في مَهبّ الغَضب.. كَرِمال العاصِفة



نبال شمس
2010 / 1 / 14

التَعبير عن الغضب لدى المرأة هو حالة ما زالت في حالَة مخاض.

المَوهبة إن حوصِرت تَقتل صاحبها.

******

"العظمة...هي صديقة من لا يبحث عَنها"

لم تكن عظيمة لأنها زوجة الكاتب الكبير محمد الماغوط، بل عظمتها لأنها تحررت من عظمته فكانت هي، سنية صالح أجمل حروف الطباشير.

عشرات الأوراق مبعثرة في زوايا المكتبة وبين المصنّفات.. كل ورقة تذكرني بامرأة.

الورقة الأولى كانت من أهم الأوراق التي تواجدت على المكتبة، لشاعرة جميلة اسمها سَنية صالح، زوجة الأديب الراحل محمد الماغوط، امرأة رحلت قبل أوانها قبل أن يصل صوتها حدّ الآذان وحدّ السماء، سنية صالح قتلها المرض في أوائل الخمسينات، امرأة الطباشير وصاحبة الزمان الضيق، الذي ضاق فيها وضاق بغيرها.

"ثلاثون عاماً وهي تحملني كالجندي الجريح ولم استطع أن احملها إلى قبرها بضع خطوات". (محمد الماغوط)

يكفي اعتراف الأديب الراحل أن سنية لم تأخذ حقها، لا كشاعرة كبيرة في وطن صغير، على حدّ قوله ولا كامرأة ضاق فيها الزمان.

هذه كانت الورقة الأولى كنتُ قد دونّتُ فيها معاناة سنية مع المرض والألم، فحمّى الموت عند سنية كانت كالحمّى الشعرية، فقد استسلمت سنية ملغية مقاومتها.

*****

"الحياة هي الحلم والموت وحده هو الحقيقة"

هذه آخر جملة قالتها قبل أن ترحل من الغرفة تاركة الاصيص يعكس بأحمر زهرهِ الاقتتال مع الوقت كي تحرّر ما فيها من طاقة ونغمات.

تأملتُ كلماتها فاعتراني صمت مختزل بعلامات التعجب وكأنها كانت هنا قربي، تغنّي للأثير وللستائر ولي.

سرّها في صوتها والسرّ مخدّر في داخلها، يسترّق الأمل عبر الستائر البيضاء المصفوفة على الحيطان بإتقان. تتأمل خلسة السماء وما بعد السماء، علّ عيونها تصل إلى هناك فتتحرر قليلا من قيدٍ المَّ بها وحرية تبحث عنها.

الأرض ليست حدودها ولا السماء، فينساب ضيق الوقت على أعمدة الكهرباء التي كانت تتأملها من خلال نافذتها كلما ضجرت من الوقت ومن المكان، تتأملها وتحسدها لعلوّها نحو الفضاء، فهي لا تستطيع أن تهب صوتها سوى لبقعة ضيقة، في مكان ضيق وكأن سفرها في دائرة مظلمة.

أمل و تأمل، فقد فهمتُ ما مرّ عليها وفهمت حاجتها للغناء.

الصمتُ كان صديقها كلما ضاق فيها المكان والزمان وما رتبته الحياة لها من واجبات، عدا عن الطبيعة كالحمل والولادة ومعاناة تلك الآلام لكي تبقى امرأة صالحة للبقاء في بيتها.

كنت أتأمل كلماتها وأتأمل كتبي من سردٍ وشعرٍ كتَبَتْهُ أنامل نسويه، مصائبهن لا تقل عن مصيبتها في مهبّ الغضب لكن غضبهن كرمال العاصفة.

الطاقة في داخلها باتت حجر جمر ملتهب يحرق بها حرقا بطيئا بلا رائحة ولا دخان، فالغناء حاجتها لكنها تمارسه خلسة بين الجدران، تسمع صوتها الحزين الممزوج بعبق العبودية وعبق السنين الضائعة.

*****

"الموهبة إن حوصرت تقتل صاحبها"

ورقتي الثانية كانت عن فرجينيا وولف تلك الغاضبة التي تذكرني بمي زيادة، فرجينيا وولف المنتحرة الجميلة، لم تترك خلفها سوى الأعذار، فغضبها بات مكبوتا بداخلها أدى بها إلى الانتحار دافعا إياها إلى النهر في ساعة غضب أو ساعة يأس، تاركة تفاصيل غرفة جميلة حملتها لنا قبل رحيلها لنحتفظ بتفاصيلها وما حملته من عتاب ومن غضب ومن تساؤلات.

فرجينيا وولف دائما تذكرني بمي زيادة الأولى أسلمت جسدها للنهر بعد اعترافها بحالتها النفسية المضطربة. أما مي فقد رفعت آخر راية معلنة تدهور حالتها الصحية والنفسية بعد أن اتهمت بالجنون من أقاربها، فوصلت لنهر الصفا منخارة الروح والجسد معا.

" أنهر الصفا! جئتك تعبة الروح والجسد معا".(مي زيادة)

*****

"الوحدة هي مخاض العزلة... صدى انعتاق الحقيقة لبضع زمن "

الحياة بالنسبة إلي وحدة رهيبة أعيشها يوميا... وحيدة وحولي عشرات الناس.. الكلّ يتضاحكون ويبكون ويتحدثون ويمضون.. وأنا أعيش الإحساس الذي يرافقني، يرافق عزلتي... فالوحدة جزء من روحي".

قالت لي ذلك عندما خرجتُ من غرفتها تاركة إياها هناك تغنّي بحزن رقيق وصامت، تُخرج ما استطاعت من حزن نبيل وصراعات مع الحياة ومع من حولها. خرجتُ بعد أن طلبت مني أن أغلق الباب واقفل الشبابيك كي لا يسمعها أي شخص من المارة ريثما تنتهي من غناءها التي تمارسه بالخفاء كل بضعة أيام.

في البداية ظننت أن الغناء هو هوايتها لكني عندما سمعت صوتها أدركت كم انه موهبة سكنت في داخلها، عندما رأيت دمعها ذات مرة مضت وهي تغنّي عرفت كم هي بحاجة لتخرج تلك النغمات إلى الفضاء فالنغمة كالكلمة لغة اتصال بشرية تنسف الصمت وتدوزن الأثير.

كانت تغني بلا موسيقى، صوتها كان المغني والعازف والسُلّم الموسيقى.

"الغناء هو روحي الذي تحييني. سرّ بقائي وسرّ الوهم الذي أصبح كثقل صخرة سيزف على ظهري.

الغناء بالنسبة لي أروع مخاض للعزلة..

الغناء هو صوتي العالي.. الخافت.. هو حاجتي للبقاء.. ليت لم استطع إتقانه فصداه سوف يقتلني، والغضب سوف يذبحني..

ف.. أواه من ذلك الصدى ومن وقع الغضب".

*****

"تعسف الأنظمة كفيل بولادة العظماء"

الورقة الثالثة كانت لشارلوت برينتي تلك الكاتبة الغاضبة التي دفعت بكل غضبها في راويتها واصفة رغبات المرأة الطبيعية والتقاليد الاجتماعية التي تقيد المرأة ، فكتبت عن جين آير علّها تنعم بالهدوء النفسي لكنها لم تنعم لا بالهدوء النفسي ولا بالحياة فقد توفيت عن عمر صغير دون سن الأربعين وهي حامل.

شارلوت برينتي كانت مبدعة عظيمة على حدّ قول فرجينيا وولف، كان لديها الوقت للإبداع لأنها تزوجت في سن متأخرة وكانت بلا أطفال،لكن من استطاع إقناع النظام البطريركي الذي اضطهد النساء ان شارلوت برينتي كانت امرأة عظيمة.

*****

"الانهيار هو نهاية حمّى الصراع... دون الشفاء منه".

هي لم تختر العزلة عن العالم بعد سوى لبضعة لحظات جنونية التي تعتري كل فنان أو صاحب موهبة كما أني لم اقترح عليها تلك العزلة فكيف للإنسان أن يحيى بعزلتين، فما سكن بداخلها من طاقة يكفيها لتحيى في عزلة لا تطاق.

من يستطيع أن يكون المسجون والسجّان، القاتل والمقتول، الذابح والمذبوح فهل هي السجّانة لهذا الصوت الذي بدأ ينبعث من الداخل نحو أذني؟

حالتها تشبه حالة فرجينيا الغاضبة وإعلاناها للانهيار أمامي يشبه حالة مي زيادة، فكلهن نساء مبدعات كل واحدة بطريقة ما.

فتحت الباب لأراها وابحث عن الوهم لا الحقيقة فقد أرعبتني كلماتها فلم أجد الوهم ولا الحقيقة بل وجدت زهرة الجوري الأحمر ذابلة الأوراق بين جدران اصيصها.

*****

على مكتبتي ورقة لامرأة أخرى تدعى داليا رابيكوقتش، الكاتبة التي عانت الاضطراب النفسي والمرض، كاتبة الجمال والحروف الرقيقة فجأة ترفع صوتها في زمن الحرب، ترفعه عاليا وتستنكر الحروب وتستنكر القتل، ترفع حبرها أمام القيادات والجنرالات لتقول لهم: "كفى"، فلم يصدق احد أن داليا الكاتبة الرقيقة المكتئبة هي صاحبة أعلى صوت لليسار الإسرائيلي آنذاك.

داليا لم تعمّر بعد ذلك كثيرا ولم تستطع تحمل انكساراتها المتتالية كثيرا، ويبقى السؤال قابلا للتأويل عن سرّ موتها عندما احتضرت روحها بعد تناولها لكمية كبيرة من الأدوية.

******

"في مهبّ الغَضب.. كَرِمال العاصِفة"

التعبير عن الغضب لدى المرأة هو حالة ما زالت في حالة المخاض. ليست مقتصرة على الكاتبة فحسب بل على المبدعة بشكل عام .

نساء غاضبات وصامتات نسفَ الغضب حياتهن وشبابهن، عانين الاضطرابات النفسية وهن في أوج عطائهن معلنات الرحيل قبل فوات الأوان وقبل قرع الشيخوخة لأناملهن.

المرأة التي أخبرتني قصتها في ليلة حارة.. تركت المكان... وتركتني أرتق فجوات الغضب الذي خلفته لي قبل رحيلها، وأحاول لملمة أوراقي وجمعها كي تكون المُسَكّن لتلك الحالة.

وصل حبري إليهن إلى فرجينيا وولف، سنية صالح، مي زيادة، داليا رابيكوفتش

شارلوت برينتي، وغيرهن نساء من غضب وحلم العاصفة.

لقد رحلت صاحبة النغمات الجميلة رحلت دون العاصفة، رحلت برقة متناهية تبحث عن العاصفة وعن الحلم .