من قتلَ مدينة ؟

مدينة ممي اسم فتاة كردية بعمر16 عاما تعيش في مدينة كهطا في كردستان تركيا. وجدت مدينة مدفونة في حديقة منزلها في كانون الاول الماضي ويداها مقيدتان الى ظهرها وفي رئتيها ومعدتها كمية كبيرة من التراب. لم تجد الشرطة في جسد مدينة اثر لجروح، ولا لاطلاقات رصاص، ولا طعن، او خنق، قبيل دفنها، ولم يجدوا اي اثار لمخدر او عقاقير في دمها وحينها تيقنوا من ان مدينة قد دفنت حية من قبل ابيها بعد ان اوثقها.

هذه الجريمة الوحشية والتي تكشف عن مدى النذالة وانعدام الانسانية ليست جريمة قتل عمد مفردة ولا يمكن االنظر لها على ذلك الاساس. انها ظاهرة اجتماعية فظيعة تنتشر بشكل واسع في مدن كردستان تركيا والعراق وسوريا والعديد من المجتمعات التي تسيطر عليها العشائرية والاسلام السياسي كالباكستان ولبنان والاردن ومصر والسودان وغيرها.

ليس التخلف الاجتماعي سبب هذه الظاهرة كما يحاول اعتذاريو الاسلام والعشائرية الادعاء. فالتخلف يعني ان المجتمع يمارس بشكل تلقائي (وعفوي) ارتكاب هذه الجرائم والواقع ان الجريمة تحدث داخل المجتمع ومن قبل الرجال في العائلة ولكن الظاهرة تبدأ من القوى المسيطرة والمهيمنة على المجتمع. المدن الكردية تعاني من سيطرة العشائرية. ولكن نساء كردستان في العراق وتركيا وسوريا وايران يعانين اكثر من غيرهن من التقاليد الوحشية للعشائرية بسبب سيطرة القوى القومية الكردية على المجتمع كليا ولاسباب هي في العراق غيرها عن المناطق اخرى. الالاف من نساء كردستان يقتلن ذبحا بالسكاكين او رميا بالرصاص في براري كردستان او ازقتها او داخل بيوتهن من قبل رجال العائلة – الاب او ابن العم او الاخ او حتى الابن. تم ويتم كل ذلك برعاية وحماية وتستر قوى القومية الكردية وفي العديد من الاحيان بدفع مباشر منها. الملايين من نساء كردستان يعانين ايضا من الرعب والهلع من التمتع بادنى درجات الحرية الشخصية او الاجتماعية سواء حرية اختيار الشريك او الصديق او حرية التنقل والدراسة وتنمية المواهب والتمتع بالحياة وحرية الملابس، فهي غالبا ما تخضع بشكل كامل للترهيب من قبل رجال العائلة والعشيرة منذ السنين الاولى من حياتها ويدام ضربها واهانتها لكي تظل خاضعة ومهانة ومسلوبة الحقوق وعاجزة عن الاعتراض.

وقد يســأل القارى عن علاقة جريمة قتل الشرف بالحركة السياسية للقومية الكردية لكي نقول ان مفهوم الشرف والحفاظ على الشرف نابعة ومستندة الى قوانين العشيرة و الايديولوجيا القومية التي تستند اليها الاحزاب القومية. ولكن ليس ذلك فحسب، بل انها تستند ايضا الى الاسلام والشريعة الاسلامية. وبالتالي فان قطبي الرجعية الاجتماعية يؤثران بشكل متساوق التأثير على تصاعد جرائم قتل الشرف وكراهية المرأة وممارسة العنف والوحشية ضدها.

كتبت الشريعة الاسلامية قبل مئات السنين، نسخا عن اديان توحيدية اخرى سابقة، لاجل ترسيخ مجتمع تكون المرأة خاضعة فيه كليا الى الرجل تحرم فيه من التمتع بادنى حقوق اجتماعية. حصرت وظيفة المرأة في عملية انتاج الاطفال وتلبية الرغبة الجنسية للرجل ودبجت الافكار التي تنص على ان المرأة ناقصة وليست انسان كامل. ولكن المجتمع الرجولي الذي ترسخ عبر الاف السنين (اي المجتمع الذي يكون فيه الرجل هو السيد ازاء عائلة يعتبر افرادها تابعين له بدءا بالمرأة ومن ثم الاطفال) لم يكن نزعة فلسفية بل تطبيقا وممارسة اجتماعية افرزت حزمة القوانين لتثبيت تلك الممارسة وتقويتها. ان الذكر او الرجل سواء في الاديان التوحيدية ومنها الاسلام او في النظم العشائرية يعامل على انه السيد ويمنح حقوق السيادة المطلقة. ان مكانة السيادة هذه منشأها حق الملكية وتوارث الملكية الذي يتطلب تبعية الاولاد (وهم جزء من ملكية الرجل) الى اسم الرجل. ومن هنا فان النسب العائلي والعشائري وعدم ضياع ذلك النسب (او الدم) هو الذي كان الجذر الاقتصادي للتشريعات الالهية المزعومة التحقيرية والدونية للمرأة وترسيخ ترهة انها مخلوق نمى من ضلع الرجل، وناقصة عقل، وان ”للذكر مثل حظ الانثيين“، و”الرجال قوامون على النساء“ و“ماملكت ايمانكم“ والخطيئة الابدية لحواء تجاه آدم وغيرها. نشأ من هنا تراثا كاملا متكاملا من فلسفة تحقير المرأة. وبالتالي فان مسألة الشرف قد اصبحت قدس الاقداس وان المرأة هي التي تمثل هذا الشرف، لا حباً بالمرأة كما يقول المعتوهون والمدافعون عن الاسلام والعشائرية والقومية بل حفاظا على ملكية الرجل ونسب الاطفال اليه كجزء من تلك الملكية، في القبيلة كما في العائلة.

ورغم ان تركيا اليوم دولة علمانية يفصل فيها الدين عن الدولة وهو هناك شأن شخصي، الا علمانية الدولة التركية انتقائية ومرتبطة بالنزعة القومية الشوفينية. ان تلك العلمانية لا تنطبق على جماهير ونساء كردستان بنفس القدر بسبب تلك النزعة العنصرية للجنرالات الفاشست. الدولة التركية تغض الطرف عن تغلغل نفوذ الحركات الاسلامية وتقوية مواقع رجال الدين في الحياة العامة في كردستان تركيا والعراق وفي الكثير من الاحيان تترك النساء تحت رحمة القتلة بحجة كون مناطق كردستان مناطق حرب وقتال وانها خاضعة ”للارهابيين“. ان الدولة الكردية تستطيع حرمان الجماهير الكردية من التحدث بلغتهم ولكنها لا تبالي مطلقا بتحقير المرأة وقتلها وبمن ينشر الفكر العنصري الجنسي ضد المرأة كرجال الدين والملالي والشيوخ ورؤساء العشائر. الدولة التركية في الواقع تتواطئ مع القوى القومية والاسلامية من اجل ابقاء وضع النساء في كردستان تركيا او العراق مهانا ودونيا والايغال في فرض الطوق الاجتماعي عليها وعزلها عن المجتمع التركي وعلمانيته وعن الحركة المساواتية في تركيا والعالم.

ان غياب الاوضاع المتعارفة يضاف اليها هيمنة الشوفينية التركية وتعرض المنطقة للحرب والظلم القومي لفترات طويلة وتحويل المدن الى ساحات معارك ادت الى غياب الحركات السياسية الراديكالية والمساواتية وهيمنة الحركة القومية الكردية على مجتمع كردستان لعدة عقود واطلقت الحركات التي اعتكزت على مسألة ”الاظطهاد القومي“ الذي مارسه القوميون الترك والعرب في تركيا والعراق وسوريا ضد جماهير كردستان. وحتى في زمن ”تقدميتها“ فان الحركة القومية قد اصطفت مع الفاشية االبعثية والتركية في عزل جماهير كردستان وتحويل المجتمع الى ثكنات ترسخت داخلها التقاليد والاعراف العشائرية والاسلامية وخاصة بوجه الفتيات والنساء تماما كما حولت الحكومات القومية في العراق وتركيا وسوريا جماهير كردستان الى اسرى داخل اسوارمدنهم البائسة.

ان الواقع السياسي والاجتماعي في منطقة الشرق الاوسط متوزع بين هيمنة القوى القومية - العشائرية والقوى الاسلامية—الطائفية ولكن الاخيرة هي التي تقود اليوم الحركة المناهضة للمساواة والكارهة للمرأة وهي التي تضع نفسها كابحا بوجه الحركة المساواتية العلمانية والراديكالية الشيوعية تماما كما فعلت الحركة القومية قبل تسليم رايتها الدامية الى حركة الاسلام السياسي، وميراثها المخزي في تحقير النساء وقطع رؤسهن قتلهم وتعليقهن على اعمدة الكهرباء (كما فعل صدام في التسعينات) وترسيخ قيم العشيرة والقبيلة والاسلام في المجتمع.

وكما في كردستان فان الحركة القومية العربية انهت دورتها وسهمها في قمع المرأة وضرب المساواة واللجوء الى الدين حسب طبيعة الاوضاع ومتطلبات القمع والارهاب الاجتماعي وضرورته لديمومتها. ولقد عبر ميشيل عفلق مؤسس البعث عن اعتقاده بان القومية والدين هما ركيزتا حزب البعث بالقول ”العروبة والاسلام وجهان لعملة واحدة“ وكان محقا في ذلك تماما. ولكنه بالطبع لم يذكر شيئا عن الماهية الوحشية لتلك العملة ومدى انعدام انسانيتها. ورغم ان القومية والاسلام السياسي حركتان سياسيتان متصارعتان الا انهما متناغمتين اجتماعيا ويغذيان بعضهما البعض وبالتالي فان مراميهما مشتركة وواحدة. لذا فان النضال ضد احدهما تتطلب النضال ضد ومقارعة الاخرى؛ نقدهما معا وكشف محتواهما الكاره والمعادي للمرأة .

ان نضالنا الاشتراكي ونضال كل التحرريين والعلمانيين والانسانيين والمساواتيين والنساء ضد الاسلام السياسي والحركة القومية ليس سببه الاعتراض الايديولوجي عليهما بل الاعتراض الاجتماعي الواقعي. نحن نعتبر اننا صوت ويد ذلك الاعتراض المساواتي والعمالي والاشتراكي والانساني ونحن نقف في خندقه ضد خندق القوى الوحشية واللا انسانية من اسلامية ومن قومية وعشائرية.

الملايين من المساواتيين والمتمدنين ومحبي الحرية والمساواة بين المرأة والرجل مدعوون اليوم الى التحشد في جبهة الانسانية ضد جبهة الوحشية والى تجسيد نضال المرأة الاجتماعي وابرازه كميدان نضال رئيسي وترك تلك المقولات التي تدعي ان الجماهير تحب الدين والطائفية وانها متخلفة او اننا لا يمكن ان ننقد الدين والعشائرية لانها مقدسات او انها جزء من تركيبة المجتمع الخ من التقولات. تلك مبررات للتقاعس. لا يمكن ان نسكت عن الوحشية هكذا. كبشر يمتلك تعلقا وشغفا بالانسانية وبالحرية والمساواة وبالاشتراكية علينا واجب النهوض لنتصدى لهذه القوى البربرية وندافع عن حقوق الملايين من الفتيات والشابات والنساء من التمييز والاظطهاد والظلم والجريمة.

وحين نحيي مراسم يوم المرأة العالمي لهذه السنة لنتصور فقط مدينة وهي ترمى صارخة وباكية في قبرها ولنتصور كيف انهال ابوها عليها بالتراب ليدفنها حية ونتسائل: هل لوحش كهذا ومن يدفعه اي شرف يحافظون عليه؟!