النظام الأمُومي والنظام الأبوي



كافين رايلي
2009 / 12 / 30

الفصل الثاني من الغرب والعالم، تاريخ الحضارة من خلال موضوعات
The West and the Word, Atopical histpry of civilization

النظام الأمُومي والنظام الأبوي
(القوة الزراعية والقوة الحضرية)

لم تقتصر الحركات النسائية، في السنوات الأخيرة على تنبيها إلى تلك الأنماط الجنسية الثابتة، لشخصيتي الذكر والأنثى، التي تفرض على الصبية والفتيات، بل أبصرتنا أيضا بعدم التكافؤ في السلطة بين الرجال والنساء في مجتمع البالغين. إن السلطة الاقتصادية في العمل، والسلطة السياسية في المناصب العامة، والسلطة الاجتماعية داخل الجماعة يتولى الرجال مقاليدها بنسبة تفوق ما يسمح به عددهم.

فمتى تكون "عالم الجل" هذا ؟ وهل أتى على النساء حين من الدهر كن فيه زعيمات المجتمع ؟ أم أن مقاليد الأمور كانت دائما بأيدي الرجال ؟ ومن أين استمد الرجال سلطانهم ؟ وإذا كنا نعيش في كنف النظام الأبوي، فمتى كانت نشأته ؟ وما أسبابه التاريخية ؟

هذه بعض الأسئلة التي نطرحها في هذا الفصل، وإن كنا لا نستطيع أن نجيب عليها جميعا، ولكننا مع هذا نستطيع أن نضعها في سياقها التاريخي ثم نطرح بعض النظريات.

وتذهب إحدى نظرياتنا إلى أن النظام الأبوي، كما نعرفه، لم يكن موجودا منذ بدء الزمان، وأن مجتمع العصر الحجري القديم إذا كان أبويا في الغالب فإن مجتمع العصر الحجري الحديث لم يكن كذلك. وهذا لا يعني أن مجتمع العصر الحجري الحديث كان مجتمعا أموميا، وإن كنا سنفحص بعض الشواهد الدالة على ذلك الزعم. والظاهر أن مجتمع العصر الحجري الحديث قد عكس - على الأقل - بعض مؤسسات العصر الحجري الأبوية. وعلى أية حال، فإن مجتمع العصر الحجري الحديث قد زود النساء فيما يبدو بمكانة ومركز هامين في كثير من النواحي. والنظرية التي تعتنقها تذهب إلى نظامنا الأبوي الحديث قد بدأ تطوره في أعقاب العصر الحجري الحديث في أول حضارات مدن العالم القديم. وسوف نسوق بعض البراهين على هذه النظرية، ثم نترك لدارس أمر البت فيها.


المزارعون والرعاة : العصر الحجري الحديث :

إن ابتكار الزراعة هو أهم طفرة في التاريخ البشري (حتى مائتي العام الأخيرة على الأقل) وهي من ابتكار النساء. والأرجح أنها رفعت مقام النساء في كثير من المجتمعات التي حدثت فيها.

فقد كان الصيادون وجامعو الثمار في العصر الحجري القديم مضطرين إلى الاعتماد على ما قد تزودهم به الطبيعة. فلما اخترعت الزراعة خطا البشر أول خطواتهم الجبارة نحو السيطرة على الطبيعة. فالنساء اللواتي كن يقضين أيامهن في التقاط الفواكه والجوز والحبوب البرية تعلمن غرس بعض هذه "البذور" في التربة وبذلك حصلن على أكثر مما قد تجود به الطبيعة. وحوالي ذلك الوقت الذي تعلمت فيه النساء "تدجين" عالم النبات الطبيعي والتحكم فيه تعلم الرجال وسائل استئناس الحيوانات والتحكم فيها والسيطرة عليها بعد ان كانوا يطاردونها من قبل.

وقع هذان الحادثان - تدجين النباتات واسئناس الحيوانات - لأول مرة منذ نحو عشرة آلاف سنة في أنحاء من الشرق الأوسط والهند والصين، ثم في أنحاء أخرى من العالم بعد ذلك بقليل. وما وافى عام 1500 ق.م. حتى كان 99% من سكان العالم يعيشون في هذا العصر النيوليثي، أي حياة العصر الحجري الحديث.

وكان ابتكار الزراعة في المراحل الأولى من الحقبة النيوليثي أحطر من استئناس الحيوان. والأرجح أن النساء لم يتراجعن إلى مرتبة ثانوية في المجتمع إلا بعد أن تمكن الرجال (مستعينين بحيواناتهم) من القيام بمعظم الأعمال الزراعية.


عمل النساء :

لقد كانت النساء هن اللائي ابتكرن الزراعة. فقد كن - نظرا لقيامهن بجمع الثمار - أكثر شعورا بعالم النباتات، فعرفن السائغ من السام، وأسهل النباتات زراعة وأوفرها غلة. ولقد كن مزودات أيضا بأقدم أداة بشرية، وهي عصا الحفر، التي يمكن استخدامها في غرس البذورثم في جني المحصول واجتثات الجذور. كذلك كان العمل في الزراعة يشبه في رثابته جمع الثمار، فهو ثابت ومنتظم ومرهق تنقصه الجوانب المثيرة، ولكنه كان كفيلا بتوفي الرزق الضروري المضمون.

لقد خلقت الزراعة أول شكل من "اقتصاد الوفرة" : فهي أول اقتصاد يتوفر فيه للناس من الطعام ما يفيض عن حاجتهم. وما كان هذا ليحقق لولا الادخار والتدبير. ولعله في المراحل الأولى كان على النساء أن يحتفظن ببعض الحبوب والبذور التي يجمعنها بعيدا عن متناول الرجال. ومن الجدير بالذكر أن ابتكار الفلاحة قد استلزم أول توفير وتخطيط منظم من أجل المستقبل. وقد بلغ من نجاحه أن تضاعفت كثافة السكان بمضي الوقت مئات المرات عما كانت عليه أيام جمع الثمار.

غير أن ثورة العصر الحجري الحديث كانت أكثر من مجرد ابتكار الفلاحة، فقد كانت نظاما شاملا من الاختراعات المتداخلة التي جعلت الفلاحة على مستوى عال من الكفاءة، وزادت من منافع المحصول ؛ وكان معظم هذا من عمل النساء. ويلخص أحد المتخصصين هذا الإنجاز على النحو التالي :

"كان على الجنس البشري، أو بالأحرى الجنس النسوي، لإحداث الانقلاب النيوليثي، ألا يكتشف أوفق النباتات وأنسب الوسائل لزراعتها وحسب، وإنما كان عليه اختراع الآلات لحرث التربة وحصد المحصول وتخزينه وتحويله إلى أقوات... فكان جمع القوت الكافي في كل حصاد وتخزينه، إلى أن يحل أوان نضج المحصول اللاحق، وهو مما يستغرق حولا في المعتاد، من أركان الاقتصاد النيوليثي الأساسية. ولهذا كانت الاهراء والصوامع من القسمات البارزة... ويحتاج القمح والشعير إلى فصلهما عن القشور بالدرس والتذرية ثم طحنهما دقيقا، وكان الطحن يتم باستخدام هاون، ولكن الإجراء المعتاد كان عن طريق الرحى (عن طريق حك الحبوب بشدة بيد حجرية على هيئة رغيف مستدير أو على هيئة قطعة السجق الطويلة أو على قطعة من الحجر على شكل فنجان أو سرح.)

وإذا كان تحويل الدقيق إلى عصيدة أو رقاق أمرا ميسورا، فإن تحويله إلى خبز يحتاج إلى الإلمام بالكمياء الحيوية - استخدام الخميرة - كما يتطلب تنورا مشيدا على نحو خاص. وفوق ذلك كله فإن العملية الكيميائية الحيوية نفسها المستخدمة في صناعة الخبز لجعله ينتفخ، قد فتحت للبشرية عالما جديدا من السحر الرائع" 1.

ومصدر السحر الذي يشير إليه المؤلف هو اختراع المرأة للجعة والنبيد والخمر التي صنعتها بإضافة الخميرة إلى عصير الحبوب والعنب - ولابد أن المشروبات الروحية كانت برهانا مقنعا على القوة السحرية لجهود المرأة في مجال الزراعة. وكان أقدم الكهنة والكاهنات في أرض الرافدين ومصر القديمة يشربونها ويقدمونها قرابين إلى أربابهم ورباتهم لزيادة تحكمهم في المحصولات.

وكان اكتشاف المشروبات الروحية المتخمرة يعني اختراع الأواني الدائمة والتي كانت تتسم بشيء من التركيب في الغالب.

"وبحلول عام 3000 ق.م. أصبحت المسكرات بالنسبة لمعظم المجتمعات في أوروبا وآسيا الصغرى من الضروريات، وظهر طاقم كامل من الدنان والزقاق والكاسات والصفايات والشفاطات لاستخدامها في الاحتفالات.

وقد كانت جميع المخترعات والاكتشافات الآنفة... من عمل النساء. ويمكننا أن ننسب إلى هذا الجنس كيمياء صناعة الأواني وفيزياء الغزل زميكانيكا النول وعلم نبات الكتان والقطن" 2.


الأدوات وارتباطها بالنشاط الجنسي :

ذهب لويس ممفورد Lewis MumFord وفي كتابه المدينة في التاريخ إلى إلى أن خصوصية الجنس ظاهرة في اختراعات النساء في أرجاء قرية العصر الحجري :

"وكان وجود المرأة ماثلا في كل جانب من جوانب القرية : فلم يقتصر على أبنية القرية المادية بأسوجتها الواقية، التي لم يبرز التحليل النفسي معانيها الرمزية الأخرى إلا مؤخرا ؛ فإن الأمان والتفهم والإحاطة والحضانة كلها من وظائف المرأة، ويجري التعبير عنها تعبيرا بنائيا في كل جانب من جوانب القرية، في البيت والفرن، وفي الحظيرة وصندوق المؤن، في الصهريج وفي المخزن وصومعة الغلال، ثم انتقل منها إلى المدينة في السور والخندق وكل الساحات الداخلية للمباني - من الردهة إلى الرواق المنعزل. فالبيت والقرية، بل المدينة ذاتها، في نهاية المطاف، صورة مكبرة من المرأة. وإذا كان هذا يبدو من شطحات التحليل النفسي فإن قدماء المصريين على استعداد لمساندة وجهة النظر هذه ؛ "فالبيت"، أو "المدينة" في الكتابة الهيروغليفية يرمز لهما بالأم، فيؤكد بذلك التشابه بين وظيفة الحضانة الفردية والجماعية. وتتفق مع هذا الأبنية الأكثر بدائية - البيوت والحجرات والمقابر - وهي عادة مستديرة الشكل : أشبه بالكأس المستديرة الأصلية التي تصفها الأسطورة اليونانية بأنها صيغت على هيئة ثدي أفروديت" 3.

وليس هناك ما يحتم علينا أن نتفق مع ما ذهب إليه فرويد من أن "الخصائص التشريحية قدر"، ولا حتى أن نتقبل التسليم بالنتيجة التي خلص إليها ممفورد وهي أن "الأمان والتفهم والاحاطة والحضانة" هي الوظائف الطبيعية للمرأة. فإن النساء كالرجال يدركن أنفسهن بالدرجة الأولى في إطار خصائصهن الجنسية أو في أي اطار آخر (كالعمل أو المواهب الخاصة أو الشخصية أو القومية أو ما إلى ذلك). ولكن الأرجح أن النساء والرجال منذ خمسة آلاف سنة أو عشرة آلاف سنة أو خمس عشرة ألف سنة كانوا يرون أنفسهم في إطار الجنس في المحل الأول. فقد خلف لنا فنانو العصر الحجري القديم تماثيل نساء ذوات اعضاء جنسية مبالغ فيها ثم تركوا لنا، في مرحلة لاحقة، رسوم الكهوف وبها الأشخاص على هيئة عصى لهم أعضاء تذكير منتصبة وأثد ناهدة تدل بوضوح على الجنس دون سواء. وإذا كنا الآن نفضل عالما لا يتحدد فيه الإنسان بجنسه قبل كل شيء، فإن المرأة في العصر الحجري الحديث لم يتح لها هذا الخيار. وبالتالي فقد يكون تفسير ممفورد القائم على التحليل النفسي لحقبة العصر الحجري الحديث أقدر على الإدراك المتعمق لذلك العصر منه لعصرنا فيما لو طبق عليه.

وإذا كانت مرجريت ميد قد ذكرتنا بأنه لا يوجد ما يدعى بالمقومات "الطبيعية" في شخصيات الرجال والنساء فإن ممفورد يذكرنا بأن معظم الناس كانوا يعتقدون بوجود مل هذه المقومات.

وقد أطلق علماء الآثار على هذا العصر اسم النيوليثي (بمعنة الحجري الجديد) ليس بسبب ما لاجضوه من أن بقايا آثار هذه المستوطنات الزراعية الأولى تشتمل على أول أمارات بشرية من خزف ونسيج وقرى ومبان دائمة فحسب، وإنما لاشتمالها أيضا على أدوات حجرية مصقولة صقلا ممتازا أكثر إرهافا من أدوات الشعوب الباليوليثية (بمعنى الحجري القديم) المشطوفة. وهو أمر لم يقع بالصدفة ؛ لأن الحجر المصقول أنجح في اقتلاع الأشجار لتطوير الفلاحة في المناطق الخصبة (أي تلك المناطق الخصبة لدرجة، تسمح بأن تنبت فيها الأشجار).

ويرى ممفورد أنه حتى اختراع الأدوات الحجرية المصقولة، وهو السمة المميزة للانقلاب النيوليثي، هو إما اختراع نسائي أو انجاز ثقافة اصطبغت، في ظل سيطرة النساء، بصبغة أنثوية. ولما كانت أطروحته مدهشة بقدر ما هي غريبة، فالأجدر أن نتركه يسرد لنا المسألة :

مع القرية ظهرت تكنولوجيا جديدة ؛ فالأسلحة ذات الطابع الرجولي والأدوات التي كان يستخدمها الرجل في الصيد وقطع الأحجار، كالرمح والقوس والمطرقة والفأس والسكين، قد أضيفت إليها أدوات ذات أصل أنثوي تتسم أشكالها بطراز العصر الحجري الحديث : بل إن نعومة أدوات الطحن، بعكس الأشكال المشطوفة، يمكن أن تعد ذات طابع أنثوي...

وقد كانت الأدوات والأسلحة في العصر الحجري القديم، كأدوات القطع والشق والحفر والنقب والفصل والتقطيع، تنفق مع الحركات والجهود العضلية. وتتطلب استخدام القوة بسرعة ومن بعد، وباختصار كانت الأدوات تتطلب كل وجوه النشاط العدواني. فعظام الذكر وعضلاته تتحكم في إسهاماته التقنية، في حين نجد أن أعضاء المرأة الداخلية اللينة مناط حياتها : أما ذراعاها وساقاها فهي تفيد في الحركة على نحو أقل من فائدتها في القبض والضم.

كان العصر الحجري الحديث في ظل سيادة المرأة هو عصر الأوعية : عصر الأواني الحجرية والفخارية، عصر الطاسات والقدور والدنان والصناديق ومخازن الحبوب والصوامع والمنازل، وأخيرا وليس آخرا، الأواني الجمعية الضخمة مثل الترع والقرى" 4.


أفول الآلهة

والشواهد كثيرة على أن العصر الحجري الحديث غلبت عليه الثقافة النسوية، بل والخصائص الجنسية النسوية. مثال ذلك أن ربات الأمومة أو "فينوس" في العصر الحجري القديم، اللائي أخنى عليهن الدهر في الفترة المتأخرة من العصر الحجري القديم قد رجعن بكل قوة مع اكتشاف الزراعة. ولقد كانت النساء في العصر الحجري الحديث هن بلا شك مصدر الحياة، ليس فقط لاستحواذهن على خصائص القمر السحرية التي مكنتهن من ولادة البشر، بل لاكتسابهن السيطرة على الأرض والشمس حتى يستطعن إقامة أود الحياة التي قدمنها. فالنساء في العصر الحجري الحديث كن يبدون وكأنهن نصدر الخصب كله ومصدر الحياة كلها. وكانت الآلهة الكبرى عند الشعوب الزراعية، أي ربات الأرض، هن اللواتي يحيين الأرض بعد موتها فتزهر وتثمر، وهكذا اتخذ القدماء في بلاد ما بين النهرين الربات الأمهات تيامات Tiamat وننهورساج Ninhursag وعشتار Ishtar، واتخذ قدماء الهنود من الهندوس الربة كالي كما اتخذ المصريون ايزيس.

وكثيرا ما عبدت في مجتمعات العصر الحجري الحديث الأم الأرض والإبنة الشابة العذراء (كانت كلمة "عذراء" في تلك الأيام تعني "المستقلة" أكثر مما تعني "التي لم تلد" أو "الغريزة"). والصورة اليونانية القديمة لهذا النمط هي ديميتير Demeter الأم الكبرى للأرض، وبرسيفوني الإبنة التي تبعث حية من الموتى في كل ربيع مثمر. وقد كانت الأم الأرض، ديميتر أو ملنا حسب الأسطورة اليونانية éربة الأرض واليم".

"سمراء في لون الثرى... تلبس ثياب الحداد ورأس حصان... (وقد اعتصمت بأحد الكهوف)... تبكي حزنا على غياب ابنتها برسيفوني فتهلك ثمار الأرض، وتهدد المجاعة الناس، ثم تقع المعجزة. فإذا برب العالم السفلي يرد برسيفوني إلى مستقرها على الأرض مقابل وعد منها بأن توافيه كل عام. وبعودتها تكتسي الأرض حلة سندسية وتنمو الثمرات ويطيب العيش" 5.

وما زالت خصوبة الأرض في المجتمعات الزراعية إلى يومنا هذا مقترنة بخصوبة النساء.

"فينبغي أن تقوم النساء بزراعة (القمح) لأن النساء يعرفن كيف ينجبن الأطفال. والزوجة العاقر... مؤذية للحديقة. وهناك كثير من العادات تربط العروسة بالقمح، فهم يذرونها بالقمح أو يكللونها به. وفي نبوزيلندا تطبق على المرأة الحبلى نفس الشعائر التي تنطبق على من تقوم بزراعة رقعة من الأرض بالبطاطا. ويعتقد كثير من الشعوب أن البذور تصيب حظا أوفر من النمو إذا تولت غرسها امرأة حبلى" 6.

وفي مجتمعات أخرى يقتصر جني المحصول على النساء العريات الصدور، زعما منهم أن هذا سوف يضمن غلة أوفر. وما زلنا بطبيعة الحال ننثر الأرز على العرائس جريا على عادة أجدادنا الذين كانوا يعتقدون أن هذا يكفل الخصوبة.


العصر الحجري الحديث : هل هو عصر أمومي ؟

هل كان العصر الحجري الحديث عصر النظام الأمومي ؟ وهل ترجمت الأهمية الاقتصادية والدينية للنساء في العصر الحجري الحديث إلى سلطان سياسي على العشيرة أو القبيلة أو القرية ؟ هذا ما لا نعلمه. وخير إجابة هي ترجيح أن هذه الأهمية قد عبرت عن نفسها في المجال السياسي بشكل جزئي في بعض مجتمعات العصر الحجري الحديث، وان كان القول بأن النظام كان أموميا ينطوي بوجه عام، على مبالغة في سلطان المرأة في العصر الحجري الحديث.

ولابد من أن يكون اجتماع عناصر مختلفة مثل قيام النساء بالأعمال الهامة، وعبادة الربات بوصفهن أهم الآلهة، وسيادة مؤسسات القرابة المبنية على أمومية النسب والدار، قد أضعف شوكة الرجل في عالم العصر الحجري الحديث إلى حد كبير. وقد كان هذا المزيج على سبيل المثال قائما بين هنود الناقاهو Navaho ففي حين كان رجال النافاهو يعملون بالفلاحة، كانت نساؤهم يعملن بصناعة الفخار ونسج البسط والبطاطين، وهي مهنة أربح، وأهم معبودات النافاهو هي "المرأة القُلَّب"، وهابة القمح الخيرة ونجبة البطلين التوءمين. وكان مجتمع النافاهو أمومي النسب والدار، وكانت الأسماء والممتلكات تخص المرأة وتورث من الأم إلى ابنتها، وكان الرجال ينزلون على عشائر زوجاتهم كالأغراب وقد اضمحلت سلطة الرجال في مثل هذا المجتمع اضمحلالا شديدا. وتستطيع أن تتخيل مدى ارتباك الحكومة الأمريكية والمسؤولين العسكريين في القرن التاسع عشر الذين كانوا يصرون على عقد اتفاقيات اقليمية مع رجال النافاهو، واذا بهم يكتشفون ان هؤلاء الرجال ليس لهم مثل هذه السلطة.

إن أمومية النسب والدار ازدادتا دون شك في عالم العصر الحجري الحديث. ولكن المجتمعات الأبوية النسب والدار قد بدأت تفوق مثل هذه المجتمعات عددا، أو هذا ما يوحي به - على أقل تقدير - توزيع أنماط النسب في العالم المعاصر. فبين القبائل التي تعتمد على الصيد وجمع الثمار في عالم اليوم نجد 10% منها تنتسب للأم و20% منها تنتسب للأب، ومعظم النسبة الباقية مختلطة النسب. وبين القبائل الزراعية اليوم نجد حوالي 25% منها تنتسب للأم وحوالي 40% منها تنسب للأب، والنسبة الباقية تنسب للطرفين. ولا نملك وسيلة نعلم عن طريقها كيفية تمثيل قبائل اليوم لمجتمعات العصر الحجري الحديث، ولكنها توحي بأن ما استحدثته ثورة العصر الحجري القديم والحجري الحديث في انماط العمل والدين كان أكبر مما استحدثته في أنماط النسب والتوريث.

ثم إن اقتران نظام الانتساب للأم ونزول الزوج في قبيلة الزوجة لا يتحول إلى سلطان نسوي دائما، كما أشار إلى ذلك الذين انتقدوا فكرة النظام الأمومي في العصر الحجري الحديث. فالرجال فيما ينيف عن نصف القبائل التي يسود فيها نظام الانتساب للأم والإقامة بمنازلها، يحتفظون بسلطتهم عن طريق نظام "المصاهرة من أهل القرية"، حين يبنون بنساء نصف القرية الثاني (وليس قرية غريبة). فيحتفظون بنفوذهم في نشاطات القرية برمتها رغم نزوحهم إلى نصفها الآخر عند الزواج. وفي هذه المجتمعات تظل الحيازة لنساء ولكن يغلب أن يديرها الرجال. وعلى كل حال فقد كان الفصل بين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية متاحا بشكل أكبر في المجتمعات القديمة التي أخذت بالتقسيم الجنسي للعمل ولم تقم كبير وزن للملكية.

ومع أخذ هذه التحفظات في الحسبان فإننا "أميل إلى الإعتقاد" مع جاكيتا هوكس، وهي من علماء العصر الحجري الحديث، بأن "أقدم المجتمعات في ذلك العصر، طوال امتدادها في الزمان والمكان قد بوأت المرأة أعلى مكانة أدركتها طوال التاريخ 7. فلا بد أن لبتكارية العمل النسائي، وهيبة المعبودات الإناث ورهبة سحر النساء، قد منحهن شأوا وحفاوة جاوزا ما أدركته في العصر الحجري القديم. فالعصر الحجري الحديث، حتى لو لم يقم على النظام الأمومي، كانت أهمية المرأة فيه كبيرة، حتى ليمكننا القول أن ظهور حكمنا الأبوي كان مع أفول العصر الحجري الحديث أو بزوغ حضارة المدن.


مكانة الرجل :

لم نذكر إلى الآن إلا النزر اليسير عن إسهام الذكر والعصر الحجري الحديث. لقد قام الرجال باستئناس الحيوان الوحشي، إلا أن هذا العمل كان أقل خطرا من قيام المرأة باستئناس النبات. فقد كانت الزراعة المصدر الأساسي للأقوات، فهي مصدر منتظم يمكن التعويل عليه. ثم انها افضت (في أول الأمر على الأقل) إلى ابتكارات أخرى أكثر أهمية كالجماعات المترابطة المستقرة أو القرى والمساكن الدائمة والأدوات المصقولة، والأوعية والمشروبات الروحية والنسيج، وصناعة الفخار... الخ. م ان الثورة الزراعية التي قامت بها النساء أحدثت أخطر التحولات في المجتمع والثقافة، مثل ديانات الخصوبة التي تدور حول المرأة، وزيادة النظم الإجتماعية القائمة على نسق الإنتساب للأم، ونزول الزوج على أهل زوجته، واهتمام عام بالولادة والنمو والحضانة والنكاح والتوالد - أي (ما كان يرى آنذاك على أنه) وظيفة المرأة.

وفي حين كانت النساء يرتقين بقن زراعة العزق بعد عام 8000 ق.م. في اودية أنهار الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وفي أنحاء من الهند والصين بعد هذا بقليل، كان الرجال يزدادون دراية بالحيوان الوحشي. فقد بدأ الرجال يتعلمون تدريجيا أن يحتفظوا بالحيوانات في قطعان يسيطرون عليها، ومن ثم يمكنها أن تتكاثر وهي أسيرة المرعى. وهكذا نجحوا في ترويض الأغنام والماعز والأبقار والخيل والثيران. ومع عام 3000 ق.م. كانت هذه القطعان تقدم ما يكفي من الطعام لسد حاجة جماعات سكانية أكثر كثافة مما كان في القرى القديمة في العصر الحجري الحديث. وأخطر من هذا اهتداء الرجال إلى تسخير بعض هذه الدواب (ولا سيما الثيران) في حرث حقول شاسعة، في حين كانت النساء من قبل يزرعن بقعا صغيرة باليد.

وما إن اخترع الرجال المحراث الثقيل، وربطوا عالمهم الحيواني بعالم الفلاحة النسائي (وكلاهما حدث في أقدم الأماكن حوالي 3000 ق.م.)، حتى صار في طوق البشر لأول مرة إنشاء المدن وتزويدها بما تحتاج إليه، وقد كانت هذه المدن أشد اصطباغا بالنظام الأبوي، من اصطباغ قرى العصر الحجري الحديث بالنظام الأمومي.


المحراث الثقيل والمدن : أصول نظامنا الأبوي :

اشتملت أولى قرى العصر الحجري الحديث على نسب متساوية من الرجال والنساء. ونظرا لاضطلاع النساء بالأعمال الرئيسية في هذه التجمعات، فقد كان دور الرجال ثانويا في الغالب. ومن جهة أخرى كان الرعاة في المراعي المحيطة بهذه القرى الأولى بعيشون بطريقة جد مختلفة. فهم أكثر ترحالا من أهل القرى، ولم تكن لهم ممتلكات ثابتة إلا فيما ندر، كما كانت حياتهم أشق وأقسى. كانت النساء بطبيعة الحال يعشن مع الرعاة، ولكن في هذه الجماعات البدوية كانت النساء تابعات. إن ثلثي القبائل الرعوية اليوم تقون على نظام الانتساب للأب، وأقل من 10% تنتسب للأم.

والمدن ثمرة اقتران هاتين الثقافتين المتباينتين في العصر الحجري الحديث : الجماعات الزراعية المتأثرة بالروح الأنثوية، وجحافل الرعاة التي هيمن عليها الذكور. وكانت ثقافة المزرعة أكثر ابتكارا وأشد تعقيدا من ثقافة المرعى. بل إن حياة الرعاة لم تتقدم كثيرا عن ثقافة الصيادين في العصر الحجري القديم. فلما اضطرت هاتان الثقافتان إلى التعايش في سلام واتحدتا إلى درجة أصبح من الممكن معها نقل الرعاة ومواشيهم إلى الفلاحة - وهي المصدر الحقيقي لمكانة النساء - أصبح الرجال هم الذين يتولون في العادة مقاليد الأمور.

ولم يكن من الممكن أن تصبح القرى مدنا إلا بعد أن بلغت الزراعة درجة من الكفاية تفي بسد حاجة أعداد كثيفة من السكان لا يضطر معظمهم إلى قضاء حياتهم في الحقول. ومن هنا فليس من قبيل المصادفات أن يعثر الأثريون على لقايا أول المحاريث الثقيلة التي تجرها الثيران جنبا إلى جنب مع أطلال المدن الأولى في كثير من المناطق التي نشأت فيها أولى قرى العصر الحجري الحديث، ولكن بعد حوالي خمسة آلاف سنة.

وقد استغرق اقتران هاتين الثقافتين آلافا من السنين في هذه المناطق الأولى. ولكنه لم يقع في أنحاء أخرى من العالم إلا منذ عهد قريب. وإن أفلام رعاة البقر الأمريكية لتذكرنا بأن الصراع بين المزارعين والرعاة كان أحد الموضوعات الرئيسية في تاريخنا إلى مائة سنة خلت. ولعل هذه العملية لم تختلف كثيرا في بلاد ما بين النهرين أو مصر أو الصين أو الهند قديما. ونرجح أنه، في بعض الحالات، قامت جماعات صغيرة من رعاة القطعان بالاستيلاء على الجماعات الزراعية المتناثرة بالقوة، واهتدت بالصدفة إلى طريقة لاستخدام الدواب في حرث الحقول حرثا أكفأ. ويجوز أن الأزواج قاموا - في حالات أخرى - بمساعدة زوجاتهم في الفلاحة، فبدأوا بتمهيد الأرض فحشب، ثم قاموا فيما بعد بجر المحراث الثقيل الذي لا تقوى نساؤهم على جره، وأخيرا استخدموا الثيران أو الخيل في الأعمال الشاقة. وفي هذه الحالات الثلاث تم إدماج الرجال وأسلوب الحياة الذَكَريّ القديم، بحيث أصبحوا جزءا لا يتجزأ من الجماعات الزراعية.


أباء السماء

وإذ توسع الرجال في القيام بالأعمال الهامة، فرضوا أنفسهم في المجتمع، وهيمنوا على المدن المتنامية، وعدّلوا الثقافة على صورتهم، فقام الأرباب مقام الربات. بل إن الآلهة المقترنة بالزراعة صارت مذكرة، كأوزيريس في مصر وباخوس Bachus في اليونان على سبيل المثال. بل لقد حلت الآلهة محل ربات الأرض الأم Gias كمصدر للحياة والتكاثر. وأصبح أب السماءً Zeus في أهمية الأم الأرض. وغالبا ما أصبح الناس يتصورون المطر في الغالب على أنه المنى الخصب لأب السماء. وتنكر إحدى الأساطير المصرية دور الأنثى في الحمل تماما، إذ كانوا يعتقدون أن الإله المصري آتوم Atum خلق الكون من جسمه بالاستمناء. وكما أشار ممفورد : "لم يكن في استطاعة الذكر المتباهي استخدام كلمات أكثر وضوحا كي يدلل على أن النساء لم تعد لهن أهمية في النظام الجديد للحياة" 8.


ظلال حدود المدينة

اكتشف ممفورد أن المدينة نفسها هي النتاج المميز للخصائص الجنسية الذكورية، كما كانت القرية في العصر الحجري الحديث تعكس الخصائص الجنسية الأنثوية.

"كثير من الرموز والتجريدات الذكرية قد أصبحت الآن جلية : إنها تتبدى في تكرار الخط المستقيم والمستطيل، والتصميم الهندسي المحدد بوضوح، والبرج المنتصب، والمسلة القائمة، وأخيرا في بةاكير الرياضة والقلك... وربما كان مما له دلالته ان المدن الأولى تبدو دائرية الشكل إلى حد كبير، في حين ان قصر الحاكم والحرم المقدس كانا محصورين في مستطيل.

لقد حلت في المدينة أساليب جديدة، صارنة فعالة، قاسية في الغالب، بل وحتى صادية، محل العادات القديمة والنظام اليومي ذي الإيقاع الهين. وانفصل العمل نفسه عن أوجه النشاط الأخرى، وانحبس في "يوم عمل" كله جهد لا يتوقف تخت إشراف رئيس العمل... إن الصراع والهيمنة والتسيد والغزو هي المحاور الجديدة : وليس الحماية والحصافة، والجلد والصبر الذي تتسم به القرية. والقرية المنعزلة - بل حتى آلاف القرى المنعزلة - لا تستطيع أن تجاري كل هذا التوسع الوافر الشامل لقوة المدن. فقد قامت إطارا لوظائف محدودة ولاهتمتمات أمومية عضوية خالصة" 9.

نعم إن الخطوط المستقيمة، والأشكال المستطيلة تغلب على المدينة، كما أن الأشكال المستديرة من سمات القرى الأولى. وهي قد لا تكون دائما رموزا للأنوثة والذكورة على التعاقب، إلا أنه يظل احتمالا خلابا. ونستطيع أن نلاحظ تغيرا مماثلا في رومزية اليمين واليسار. لقد كان الناس في كل مكان تقريبا يعدون الجانب الأيمن مذكرا والجانب الأيسر مؤنثا، ولكن لم يحدث أن آمنوا بأن اليسار أقل مرتبة من اليمين إلا مع نشأة المدن الأولى. فسكان مدينة روما قد أعطوا معنى الحديث عن اليسار بوصفه نحسا Sinister لأنه مشتق من كلمة لاتينية تعني الشر واليسار في آن واحد Sinistra. وعلى عكس هذا فإن كهنة ايزيس، الربة الأم الكبرى المصرية في العصر الحجري الحديث، وكاهناتها اعتادوا أن يحملوا أيادي يسرى كبيرة منحوتة في احتفالاتهم الدينية. وبالمثل فإن الأختام الدينية، التي يبدو أن سكان بلاد ما بين النهرين في العصر الحجري الحديث قد عبدوها، تحمل نقوشا للأرباب ولأياد يسرى.


آباء المدن

كان ظهور الرموز الذكورية انعكاسا لسلطان الرجال. ومما له دلالة أن المدن قد أعطتنا ملوكنا الأوائل. لقد كان رجال هذه المدن في الحقيقة هم الذين خلقوا النظام الملكي. أما القرى في الغصر الحجري الحديث فلم يكن لهل قادة ثابتون دائمون. وبالرغم أنه في حالة الظروف الطارئة كان يعين بعض الرجال أو ينتخبون لفترة مؤقتة لشغل المناصب الكبرى، فإن هذه القرى كانت عادة ديمقراطية للغاية.

ويبدو أن تأثير المخراث لم يقتصر على تمكين الملوك من التحكم في المدن، بل امتد تأثيره إلى نطاق الأسرة، حيث فرض الأباء هيمنتهم. فثقافات المحراث في عالمنا المعاصر، والتي لم تنشئ أي مدن، لا تزال ثقافات أبوية النسب شأنها شأن الثقافات الرعوية، إذ إن ثلثي هذه الثقافات أبوية، وأقل من 10% فقط أمومية النسب، وهكذا كان تطور نظام الإنتساب للأب والاستقرار في داره في ثقافات المدن التي ظهرت بعد عام 3000 ق.م. يعني تدهورا ملحوظا في مكانة المرأة.

والسبب في هذه التغيرات يرجع إلى أن الرجال قد اقتلعوا الأساس الإقتصادي لمكانة المرأة. فلم يقتصر الأمر على جعل الفلاحة غمل الرجال، بل ثم أيضا حرمات النساء من دورهن في الحرف الأخرى. فقد اخترع رجال المدن مثلا عجلة كانت وسيلة أكثر فاعلية لصناعة القدور، وأصبحوا هم (في جميع الحالات تقريبا) صناع الفخار والخزف. وقد حصل الرجال، علاوة على ذلك، على مزيد من أدوات الحرف ذات الفائدة والفعالية الكبيرة (مثل عجلة صناعة الخزف) مكنتهم من أن ينتقلوا من مكان إلى آخر وأن يبدءوا حياتهم الأسرية حيثما شاءوا. فهم لم يعودوا مقيدين بعشيرة المرأة، ومن ثم كانوا قادرين على جعل الأسرة (لا العشيرة) الأساس الجديد للتنظيم الإجتماعي.

وفي القت الذي زاد فيه الرجال من سلطانهم على النساء بدءوا يسنون القوانين لتأكيد هذا السلطان ولإضفاء الشرعية عليه. ومن أقدم المدونات القانونية التي وصلت الينا من هذه المدن الأولى قوانين الملك حمورابي ملك بابل في بلاد ما بين النهرين. فقانون حمورابي - الذي دون حوالي 1750 ق.م. والذي هو عبارة عن مركب من العادات القديمة والأفكار الجديدة - يظهر لنا كيف كانت أقدم المدن تعامل النساء. فالنساء، حسب تلك القوانين، كن ملكا لأزواجهن أو آبائهن. إذ إن الزوج يملك أن يطلق زوجته بملء حريته، أو - إذا شاء - يعدها أمة له. والقانون يرغمها - بحكم كونها أمة - على طاعة زوجها. ولا يقتصر الأمر على هذا، بل يرغمها أيضا على طاعة أي من الخدم الأحرار في المنزل. كما يملك الزوج أن يقدم زوجته لدائنيه ضمانا لديونه. ولم يكن القانون ليقتضيه أن يسدد ديونه، طالما كانت زوجته ضمانا لهذه الديون لمدة حددت بثلاث سنوات في بداية الأمر، ثم امتدت إلى أجل غير مسمى. وقد أصبح نظام الاستدانة بصمان الزوجة نظاما مربحا للغاية في تجارة الرقيق. وكانت الحرائر يواجهن الموت عقابا على خيانتهن لبعولتهن، بينما كان في وسع الأزواج ممارسة الزنا دون التعرض لأي عقاب.


النظام الأبوي الروماني

وعلى حين نجد ممارسات مماثلة كثيرة في مصر القديمة واليونان، فالأرجح أن الرومان هم الذين طوروا نظام الدولة الأبوية تطويرا كاملا. إن القانون الروماني مهم بالنسبة لنا، لأنه قدم الصيغة النهائية للأسرة الأبوية التي لا نزال نعيش فيها، ولأن قوانين تلك الأسرة (أكثر من قوانين أي مجتمع آخر) أصبحت هي أساس قوانيننا.

كان أهالي إيطاليا الأقدمون في العصر الحجري الحديث يعيشون في عشائر كانت تقوم في العادة على النظام الأمومي. فلما غدت مدينة روما إمبراطورية متسعة الأرجاء صارت الأسرة التي يهيمن الأب أساس الجياة الرومانية. وكلمة Familia عند الرومان تعني أملاك الأب ومقتنياته والناس الذين يسوسهم. فهي لم تكن مجرد نظام للعلاقات البيولوجية كما في العشيرة في العصر الحجري الحديث. إذ إن الشخص، في هذه الحالة، كان عضوا في عشيرة خاصة بسبب صلة الرحم بالآخرين، الذين كانوا في العادة نساء. أما الأسرة الرومانية فكانت تشمل أغرابا قرر الرجل أن يتبناهم، والخدم الذين يستخدمهم، بل وحتى الممتلكات التي يملكها. ولا مناص من أن نصل إلى نتيجة مفادها أن الآباء الرومان كانوا كثيرا ما ينظرون إلى زوجاتهم وبناتهم نظرتهم إلى بعض هذه الأملاك. لقد كانت النساء دائما تحت هيمنة آبائهن أو أزواجهن، وهي هيمنة كانت مطلقة في العادة. ولقد أطلق الإمبراطور قسطنطين في أواخر القرن الرابع الميلادي على هذا الوضع "حق الحياة والموت". لقد كان الأب هو الكيان الشرعي الوحيد للأسرة، وكل أعضاء الأسرة يستمدون هويتهم منه.

وعلى هذا النحو تخلت المرأة الرومانية عن الدور الذي لعبته في العصر الحجري الحديث رمزا للعشيرة. فهي لم تقتصر على أن تنظر إلى نفسها بوصفها ملكا للرجل، وإنما أصبح هذا الوصع هو هويتها الوحيدة. فلم يكن لها اسم مفرد ومستقل، إذ كانت تعرف ببساطة بالصيغة الأنثوية لاسم أسرتها (أو أبوها). فابنة جوليو كلوديوس على سبيل المثال تسمى كلوديا، وكذلك كل اخواتها. وقد كانت هناك عبارات عامة مثل "كلوديا الكبرى" أو "كلوديا الرابعة" تستخدم للتمييز بينهن. ولكنهن لم يحملن أسماء شخصية مثل اسمائنا. ولم يكن هذا مجرد شيء نسي الرجال الرومان أن يطوروه، فهم لم يكونوا أغبياء، إذ كانوا يسمون كل ابن من أبنائهم باسم مفرد منفصل يميزه، بجانب اسم الأسرة. ومن الواضح ان النساء الرومانيات لم يكن أمامهن إلا أن يرين أنفسهن جزءا من ممتلكات ابيهن الأسرية Familia لا يمكن تمييزه عن الجوانب الأخرى 10.

لقد هيمن الرجال بشكل يكاد يكون مطلقا على مجتمعات المدن الأولى (أو على "المدنيات" * بالمعنى العلمي وليس الأخلاقي). وقد حرمت النساء في الصين والهند، كما في الشرق الأدنى واليونان وروما، من المكانة التي تمتعن بها في مجتمع العصر الحجري الحديث، وانحطت مكانتهن إلى مرتبة الممتلكات أو الخدم أو المعاونات. وشواهد القبور التي كان يشيدها بعض الأزواج الرومان الورعين لزوجاتهم تظهر كيف كان الرجال ينظرون اليهن : "كانت تحب زوجها... أنجبت ولدين... لقد حافظت على البيت ورعيته ونسجت الصوف" 11. هكذا كانت تذكر النساء.


النظم الأبوية الشرقية

أضافت الحضارات القديمة بضعة أنظمة تحط من وضع المرأة، وهي نظم كانت، على الأقل، غير شائعة في الغرب بالدرجة نفسها. ولكن الهدف من مثل هذه النظم كان واحدا لا يتغير.

فكان المنتظر من النساء في الحضارة الهندية القديمة أن ينتحرن عند وفاة أزواجهن (السوتي Sutee). ولم تكتف ديانة الهند (الهندوكية) باتخاذ موقف متسامح من هذه العادة، بل ظلت تشجعها حتى عهد قريب.

ونظام "الحريم Purdah" في الهند القديمة كان يعامل النساء على أنهن ممتلكات لأزواجهن. وقد أدى هذا النظام إلى عزل النساء في غرف خانقة لا يدخلها هواء، غرف مزدحمة، مؤثثة تأثيثا بسيطا في مؤخرة المنزل. وكانت النوافد تغلق بمصاريع حتى لا يتمكن رجل آخر من رؤية الزوجة أو البنات الهنديات المغلق عليهن. وقد أصبحت مخاوف الرجال (من أن يتعرض لإغراء العالم الخارجي) جزءا من التكوين الداخلي لهؤلاء النسوة، لدرجة أن المرأة الهندية كانت تفاخر بأن عين الشمس لم تطلع على وجهها.

والنساء الصينيات كن أيضا حبيسات مساكنهن، ولكن بدلا من إعلاق الأبواب وجد الصينيون حلا أكثر خيالا، إذ شلوا أقدام البنات بربطهن بإحكام في سن مبكرة، فيلف شريط طويل من القماش حول القدم بحيث لا تظهر الأطراف، ثم تقيد القدم بكاملها بإحكام فتتوقف الدورة الدموية ويتأخر النمو. والنتيجة هي كتلة من اللحم المشوه والعظام المكسورة. كان الصينيون والصينيات على السواء يعدونها من الأشياء الجميلة، وكانت الأقدام المقيدة بشكل جيد في حجم حداء طوله ثلاث بوصات يشار إليها بإعجاب على أنها "زنابق دهبية" رائعة. والمبدأ الكامن هنا يكاد يكون هو نفسه المبدأ الكامن في أسلوب الأحدية العالية الكعوب في الغرب : فالمفروض فيها أنها تؤكد جادبية النساء الجنسية. لكن الصينيين كانوا أحيانا صرحاء للغاية في إفصاحهم عن السبب الحقيقي لهذه الغادة. وكما جاء في الكتاب الكلاسيكي للبنات. وهو كتاب صيني شهير :

"أعرفت السبب
لربط قدميك ؟
خشية أن يسهل عليك
الإنطلاق في الطريق". 12

إن ربط القدم من التقاليد النادرة التي لم يأخذها اليابانيون عن الصينيين، غير أن اليابانيين كانوا يفرضون على زوجاتهم غالبا نوعا من "الإقامة الجبرية" في غرف المنزل الخلفية. والكلمة اليابانية المهذبة المعبرة عن الزوجة Okusama تعني "ربة الخدر". وكان خدم الزوج الياباني يشغلون الغرف الأمامية، الأمر الذي كان يحجب الزوجة تماما عن الشارع والعالم الخارجي.

هذه العادات الأبوية المتطرفة في الشرق - الإنتحار (السوتي)، وحياة الحريم وتقييد القدم وأشكال العزلة الأخرى - تطورت للغاية في المدن وبين الطبقات العليا. فالطبقات العليا الأبوية (التي أعطتنا مدننا الأولى والتي استفادت للغاية من حياة المدينة تماما) حاولت أن تفرض أفكارها إزاء النساء على الفلاحين الفقراء في الريف، ولكن دون جدوى. لقد كان ثمة حاجة ماسة لأن تقوم الفلاحات بمساعدة أزواجهن في الحقول حتى بعد أن تولى الرجال إدارة الزراعة. ولم يكن في مقدور فقراء الفلاحين عزل زوجاتهم في الغرف الخلفية أو جعلهن عاجزات عن السير ورفع الأثقال. وقد استفادت الفلاحات في حالات كثيرة من النشاط الزائد الذي كانت تسمح به الحياة الريفية. ولكن من الجائز أن بعض زوجات الفلاحين الفقراء كن يحسدن أخواتهم في المدينةعلى العجز المؤلم الذي ألم بهن. فقد رأى أحد المبشرين الجزويت في الصين، قبل الثورة الشيوعية، فلاحا فقيرا يقود محراثا تجره زوجته مع حمار. وبالمثل سمع زائر أمريكي لليابان عن فتيات ريفيات سُخرن بعد الزواج في جر المحراث مع ثور. هذا هو معنى المحراث الثقيل والمدن بالنسبة للنساء - المعنى المباشر والأقل رمزية.


لمزيد من الاطلاع

تتسم الدراسات التي تتناول دور النساء في العصر الحجري الحديث والمجتمع الحظري المبكر بأنها أكثر ثراء من تلك التي ظهرت عن المجتمع "البدائي" أو مجتمع العصر الحجري القديم. ولا يزال كتاب لويس ممفورد Lewis Mumford المدينة عبر التاريخ The City in History دراسة رائدة تفسيرية باهرة. كما لا يزال القارئ يجد متعة كبرى في كتب جوزيف كامبل Jeseph Campbell أقنعة الله : الميثولوجيا الشرقية The Masks of God : Oriental Mythology وأقنعة الله : الميثولوجيا الغربية The Masks of Gog M Occidental Mythology. أما كتاب جاكيتا هوكس Jacquetta Hawkes ما قبل التاريخ Pre history فهو أيضا كتاب شامل بوصفه مدخلا لمجتمع العصر الحجري الحديث والعصر الحجري القديم. ودراستها عن كريت القديمة فجر الاهة Dawn of the Gods لها قيمة خاصة لفهم دور المرأة في حضارة ربما تعد أكثر الحضارات القديمة اقترابا من النظام الأمومي. ويعد كتاب روبرت بريفو Robert Briffoult الأمهات The Mothers وكتاب سير جيمس فريزر Sir James Frazer الغصن الذهبي The Golden Bough الذي لخصه تيودور جاستر Theodor Gaster بعنوان الغصن الذهبي الجديد The New Golden Bough مجموعتين مدهشتين للمعلومات الأنثروبولوجية من القرن الماضي.. وهذا التراث الأنثروبولوجي أصبح موضع مزيد من الجدل والإثارة في التقسيرات السيكولوجية الحدسية التي تستند إلى نظريات يونج Gung والتي قدمها إريك نيومان Erich Neumann في الخمسينيات وخاصة كتاب الأم الكبرى : تحليل النموذج الأصلي The Great Mother : An Analysie of the Archetype وكتاب الحب والنفس : التطور النفسي للأنثى The Amor and Psyche : Psychic Dvelopment of the Feminine ويمكن أن نجد نظرية نيومان عن سيكولوجية الأنثى الفريدة (على الرغم مما جاء في كتاب مرجريت ميد Margaret Mead الجنس والمزاج Sex and Temperament) في شكل أكثر رزانة في كتاب سيمون دي بوفوار Simon de Beauvoir الجنس الآخر The Second Sex وكتاب أموري دي رينكور Amaury de Riencourt الجنس والسلطة عبر التاريخ Sex and power in History.

وتعد دراسات علم الآثار عن هذه الفترة أكثر نفعا على وجه العموم من الدراسات الأنثروبولوجية. ولقد ذكرنا من قبل كتاب جاكيتا هوكس مدخلا عاما. ولكن لعل أفضل دراسة لآثار الأرباب والربات هو كتاب ماريا جيمبوتاس Maria Gimbutas الأخير أرياب أوربا القديمة ورباتها من 7000 ق.م. إلى 3500 ق.م. : الأساطير والخرافات وصور العبادة The Gods and Goddesses of Old Europe 7000 to 3500 B.C. : Myhts, Legends and Cult Images وهو دراسة رائعة من منطقة البلقان الكبرى من كريت إلى المنطقة التي أصبحت جنوب روسيا (في الشرق) وجنوب إيطاليا (في الغرب). ويعد كتاب ج. بوردمان J. Boardman عصر ما قبل الكلاسيكية من كريت إلى اليونان القديمة Pre-classical, From Crete to Archiac Greece من الدراسات القيمة الأخرى، وكذلك كتاب ستيوارت بيجوت Stuart Pigot أوربا القديمة من بدايات الزراعة إلى العصور الكلاسيكية القديمة Ancient Europe, From the Beginning of Agriculture to Classical Antiquity وكتاب ل.ر. بالمر L. R. Palmer الميسنيون والمينويون Mycenaeans and Minoans وكتاب جيمس ميلارت James Mellart كاتال هيووك : مدينة من العصر الحجري الحديث والأناضول Catal Hüyük : a Neolithic Town in Anatolia.

كما أن هناك أيضا عددا من الدراسات الممتازة عن الدين في العصور القديمة له علاقة مباشرة بموضوعنا. فكتب مرسيا الياد Miecea Eliade المتعددة المليئة بالمعلومات والايماءات التي تساعد على الفهم الشامل للدين في العصور القديمة. وربما يعد كتابه الأرباب والربات وأساطير الخلق Gods, Goddesses, and Myths of Creation هو أيسر المداخل. أما الكتب الأكثر تحديا للفكر فهي الميلاد وعودة الميلاد Birth and Rebirth والصور والرموز Images and Symbols وأسطورة العود الأبدي The Myth of the Eternal Return والأساطير والأحلام والأسرار Myths, Dreams and Mysteries وأنماط في الدين المقارن Patterns in Comparative Religion. وتشمل الدراسات عن ربات اليونان القديمة وعالم البلقان كتاب ج. ن. جولد ستريم J. N. Goldstream ديميتر Demeter وكتاب أو. ج. اس. كروفورد O. G. S. Crawford ربة العين The Eye Goddess وكتاب و. ك. س. جوثري W. K. C. Guthrie الدين والأسطورة عند الأغريق The Religion and Myth of the Greeks وكتاب ايستر هاردنج Ester Harding أسرار المرأة في العصور القديمة والحديثة Woman s Mysteries : Ancient and Modern وكتاب جين أ. هاريسون الكلاسيكي Jane E. Harison ثيميس : دراسة في الاصول الإجتماعية للدين اليوناني Themis : A study of the Social Origins of Greek Religion وكتاب راشيل ج. ليفي Rachel G. Levy التصورات الدينية في العصر الحجري وتأثيرها على الفكر الأوربي Conceptions of the Stone Age and Their Influence upon European Religion وقد نشر أصلا تحت عنوان بوابة القرن The Gate of Horn وكتاب دونالد ماكنزي Donald Mackenzie أساطير كريت وأوربا قبل العصر الهليني Myths of Great and Pre-Hellenic Europe وكتاب جرانت شويرمان Grant Showerman أم الأرباب الكبرى The Great Mother of the Gods وكتاب دونالد ج. سوبل Donald J. Solol الأمازونات والأساطير اليونانية Amazons of Greek Mythiligy.

وأخيرا يمكن الرجوع لدراسة رائعة عن ظهور النظام الملكي والأرباب الذكور في الحضارات الأولى هي كتاب هنري فرانكفورت Henri Frankfort النظام الملكي والأرباب Kingship and the Gods.


ترجمة :
د. عبد الوهاب محمد المسيري
د. هدى عبد السميع حجازي
عالم المعرفة

----------------

هوامش :

1- V. G. Childe, What Happend in History (Baltimore : Penguin, 1942) p. 65.
2- Ibid., p. 66.
3- Lewis Mumford, The City in History (New York :Harcourt Brace Jovanovich, 1961), pp. 12-13
4- Ibid., pp. 15-16.
5- Traian Stoianovich, A Study in Balkan Civilisation (New York : Knopf, 1967), pp. 7-8.
6- Robert Briffault, The Mothers, abridged by C.R. Taylor (London : Allen & Unwin, 1927, 1959) p. 363.
7- Jacquetta Hawkes, Prehistory (New York : New American Library, 1963), pp. 356-357.
8- Mumford, op. cit., p. 25. ووجهة النظر المطروحة هنا مستمد معظمها من كتابات ممفورد
9- Ibid., p. 27.
10- BM. I. Finley, "The Silent Women of Rome", Horizons 7, no. 1 (Winter 1965) pp. 56-64. Reprinted in M. I. Finely, Aspects of Antiquity (New York : Viking, 1969) as ch. 10.
*- الاشارة هنا إلى التداخل الاشتقاقي بين كلمتي Civilization (مدنية) وCivitas اللاتينية بمعنى "مدينة"، وهو تداخل له نظير في اللغة العربية بين "المدنية" و"المدينة" (المترجم).
11- Horizons, p. 64.
12- Trans. Isaac T. Headland, Homme Life in China (New York : Macmillan, 1914), p. 77. Quoted in David and Vera Mace, Marriage : East & West (New York : Doubleday, 1959, 1960) p.70.