، اتذكر اجتهاداتها في ليالي الشتاء الطولية الباردة .. وصوت حبات البرد على الصفيح فوق روؤسنا .. اتذكر كيف كانت تبتكر وجبات .. تعدها مما توفر في البيت وتضفي عليها جوا من المحبة والمتعة .. والفن أيضا ..

قطرميزات المخللات ..خيار وبندورة خضراء وزيتون اخضر واسود ، وجبنة بيضاء بلدية واللبنة بالزيت ، وزيت زيتون بلدي ، ومربى عنب وتفاح وقرع ، ومكدوس وفلفل أخضر حار وحلو عادي ومحشي .. وعلب المحاصيل المجففة ، باميا خضراء ونعنع وملوخية وبندورة، وكيس من الجميد ، وجديلة من الثوم تتدلى من زاوية الجدار ، وبجانبها حبل من الباميا ، ومخزون غير قليل من الطحين ( قمح بلدي ) والفريكة والبرغل والعدس.. ألخ

اتذكر الطابون .. الذي كانت تصنعة بيدها ، تختار موقعه. . وتحدد تصميمه وتبنيه بيدها .. قليل من طين الأرض المخلوط بالتبن أو القش .. لتفور من بعد رائحة البطاطا المشوية والباذنجان المشوي .. لتنشر رائحة الخبز اريجها في الحي .. ورائحة الحطب والقش تعطي طعما ومذاقا للخبز والحياة من بعد لا نزال نتذكره بشغف وحب ووله نشتاق لتلك الرائحة .. وهيئة أمي وهي ( تشمر عن ساعديها أمام الطابون ) تخرج الصواني المحمرة ..
كيف .. كانت أمي تساهم في صناعة الوطن المستقل .. وبناء البلد .. تعد وتعلم وتبني وتصنع وتزرع وتوفر..لها نظريتها الإقتصادية الخاصة .. لو كتبت لكانت نظرية يحتذى بها .. ولسعدنا نحن بها كبلد أو بلاد عربية .. فلم تكن عالة أو عاطلة ..ولم تكن مسرفة أو مبذرة .. ولم تكن مقترة .. كانت وسطا من كل ذلك .. دون أن تعرف ( خير الأمور الوسط ) دون أن تعرف الوسطية .. وما يسبقها أو يتبعها من مصطلحات .. كالتطرف والأرهاب .. دون أن تقرأ ( وجعلناكم أمة وسطا ) .
تلك أمي .. برائحة الأرض .. وصوت الحب .. صوت الأمهات العتيقات ..التي تفوح من عصبتها السوداء رائحة الريحان والمسك والعنبر . . بسبحتها الطويلة وشعرها الأشيب المحنى بالحناء الحمراء الحجازية .. ويدها المخضبة بحناء الأرض ورائحة العطاء .. وقد حفرت العقود السبعين في يدها صورة الرحلة الطويلة .. وأبفت فيها كل الأريج والعبق الذي نشتاق إليه .
أمي حبيبتي