البحر ... يلد النساء ...



سيمون خوري
2010 / 2 / 28

سئل الطفل أمه ، ماذا يعني الوطن ..؟
ردت عليه أمه ساهمة ، وهي تهرش شعره ... بيت أكبر من بيتنا ...
حاولت مرات عدة إستحضار إسم كاتب " سوري " وردت هذه العبارة في قصة قصيرة جداً له . بيد أن ذاكرتي المزدحمة تتثاءب بين فترة وأخرى وينتابها النعاس . وتخبو الذاكرة كتلك الشمعة التي رافقت بداية تعرفنا على أزقتنا الملوثة بالحب . لذا أعتذر لذلك الكاتب الضائع في ذاكرتي .
ومع ذلك ، ما أجمل التاء المؤنثة في هذه القصة القصيرة جداً . مئات المؤتمرات والبيانات المدبجة في صياغة " أما بعد " أو" باسمه الشخصى تعالى" التي باتت لازمة معروفة في تدوير الكلام حول حقوق المرأة وغيرها ، نفقات ، مواصلات ، ضيافة وتصفيق حاد وتوصيات ، ثم النتيجة ، فنحن لا نقرأ بل نبني كل شئ على فتوى مستوردة من الماضي . وينتهي الأمرعند أدآب " النكاح والنفاق " . كافة الخطابات لا تعادل في قيمتها قيمة تاء التأنيث الجميلة التي إختصرت معنى الوطن . هذه هي الأم . كنسية العذراء المعلقة في السماء .
في مدن تحرق نصفها الأخر، ويلتهم الجمرظل ما تبقى من أحياء النصف الآخر.
في زمن ما قبل الإسراف بفتاوي الجهل وفي القاهرة التي تحولت من مدينة النور الى جمهورية النقاب ، كان صالون الأديبة " مي زيادة " رمزاً لمعنى المساواة ، وكان " قاسم أمين " داعية تحرر المرأة رمزاً من معالم مصر الجميلة أيام زمان . لكن بعد طوفان أبو جهل ، فقدت القاهرة وعواصم أخرى كبيروت وبغداد ظلها الوارف منذ اللحظة التي إعتلى فيها النص المقدس عرش السلطان .
إختفى الحب .. إختفت المرأة .. إختفى معها القمر والشمس وكل قصائد القباني ومصطفى صادق الرافعي . حتى العذراء رمز المحبة رحلت دامعة على عصر توأد فيه المرأة حية خلف حجر القبر الأسود .
للكاتب الإسباني " غبريل غارثيا ماركيز " رواية بعنوان " ذكريات عن عاهراتي الحزينات " يقول في أحد مقاطعها : لا تموت دون أن تجرب جمال حمل عبء الحب . وليس أتعس من الموت وحيداً . ولهذا تقول إحدى نساء روايته " إني انظر الأن الى الأيام الخوالي ، وأرى طابوراً من ألاف الرجال الذين مروا بسريري ، وأجد أنني على إستعداد لأن أدفع روحي ثمناً للبقاء مع أسوء من فيهم .
ماركيز ، إعتبر أن الموت ، والوحدة ، هما قدر الإنسان ، وليس أمام الإنسان سوى الحب يواجه به القدر . وبفضل الحب يصبح لكل شئ معنى وقيمة وجودية إيجابية
للشاعرة الهندية " كامالا داس " قصيدة جميلة في أحد مقاطعها تقول :
أكتب إسمك على ثلج الصباح
على كل شئ ، حيث كتب شاعر
يوماً إسم الحرية
ليست هناك ضرورة لمحو ذلك
كي أكتب إسمك
هناك مساحة كافية للحب
في الأرض والسماء .
للشاعر نزار قباني من قصيدتة بعنوان القصيدة تولد من أصابعها يقول :
"حليب أمي ، كان حبراًً أبيضاً ..
ثديها .. علمني صناعة الفخار ..."

كيف خُلقتْ المرأة ... هذا الكائن الإنساني الجميل ..؟
بعيداً عن " إسطورة الخلق " المعروفة في العقائد التقليدية ، فقد حفلت معظم أساطير الشعوب الأخرى بقصص جميلة تتناول قصة خلق المرأة . وأعطتها مكانة وقيمة إنسانية هامة كشريكة في صنع هذا الوجود الى جانب ( الإله ) المذكر. وليست جزء ملحق أو تابع أو جزء من ضلع رجل حتى لو كان سفاحاً . فهل يعقل من يفتي بفتوى الموت أن تخرج من ضلعة إمرأة ..؟ في العديد من العقائد القديمة تبؤات المرأة منصب ( الإله ) وعبدت في عقائد أخرى . لكن في بلادنا فهي ليست أكثر من شهوة جسدية ، أو مادة إعلانية لمسحوق تنظيف ، أو سقط المتاع ملتف بسقط ثوب أسود .
بعض الأساطير تقول أن ( الإله ) كان رساماً ؟، أراد أن يرسم الطبيعة التي صنعها ، فخلق المرأة نموذجاً . أسطورة أخرى تقول أن ( الإله ) كان موسيقياً فأنجبت قيثارته أعظم لحن موسيقي . أسطورة أخرى تقول أن ( الإله ) كان يتجول في القلب عندما مر على باب له شفتان وإبتسامة فولج بداخله .
بيد أني أعتقد ، أن ( الإله ) إخترع بذرة البلوط ، والبحر العذب أنجب النساء . طارت نقطة ماء من بحر النساء وروت بذرة البلوط فتحولت الى رجل ، أما البحر ظل يلد النساء .
على شاطئ البحر ، صياد فقير، وهمس الموج ، يناجي طيور البحر ، وطفل يلهو برماله ، وإمرأة تستلقي بإسترخاء في بيتها الكبير ، وظلها تحمله الشمس يساراً . ورجل يحتسي قدحاً من خمر ( الألهة ) المعتق .