البرقع في الشارع الكندي



جاكلين سلام
2010 / 1 / 15

الإشكاليات التي يعيشها المهاجرون في الغرب وأوروبا لها بداية وليس لها نهاية. لا تقتصر على الصدمة الثقافية بسبب اختلاف المفهوم الحضاري والثقافي، الاقتلاع من اللغة الأولى والمكان الأول، الاغتراب والعزلة وفقدان شبكة التواصل الاجتماعي والروابط العائلية والقبلية والدينية. كلٌّ من هذه الأركان تشكل صراعا وصداعاً للفرد المهاجر، للمرأة والرجل على السواء. إضافة إلى كل هذا، نقف إزاء المظهر الخارجي الذي يحمل رسالته الفارقة والفاقعة بعض الأحيان. أورد هذه المقدمة العمومية لأصل إلى صورة الفتاة المبرقعة العارقة في سوادها والتي استوقفتني هذا الأسبوع فيما كنت عائدة من عملي وأنتظر الباص.
لفت نظري بالدرجة الأولى نظارتها الشمسية التي تغطي البرقع الأسود المنسدل على كامل وجهها وعينيها أيضاً. برقع ينسدل على كامل الوجه، يعلوه غطاء الرأس السميك الذي ينسدل على ظهرها. غارقة في عباءة سوداء فضفاضة تعيق حركة قدميها المحشورتين في حذاء رياضي، تحت العباءة يظهر جزء من بنطالها الأسود الطويل الذي يلملم الغبار. وكذا حال كفيها المحشوتين في قفازات سوداء طويلة سميكة. وفي يدها حقيبة كبيرة بنية اللون. قرأت كتابة أفغانية على واجهة المحل الذي خرجت منه الفتاة مسرعة، وتبعها عدد من الصبايا والفتيان الصغار. رغم ازدحام المنطقة ، كان وجودها علامة فارقة، مرتبكة كانت تمشي، وكأنها تهرب من ذاتها، كأنها مطاردة من الداخل ومن الخارج، كان قوامها يفصح عن كائن هش غض قلق رغم طبقات السواد الكثيفة. وقفت دقيقة بجانبي على موقف الباص، ثم مشت مسرعة. أكثر من سيارة عابرة أطلقت زموراً حاداً، لكن الفتاة سارعت من خطاها إلى الأمام. مع الملاحظة أن استخدام "الزمور" في كندا يأتي عوضاً عن شتيمة يريد أن يوجهها سائق إلى آخر تعبيراً عن نفور أو تذمر.
من الركن ذاته خرج عدد من الصبايا المراهقات والفتيان الصغار، بعضهم يحمل كتاباً (مقدسا) في يده. الفتيات الأخريات يلبسن سواداً وأغطية على الرأس، ولكن الوجه مكشوف. أحد الفتيان كان يلبس جلابية بيضاء قصيرة قليلاً، وعليها بعض البقع الدهنية، ويظهر من تحتها حذائه الرياضي، دون رباط، فيما شعره مقصوص على طريقة (الطاسة) وتغطي رأسه قبعة صغيرة مشغولة باليد. وإلى جواره يسير شاب آخر، ذقنه فتية، يلبس جلابية طويلة سوداء، وحذاء "أبو أصبع" .... الفتيات الأخريات كنّ أصغر سناً، أكثر مرحاً، يضحكن ويقطعن الطريق سوية. تفقدت حقيبتي لكنني لم أجد الكاميرا. قلت في نفسي "لكأن هؤلاء الصبية قادمون الآن من جبال تورا بورا التي شاهدناها على التلفزيون، ولم يتعرفوا بعد على "مزين شعر" وما شابه.
وصل الباص في موعده، وفي الموقف الثاني، رأيت الفتاة المبرقعة ذاتها قد استقلت الباص. تعثرت حين دخلت وأخذت بعض الوقت كي تعثر على بطاقة الأجرة. جلست في المقعد الشاغر بجوار عجوز شقراء، توجهت بنظراتها إلى أرض الباص، وكانت النظارة الشمسية ما تزال تغطي البرقع المنسدل على كامل وجهها. بقيت نظراتي معلقة بهذا الفتاة. انتابني شعور مزيج من الحزن والاستنكار. بقيت الصورة في رأسي بكل تفاصيلها، وأثارت فيّ أسئلة وسيناريوهات إلى أن قرأت مقالة لعباس بيضون في ثقافة السفير تاريخ 11 تموز 2009. في السطور الأولى وجدت أنه يتحدث عن ذبح امرأة مبرقعة في ألمانيا. قلبت الصفحة ولم أرغب في قراءة "حكاية مروى" والعنف ضد المرأة-المرفوض بالتأكيد. لكنني عدت للمقال في اليوم التالي، وجدته يعرض حادثة فتاة مصرية تعرضت للذبح في ألمانيا على يد غريب، وليس السبب معلوماً، أهو عنف ضد فئة من المسلمين المهاجرين الملتحفين بثقافة البرقع، أم هو عنف ضد السامية، أم عنف ضد المرأة وحضورها في المجتمع!

وفي هذا السياق نستطيع أن نقول أليس هذا البرقع الذي تلبسه هذه الفتيات ومثيلاتها صيغة للعنف الموجه إلى وجود المرأة وكيانها البشري، وانسلاخاً عنيفاً عن المجتمع المحيط، ورفضاً له؟! لن نقول ما يقوله المثل الانكليزي "إن كنت في روما، تصرف كما أهل روما" لكننا نقول أن السماح للشمس بالقاء التحية على الجسد، ضرورة للجسد وتساعد على امتصاص فيتامين "دي" الضروري لتغذية خلايا الدماغ وتطورها، ويساعد أيضا على امتصاص الكالسيوم المفيد للعظام ولبناء الجسد والذهن السليم!ونقول: كندا أكثر دول الغرب تسامحاً مع ثقافات الأقليات وخياراتهم الدينية والمدنية، وهذا يستدعي تسامح أهل ثقافة البرقع مع نسائهم، أجسادهم ومستقبلهم في البلاد الجديدة التي اتخذوها موطناً بديلاً.
وبالتأكيد كيفية ممارسة هذه الأقليات لثقافاتها وتراثها، معيار يختلف من فرد إلى آخر، ويتباين باختلاف تشدد الفرد ورفضه أي قيم تدعو للمساواة وللانخراط في المجتمع، لغة وفكراً.

صيف 2009-تورنتو


جاكلين سلام: كاتبة وشاعرة سورية مقيمة في تورنتو
جذور للادب المهجري المعاصر