المرأة نصف المجتمع أم نصف إنسان ؟



خالد منتصر
2004 / 6 / 20

تصوروا شهادة القاضية تساوى نصف شهادة حاجب المحكمة!
[هل تصدق أن شهادة القاضية تهانى الجبالى بمقاييس الفقهاء هى نصف شهادة حاجب المحكمة التى ترأسها هذه العقلية القانونية الفذة؟!! ،وذلك لمجرد أن حاجب المحكمة رجل بشوارب وإسمه برعى ،ولأن المهم هو مستوى التستوستيرون وليس مستوى الفكر والإبداع فقد أطلق هؤلاء الفقهاء أحكامهم العامة المطلقة على جنس النساء بأن شهادتهم ناقصة وتساوى فى الميزان نصف رجل ،وللأسف أطلق الفقهاء لهذه الكذبة العنان حتى صارت بالونة ضخمة يلعب بها الكل ويعشقها الجميع ولايجرؤ أحد على أن يخرمها بدبوس ،وبرغم أن دبوس الردود المفحمة الذى يستطيع تفريغ بالونة الأكاذيب هذه موجود ومتاح إلا أن تكلس العقل وشلل التفكير جعل من نقض هذه الأكاذيب مهمة مستحيلة خاصة وأنها ستنال من هيبة ومكاسب المجتمع الذكورى الذى يعض عليها بالنواجذ .
[ برغم أن نصوص القرآن ساوت بين الرجل والمرأة فى الحقوق والواجبات والتكاليف والثواب والعقاب ...الخ ،ففى سورة آل عمران "فإستجاب لهم ربهم أنى لاأضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ..."،ومثل قوله تعالى فى سورة التوبة " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض .." ،وفى سورة النحل " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ..." ،ونفس المعنى فى سورة الأحزاب " من عمل سيئة فلايجزى إلا مثلها ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ...."،وآيات أخرى كثيرة تساوى بينهما دون أى تمييز ،برغم كل ماذكرنا فإنهم يصرون على أن عقل المرأة نصف عقل الرجل لأنها بنصف شهادته !،فهل معقول أن يساوى الله بين الرجل والمرأة فى كل ماذكرنا ويأتى عند الشهادة ويفرق بينهما لأن عقل الرجل هو أكثر حصافة من عقل المرأة الذى هو صناعة الله أيضاً ؟!،وهؤلاء يعتمدون على أطول أيات القرآن وهى آية الدين أو المداينة فى سورة البقرة والتى تقول " ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فإكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولايأب كاتب أن يكتب كماعلمه الله فليكتب وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولايبخس منه شيئاً فإن كان الذى عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لايستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل وإستشهدوا شاهدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وإمرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل أحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ......." ،وبالطبع تم إقتناص هذه الآية وإحتكار تفسيرها وتفصيلها على مقاس رغبة الفقهاء الرجال الذين يريدون توسيع معناها حتى تشمل حال المرأة فى كل حياتها والخروج بهذه النتيجة والمعادلة الشريرة وهى إمرأة بنصف شهادة تساوى إمرأة بنصف عقل ،ويرفعون فى ذلك شعارهم المرعب العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب حتى لايستطيع العقل فكاكاً أو هرباً لتفسير آخر ،ولنقرأ معاً بعض ماقاله الفقهاء وأتباع منهجهم من الشيوخ :
• يقول إبن قيم الجوزية فى كتابه أعلام الموقعين " قد إستقرت الشريعة على أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ،فالمرأتان فى الشهادة كالرجل الواحد ".وعدد بعد ذلك أموراً غير الديون وهو بذلك جعلها حكماً مطلقاً برغم أنه يقول الشريعة وليس النص القرآنى .
• البعض رفض شهادة المرأة من أصله حتى ولو بنصف نصاب ،فبينما أجاز الإمام أبو حنيفة قبول شهادة المرأة بنصف نصاب وليس بالطبع نصاب كامل فى " العتق والوكالة فى المال والإيصاء إليه فيه ودعوى قتل الكافر لإستحقاق سلبه ،ودعوى أسير الإسلام السابق لمنع رقه ،وجناية الخطأ والعمد ،والنكاح والرجعة "،رفض الإمام مالك والشافعى شهادتها وقالا كما ذكر كتاب إبن القيم الجوزية " لايقبل إلا رجلان وأن الله ذكر الرجل والمرأتين فى الأموال دون الرجعة والوصية ومامعهما " ،أى أنهما مسلمين بأن الآية تخص الأموال والدين ولكنهما لم يستغلا ذلك لقبول شهادتها كإنسان كامل فى المسائل الأخرى بل تطرفا أكثر ورفضا شهادتها من أصله !!،وهذا لأن بوصلة التفكير مضبوطة على المكاسب الرجالى فقط.
• يقول حسن البنا فى حديث الثلاثاء ص 369 " وإذا كان الإسلام قد إنتقص من حق المرأة فيجعل شهادتها بنصف شهادة الرجل فهو مجاراة للطبيعة ،فطبيعة المرأة تجعلها تعيش بعاطفتها لابعقلها والعاطفة تتاثر ،وتمتاز المرأة بعاطفتها ولاتمتاز بعقلها وهى مع ذلك سريعة النسيان ".وهى الحجة الجاهزة المعلبة سابقة التجهيز التى يشهرها الجميع فى وجه المرأة المطالبة بالمساواة .
• يقول محمود عبد الحميد محمد فى كتابه حقوق المرأة فى الإسلام والديانات الأخرى ص 86 بنفس تكرار الإسطوانة المشروخة " جعل شهادة إمرأتين مقابل شهادة رجل واحد فإن هذا التشريع ليس فيه الإتجاه إلى تحقير المرأة ،وإنما هو ضمان لسلامة الشهادة التى يترتب عليها بعض الحقوق ،ولأن الإسلام ينزع دائماً فى كل تشريعاته إلى تحقيق العدالة فقد حرص على أن تكون الشهادة بحيث لايقربها ماقد يؤثر فيها بعض التأثير ،ولما كانت النساء عاطفيات بحكم طبيعة الأمومة فيهن وسريعات التأثر ،فإن هذه النزعة العاطفية قد تخرج بالشهادة عن الوضع الصحيح ".
• يحاول الدكتور محمد عمارة كعادته أن يبرر تبريرات غريبة ليلتف حول القضية الأساسية ويخفى وجهة نظره الفعلية المتسقة مع نظرة التزمت ،فيبرر فى كتابه هل الإسلام هو الحل ص 152 قائلاً " هل حديث رسول الله _صلعم_عن نقصان العقل والدين يعنى الذم أم أنه يعنى تقرير واقع مذموم ؟بل قد يكون هو الواقع المحمود ..إن النقص المذموم فى أى أمر من الأمور هو الذى يزول بتغييره ،فهل يجوز للمرأة أن نجبر النقص فى شهادتها من شهادة الرجل فنزيل الذم عنها ؟ بالطبع لا فهى مثالية ومحمودة على هذا النقص لأنها تمتثل شرع الله فهو ليس بالنقص المذموم إنما هو المحمود " ،وبدون التلاعب بالألفاظ يقول دكتور عمارة أن المرأة لن تستطيع تغيير حكاية نقصان العقل ونصف الشهادة، إذن مادامت لاتستطيع التغيير فهذا واقع محمود ،ونسأله سؤالاً هل المجنون الذى لايستطيع تغيير جنونه يصبح واقعه محموداً وليس مذموماً لمجرد أنه لايستطيع التغيير !،وتلاعب الدكتور عمارة بالألفاظ لاينتهى فهو فى كتاب آخر عن حقوق المرأة فى الإسلام يقول أن هذه الآية ليست فى الشهادة وإنما فى الإشهاد ليدخلنا فى متاهات لفظية نتوه معها عن حقيقة ظلم الفقهاء الفادح للمرأة المسلمة .
[ ماسبق كله وغيره الكثير يصب فى خانة الإنحياز الفقهى الذكورى ولوى عنق الآيات والإنقضاض عليها لإحراز إنتصار سريع وحاسم وأبدى فى نفس الوقت ،ويتغاضى هؤلاء المنحازون عن الظرف الخاص بالآية ولايسألون أنفسهم هل شهادة أستاذة الإقتصاد والإحصاء فى الأمور المالية وذاكرتها الحديدية هى موضع شك؟، وشهادة رجل لم يكمل تعليمه على سبيل المثال فى نفس الأمور المالية فى العصر الحاضر هى موضع ثقة ؟،ولم يسألوا أنفسهم عن وضع المرأة حينذاك حين كانت معزولة عن المجتمع وعن أموره وتفاعلاته الإقتصادية داخل صدفتها الخاصة التى صنعها لها المجتمع البدوى الرافض لمشاركتها فى مثل هذه الأمور ،ولأن الذاكرة تتربى وتتقوى كالعضلات فقد أصيبت ذاكرة المرأة البدوية القديمة بالضمور فى هذه النواحى الحسابية والمالية ولذلك نزلت هذه الآية بهذه الصيغة المرتبطة بظرفها وزمانها وشكل المجتمع وتوازناته الخاصة حينذاك ،ولايمكن أن تنطبق على عصرنا الآن الذى إقتحمت فيه المرأة كافة المجالات وأيضاً لايمكن أن تنطبق على شهادة النساء عموماً حتى فى زمن نزول الآية ،أى أنه إذا زالت الموانع التى خلقها الظرف القديم رجعت الأمور إلى نصابها ثانية ،ومن الممكن على سبيل المثال أن يوضع فى نفس الوضع أستاذ كيمياء من القابعين فى معاملهم وغير المهتمين بالسياسة حين يستدعى للشهادة فى قضية سياسية وهو لايقرأ حتى الجرائد ،هنا تكون شهادته أقل قيمة بالرغم من أنه رجل وبالرغم من مركزه العلمى المرموق !.
[ الآية السابقة التى إعتمد عليها من يريدون للمرأة أن تكون نصف إنسان هى مجاراة لعرف سائد حينذاك وليست تشكيكاً فى قدرات المرأة العقلية ،بدليل أن هذا العرف نفسه كان يفرق بين الرجل الحضرى والبدوى فى الشهادة يعنى تفرقة لنفس الجنس ،وقد رد بعض الفقهاء شهادة البدوى نظراً للعرف السائد وقتها من إستخفاف به وبعقله ،وأيضاً نفس المنطق هو الذى حكم تفرقة الفقهاء بين شهادة الحر والعبد الذى رفض شهادته مالك والشافعى وأبو حنيفة !!،كل هذا برغم أن الحر رجل والعبد رجل أيضاً !،ومن الأدلة العقلية الأخرى على فساد حجة من ينتقص عقل المرأة بسبب نقص شهادتها الدليل الذى يعود بهؤلاء إلى الأحاديث النبوية التى روتها نساء ،هل رواية الحديث الذى يرسم طريق حياة ويشرع أحياناً ليست بشهادة ؟وهل لابد أن ترويه إمرأتان ؟!!،ومن الأدلة العقلية المنطقية الأخرى أنه بجانب أن الآية قد جارت العرف السائد فإنها راعت ظروف الواقعة نفسها التى تتطلب الشهادة وهى المداينة ،فأحياناً ظروف ومناسبة الشهادة تتطلب عدداً معيناً فمثلاً واقعة الزنا تتطلب شهادة أربعة وليس ثلاثة وهذا ليس إنتقاصاً من الثلاثة رجال ولكن لأن الواقعة نفسها جسيمة وإثباتها لابد أن يكون أكثر تحديداً لأن مايترتب على هذا الإثبات رهيب ،وأيضاً فى الشهادة على أن المنكوب صار فقيراً تحل له المعونة لابد من شهادة ثلاث رجال وليس إثنين ....وهكذا فإن الظرف والمناسبة والعرف السائد كل هذا يحكم عدد وجنس ونوعية الشهود فى ذلك الوقت .
[ من الآراء المستنيرة التى أسدل عليها الفقه الذكورى الستار ومارس جريمة الصمت والتجاهل تجاهها رأى المفكر الإسلامى السودانى الراحل محمود طه والمفكر التونسى الطاهر الحداد وغيرهم من المستنيرين الذين يكون مصيرهم عندنا إما الإعدام الجسدى أو الإعدام المعنوى ،وقد لخص محمود طه فى كتابه الرسالة الثانية فى الإسلام رأى هؤلاء المستنيرين عندما رأى التناقض بين كون المرأة تحكم وتقضى وبين أن تكون شهادتها منقوصة فقال " الخلل ليس فى الدين ولكنه فى العقول التى لايحركها مثل هذا التناقض لتدرك أن فى الأمر سراً ،هذا السر هو ببساطة شديدة أن شريعتنا السلفية مرحلية وأنها لاتستقيم مع قامة الحياة المعاصرة وأنها لكى تستطيع إستيعاب هذه الحياة وتوجه طاقتها الكبيرة لابد لها من أن تتفق وتتطور وترتفع من فروع القرآن إلى أصوله هذا ماتعطيه بداهة العقول وحكمة الدين " ،وكانت آية الدين هى من الفروع التى قصدها المفكر السودانى أما آية الأصول التى لابد أن نطبقها فهى "ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف " أى المساواة فى الحقوق والواجبات ،ولذلك فواجب القضاء مثلاً الذى تقلدت مناصبه المرأة يقتضى أن يقابله حق الشهادة الكاملة ، ولكن هذه التناقضات السابقة وغيرها يتم تجاهلها لأن الشريعة عندنا كانت نتاج صراع مصالح وبالطبع كان قانون الأقوى هو الغالب ،والأقوى كان الرجل ولذلك قام الكثير من الفقهاء بدور الترزى الذى يفصل الرأى الفقهى حسب المقاس الذكورى والباترون الرجالى ،وتم نثر الفتات للمرأة وإيهامها من قبل كهنة التزمت بأنها الجوهرة المصونة والدرة المكنونة، وأن قيودها هى أساور ذهبية ستزين معصمها ،إنه القمع تحت ستار الدين ،والقهر فى الدنيا بدعوى شراء الآخرة .