المرأة بين الاختلاط والنقاب قراءة فى منهجين



محمود جابر
2010 / 3 / 7

قلنا فى بحث سابق أن هناك نظرتين يحكمان منهج النظر إلى الإنسان الأول : يرى الإنسان مخلوقات مفطورا على الطاعة والتقوى والخير ومعرفة الله تعالى وهذا هو منهج الإسلام. والمنهج الآخر: يرى الإنسان ابنا للخطيئة وعبدا لها ... وإذا كان الإنسان صاحب خطيئة أولى فإن الذي دفع الإنسان الأول – آدم – إلى الخطيئة هي زوجه - حواء – وعليه فقد اعتبروا حواء/ الزوجة / المرأة (شرا مطلقا)، هذا المفهوم – المنهج – تسرب إلى العقول عبر انتقالات مسيولوجية اختلط فيها المفاهيم الدينية بالأساطير المجتمعية مما جعلها أطروحة شبه مكتملة ، ولما كان الإسلام الحلقة الأخيرة فى حلقات التشريع الالهى ، ودخل فى الإسلام أقوام عدة من أهل الكتاب فقد تسرب هذا المنهج لدى العديد من كتب الإسلام ومعارفه ، وأصبح هناك تناقض معرفي فى منهج بعض الفرق الإسلامية حيث أنهم فى الأصل يعتمدون منهج (الفطرة ) وإذا استمر فى الأطروحة هذه خلطها بالأطروحة المعاكسة وهى اطروحت الخطيئة الأولى .
وعليه فقد حكم المنهج الثاني اغلب صور الحياة ،على اعتبار أن البشرية مازالت تعيش مراحلها الأولى ولم تصل بعد حدا مرضيا من التحضر – وخاصة مجتمعاتنا الشرقية-، لهذا فإننا نجد الخطاب والمعايش تضع الرجل فى مقدمة كل شيء والمرأة تابعة له أو منفصلة عن الأحداث أو فى الغالب مهمشة تهميش كامل ، فيحظر على المرأة أن تدخل إلى بيت الصلاة أو تكون احد أركان العمل الديني ، ويتضح هذا بشكل أكثر وضوحا فى مسلك الشريعتين السابقتين – اليهودية والمسيحية – فالمرأة فيهما لن ولم تكن يوما واحد من الكهنة أو الحاخامات أو القساوسة ، هذا بعكس الإسلام الذي مكن المرأة من أن تجلس لتعلم الناس الدين وتفتيهم وتحدثهم ، ورغم هذا فإننا نجد خلطا مفضوحا بين المنهجين حتى الذي لا يستطيعون أن يعترضوا على أن ترتقي المرأة سلم الارتقاء الديني .
ولعل السبب فى منشأ ذلك الخلط أن الكثير من المفسرين المسلمين كانوا‮ ‬يرجعون إلى الكتب السماوية القديمة ليستكملوا معلومات لم تفصل فى القرآن الكريم،‮ ‬أو ليفهموا آيات استغلق عليهم فهمها مستندين إلى قوله تعالى‮ (‬آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم‮) العنكبوت:46،‮ ‬وقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم‮: ‬لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم‮ -‬ رواه البخاري‮- ‬كما نسب للرسول‮ - ‬صلى الله عليه وآله‮ - ‬أنه قال‮: ‬بلغوا عنى ولو آية،‮ ‬وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج‮ ‬وهو ما شجع المفسرون على الاغتراف من العهد القديم والعهد الجديد بلا حساب‮.‬
ومن المفسرين الذين اشتهروا بتفشي الروايات من الإسرائيليات فى تفاسيرهم كعب الأحبار وهو‮ ‬تابعي‮ ‬كان‮ ‬يهوديا قبل أن‮ ‬يدخل الإسلام فى عهد عمر، ‬وعاش أثناء خلافة عثمان ‬ويتهمه المؤرخون بكثرة النقل عن أهل الكتاب،‮ ‬وبأنه المصدر الأصلي لأكثر الروايات الإسرائيلية التي فى كتب التفسير،‮ ‬وقد نقلها عنه الكثير من التابعين ومنهم أيضا وهب بن منبه،‮ ‬وابن جريج،‮ ‬وابن إسحاق،‮ ‬وقتادة،‮ ‬وسعيد بن جبير وغيرهم‮.. ‬وأغلب كتب التفسير،‮ ‬كتفسير ابن جرير الطبري والثعلبي وغيرهما انتقدوا من التابعين والدارسين بأنهم يروون الإسرائيليات،‮ ‬ولا‮ ‬ينقدونها‮.‬
وقد نبه ابن كثير إلى العديد من الإسرائيليات والموضوعات المنبثة فى التفسير وعقب عليها بأنها دخيلة على الرواية الإسلامية،‮ ‬وقد تأثر به كثير من المفسرين‮ .‬
وقد حاول ابن خلدون فى مقدمته أن‮ ‬يحلل أسباب نقل المفسرين هذه الإسرائيليات فقال‮: ‬والسبب هو أن العرب لم‮ ‬يكونوا أهل كتاب ولا علم،‮ ‬وإنما‮ ‬غلبت عليهم البداوة والأمية،‮ ‬وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية فى أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما‮ ‬يسألون أهل الكتاب قبلهم،‮ ‬ويستفيدونه منهم،‮ ‬وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى،‮ ‬وأهل الكتاب الذين بين العرب‮ ‬يومئذ أهل بادية مثلهم ولا‮ ‬يعرفون من ذلك إلا ما‮ ‬يعرفه العامة من أهل الكتاب‮ .‬
ويقول‮: ‬وهكذا انفتح باب الإسرائيليات على مصراعيه أمام المسلمين،‮ ‬لينفتح به باب للشر لم‮ ‬ينغلق،‮ ‬ولن‮ ‬ينغلق ما دام فى هذه الدنيا مسلم تغيب عن وعيه تلك الحقائق التي قدمناها‮‬،‮ ‬ويقول‮: ‬دخلت شعوب فى الإسلام ورأت مناسبة بين الدين الجديد،‮ ‬وبعض ما فى دينهم،‮ ‬فذهبوا‮ ‬يفسرون الإسلام ويفهمونه على أساس تلك الموروثات المهجورة‮.‬
أي أن الإسرائيليات ليست وحدها المسئولة عن تلك الفتاوى المتناقضة مع روح الإسلام ونصوصه الثابتة،‮ ‬بل الموروثات عن حضارات ما قبل الإسلام أيضا ‮.‬
وقد تحققت‮ ‬نبوءة‮ ‬ابن خلدون وها هم مسلمو القرن الخامس عشر الهجري‮ ‬يعانون من ذلك‮ ‬العبء‮ ‬الذي ألقاه على كواهلهم المفسرون القدامى‮.‬
وتتناثر فى التوراة عبارات عديدة ترى المرأة شرا لا مثيل له وأنها أصل الخطيئة وأن الله أنزل العقاب الصارم الأبدي عليها؛ لأنها هي التي أقنعت آدم بقطف الثمرة المحرمة وهى وحدها السبب فى معاناة البشرية وطردها من الجنة‮، كما ورد فى الكتاب المقدس بسفر التكوين .‬
ونأتي لبعض الوصايا والأوامر الخاصة بالنساء فى العهدين القديم والجديد‮ يقول:"لتصمت نساؤكم فى الكنائس لأنه ليس مأذوناً‮ ‬لهن أن‮ ‬يتكلمن بل‮ ‬يخضعن كما يقول الناموس أيضاً،‮ ‬ولكن إن كن‮ ‬يردن أن‮ ‬يتعلمن شيئاً‮ ‬فليسألن رجالهن فى البيت لأنه قبيح بالنساء أن تتكلم فى كنيسة‮ " كورنثوس 14: 35.
... "ولكن لست آذن للمرأة أن تُعلم ولا تتسلط على الرجل،‮ ‬بل تكون فى سكوت،‮ ‬لأن آدم جبل أولاً‮ ‬ثم حواء،‮ ‬وآدم لم‮ ‬يغو لكن المرأة أغويت فحصلت فى التعدي"‮ ‬1‮ ‬تيموثاوس‮ ‬2‮ : ‬14‮.‬
..."أيها النساء أخضعن لرجالكن كما للرب،‮ ‬لأن الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضا رأس الكنيسة،‮ ‬وهو مخلص الجسد‮ ولكن كما تخضع الكنيسة للمسيح،‮ ‬كذلك النساء لرجالهن فى كل شيء"‮ ‬افسس‮ ‬5‮ : ‬22‮.‬
...." ولكن أريد أن تعلموا أن رأس كل رجل هو المسيح،‮ ‬وأما رأس المرأة فهو الرجل‮.. ‬لأن الرجل ليس من المرأة بل المرأة من الرجل‮. ‬ولأن الرجل لم‮ ‬يخلق من أجل المرأة بل المرأة من أجل الرجل‮.‮ ‬احكموا فى أنفسكم‮: ‬هل‮ ‬يليق بالمرأة أن تصلى إلى الله وهى‮ ‬غير مغطاة" 1‮ ‬كورنثوس‮ 3: 11.
..." أن آلام الوضع ليست إلا عقابا أنزله الله على المرأة"‮ ‬سفر التكوين‮.
ففي الإصحاح الرابع والعشرين من سفر التكوين: "ورفعت رفقة عينيها فرأت إسحاق، فنزلت عن الجمل وقالت للعبد: من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا، فقال العبد: هو سيدي، فأخذت البرقع وتغطت."
وفي الإصحاح الثامن والثلاثين من نفس السفر :"فأُخبرَت ثامار وقيل لها هوذا حموكِ صاعدٌ إلى تمنة ليجز غنمه. فخلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلففت".
وفي الإصحاح الرابع من نشيد الإنشاد:
"ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلةٌ عيناك حمامتان من تحت نَقابَكِ. .... خَدٌّكِ كفِلْقةِ رُمانةٍ تحتَ نَقابِكِ "
..."ثم أنها بعد أن تتمم أيام تطهرها من ولادة ابن أو ابنة عليها أن تجلب إلى الكاهن خروفا عمره سنة وحمامة شابة لتتطهر من الخطيئة،‮ ‬وإذا كانت‮ ‬غير قادرة فعليها أن تجلب له حمامتين أو‮ ‬يمامتين واحدة للمحرقة والأخرى ذبيحة خطيئة‮ ‬يقدمها الكاهن للرب تكفيراً‮ ‬عن خطيئتها وعندئذ تصبح نظيفة‮" سفر اللاويين‮ ‬الفصل 12‮: ‬1‮-‬8‮.‬
وفي الإصحاح الثالث من سفر إشعياءَ: " ينزعُ السيدُ في ذلك اليوم زينة الخلاخيل والضفائر والأهلة والحلق والأساور والبراقع والعصائب".
وهذا قليل من كثير من الآيات والإصحاحات والأسفار والأعمال والرسائل التي وردت فى طول الكتاب المقدس وعرضه تتحدث عن المرأة ووضعها فى التشريع ، ولما كانت المعرفة الإسلامية لها ركيزتان الأولى هي القرآن والثانية هي الحديث ،ومن هذين الطريقين دخل إلى المعرفة الإسلامية مالم يكن منها فأما القرآن فانه محفوظ فى نصه وإنما دخل الخلط عن طريق التفسير أو خلط التأويل بقصص وروايات أهل الكتاب ونسبوها إلى قول النبي والصحابة زورا وبهتانا ، ومن أدلة هذا الزور وذلك البهتان أنك ترى روايتين لرجل واحد متناقضتان بعضهما البعض ولا يصح أن تنسبا إليه جميعا .
وهذا القول يخص أحد منابع المعرفة الإسلامية والمنبع الأخر وهو الحديث الشريف ( السنة النبوية)، والذي كثر فيه الوضع هو الآخر ، ومما حمل الوضاعون على الوضع أمور أهمها الخصومة السياسية ، وتلمح أحاديث كثيرة لا تكاد تشك وأنت تقرؤها أنها وضعت لتأييد الأمويين أو العباسيين أو الحط منهم ، كما وضعت الأحاديث فى تفضيل بعض القبائل العربية على بعض ، وكذلك فى الخلافات الكلامية ، ومن أهم الأسباب التي أدت إلى الوضع مغالاة الناس إذ ذاك فى أنهم لا يقبلون من العلم إلا على ما اتصل بالكتاب والسنة اتصالا وثيقا ، وما عدا ذلك فليس له قيمة كبيرة ، فأحكام الحلال والحرام إذا كانت مؤسسة على مجرد "الاجتهاد" لم تكن لها قيمة ما أسس على الحديث ولا ما يقترب منه، بل كثير من العلماء فى ذلك العصر كان يرفضها ولا يمنحها أية قيمة ، بل بعضهم كان يشنع على من ينحو هذا النحو والحكمة والموعظة الحسنة إذا كانت من اصل هندي أو يوناني أو فارسي ، أو من شروح التوراة أو الإنجيل لم يؤبه لها ، فجعل ذلك كثيرا من الناس أن يصبغوا هذه الأشياء كلها صبغة دينية حتى يقبلوا عليها ، فوجدوا الحديث هو الباب الوحيد المفتوح على مصراعيه ، فدخلوا منه على الناس ، ولم يتقوا الله فيما صنعوا ، فكان من ذلك أن ترى فى الحديث الحكم الفقهي المصنوع، والحكمة الهندية ، والفلسفة الزردشتية ، والموعظة الإسرائيلية أو النصرانية .
المرأة والحجاب :
أن ظاهرة حجب المرأة عن العيون حتى لا يراها إلا زوجها وأولادها وجدت منذ القديم عند اليونانيين، وهى مرتبطة ارتباط وثيق بالمنهج الثاني الذي يرى فى الإنسان ابنا للخطيئة ويرى المرأة هي الدافع والمحرض عليها ، لهذا فمنعوها من ارتياد الأماكن العامة واعتبروها عورة. وهكذا ظهرت فكرة الحريم وحجب الزوجة عن العيون لأنها ملكية خاصة للزوج فلا تسوى بالملكية العامة من الجواري والغواني والبغايا منذ عصر هوميروس وهزيود. ووفقاً لتحليل عالم الانتروبولوجيا الأمريكي لويس مورجان فإن حجاب المرأة ونقابها فى العصر الأغريقى يرجع إلى أسباب اقتصادية صرف بدأت مع شيوع الملكية الخاصة، وعندما فكر الرجل فى أهمية عفة المرأة/ الزوجة ليضمن نقاوة سلالته من الأبناء.
ولن يصل إلى هذا الهدف إلا بحجب الدماء الذي يلد النسل، وهى الزوجة، وعندها فقط يتأكد أن الأبناء من صلبه فيطمئن على من يرث من بعده. ولذلك أوجبوا عليه كعلامة على المرأة الحرة المتزوجة ملكية الرجل الخاصة. ولهذا كانت نساء اليونان تستعمل الخمار والنقاب إذا خرجت لتخفى وجهها من المارة.
وأما قصة النقاب فى الديانة اليهودية لتؤكد أن العبرانيين عرفوا الحجاب والنقاب منذ عهد إبراهيم عليه السلام وانتشر بينهم فى أيام أنبيائهم جميعا وتواصل إلى ما بعد ظهور المسيحية.
وهناك بالفعل مواضع كثيرة فى التوراة يأتي فيها ذكر النقاب منها مثلاً ما ورد فى نشيد الانشاد "ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة.. عيناك حمامتان تحت نقابك.. خدك كفلقة رمان تحت نقابك".
وانطلاقا من مثل هذه الآيات التوراتية الكثيرة فرضت الشريعة اليهودية على الزوجة قديماً أن تغطى رأسها وتستر كامل جسدها بملاءة عدا ثقبا واحدا تنظر من خلاله لترى الطريق . والأفضل لها أن لا تخرج من البيت أصلا .
كما أن المسيحيين القدماء منعوا المرأة من الخروج حاسرة الرأس دون نقاب. وإذا خالفت ذلك ذهبت إلى الكنيسة عارية الرأس تعاقب بقص شعرها حسبما جاء فى رسالة القديس بولس إلى أهل كورنثوس الذي يرى أن النقاب "شرف المرأة".
ومما سبق نستطيع أن ندرك أن اللباس الذي تفرضه جماعة معينة وتضع له مواصفات حسب هواها لتحجب المرأة جسداً وعقلاً وروحاً لا أصول له فى الإسلام وتعود أصوله إلى الثقافات القديمة كما أشرنا فى السطور السابقة.
المرأة فى الثقافة العربية قبل الإسلام :
إن سنن الاجتماع ترفض أن تتغير الأنساق الاجتماعية فى مجتمع معين وخاصة تلك التي استمرت مئات السنين ، وفى بضع أعوام ؛ قد تنجح دعوة فى تهذيب عشرات المحيطين بالداعية ولكن القاعدة الشعبية العريضة تظل محتفظة بأنساقها وعاداتها ، ولا تتغير عندها إلا إذا تغيرت ظروفها المادية مثل : طرق الإنتاج وأدواته ونمطه وأساليبه ووسائله ، بل إن بعض الملتفين حول صاحب الدعوة تغلب عليهم أعرافهم وطبائعهم المركوزة فى أعماق نفوسهم التي شبوا وشابوا عليها قبل اتصالهم به أو اتصاله بهم ، خاصة تلك التي تتعلق بالنوازع الطبيعية وفى أحيان كثيرة يفزعون إلى الداعية معترفين بمفارقتهم لما نهى عنه ، وهو يتسم بالحلم وسعة الصدر وبعد النظر والفكر السديد والرأي الصائب فيعرف أن الطبع يغلب التطبع وأن النوازع البشرية لها هيمنتها فيغفر ويسامح ويتجاوز وينصح فى رفق لأنه يدرك انه حتى الأكثر التصاقا به بشر وأنهم عاشوا غالبية عمرهم فى مجتمع له موجبات معينة وانه من أعسر العسر التخلص منها مابين عشية وضحاها،؛ ولعل هذا الحديث يمثل مدخلا مناسبا للحديث عن النساء فى الجزيرة العربية قبيل الإسلام .
أن المرأة في ما قبل الإسلام حازت مكانة رفيعة حجبها الكثير من مؤرخي الفترة الإسلامية لإبراز ما أعطاه الإسلام للمرأة من حقوق. وكأن الفضائل لا تظهر إلا بحجب فضائل سابقة، والموضوعية التاريخية تقضي ذكر الحقائق كما هي مثل ما كان للمرأة في الجاهلية فقد نالت احترام الرجل، وتضحيته بحياته من أجلها. وقد سجل الشعر العربي والقصص والأغاني تلك المآثر، ولم يقف الأمر عند التغزل والتغني بها وإنما تجاوزه لتصبح المرأة حكما بين الرجال الشعراء. تروي الأخبار أن امرئ القيس نزل على بني طئ بعد قتل أبيه وتزوج من نسائهم أم جندب، ودار سجال شعري بين امرئ القيس وعلقمة بن عبدة، وتنازعا إمامة الشعر، ولم يتنازل أحدهما للآخر. واختار علقمة أن يُحكّما أم جندب بينهما. وقبل امرؤ القيس المقترح، فطلبت منهما أن ينظما كل واحد منهما قصيدة على نفس الوزن وبقافية واحدة يصفان بهما الجياد. وبعد نزاعهما من النظم عرضا الشعر على أم جندب وافتتح امرؤ القيس قصيدته بقوله:
خليلي مرّا بي على أم جندب
ولما وصل إلى وصف الفرس قال:
فللزجر ألهوب وللساق درة ***والسوط منه وقع أهوج منعب
وجاء دور علقمة فأنشد مفتتحا:
ذهبت من الهجران في غير مذهب
ولما صار إلى وصف الفرس أنشد:
فعفى على آثارهن بحاصب***وغيبة شؤبوب مـن الشد ملهب
فـأدركهن ثانيـا من عنانه *** يمـر كمر الـرائح المتحلـب
وبعد سماعها للشاعرين قال أم جندب لزوجها:
- علقمة أشعر منك
فقال أمرؤ القيس:
-وكيف ذلك؟ قالت:
-لأنه وصف الفرس بأنه أدرك الطريدة من غير أن يجهده أو يكده، وأنت مريت بفرسك بالزجر وشدة التحرك والضرب.
فغضب امرؤ القيس وطلقها فتزوجت علقمة.
وتبوّأت المرأة في الجاهلية مكانة علية ظهرت بفضلها طبقة من النساء صاحبات القرار العظيمات الشأن من بينهن الكاهنة والعرافة والمتنبئة،وصاحبة السيادة والريادة ففي مكة كان مفتاح الكعبة عند امرأة وهي بنت خليل الخزاعي حافظت عليه زمنا طويلا قبل أن تتنازل عن ملكيته لقصي حسب ما جاء في كتاب "أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار". وتذكر الأخبار أن مفتاح الكعبة أيام الفتح الإسلامي. كان في يد أم عثمان بن طلحة،ولم تسلمه للرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلا بعد شدة ومقاومة حسب ما ذكره مسلم في صحيحه.
ورافقت النساء الرجال في الحروب قبل الجاهلية، ووقفت مواقف جريئة تحرض فيها الجند على القتال واشهرها موقف ابنتي الفند الزماني في الحرب التي دارت رحاها بين تغلب وبكر. ويتمثل في أن البنتين لما اشتعلت نيران الحرب تقدمت إحداهما وخلعت ثيابها ورمت بها وسط المعركة، واقتدت بها أختها ثم تقدمت صفوف الرجال عارية الجسد لتبعث في الجنود الشجاعة والحرص على حماية بناة القبيلة.
وفي نفس المعركة يرفع عوف بن مالك ابنته على جمل ويسيره ثم يضرب عرقوبيه، وينادي في قومه:لا يمر بي رجل من بكر بن وائل فرّ من القتال إلا ضربته بسيفي هذا.
وشاركت المرأة في الجاهلية في الحياة العامة ومنها المجال السياسي وما موقف هند بنت عتيبة من الدين الجديد ومساندتها لزوجها إلا موقف سياسي واضح.
ذكرت هذه النماذج لأبين أن المرأة لم تكن منبوذة ومغيبة إلا عند بعض القبائل مثلما هو الحال اليوم، وأن الإسلام لم يرفع منزلة المرأة وإنما رفع مستواها الأدبي في الحضارة إلى حد عظيم .
ثياب المرأة قبل الإسلام :
في هذه الفترة احتفت النساء بلباسهن حفاوة كبيرة مما يفند المزاعم التي تدعي أن فترة الجاهلية فترة بداوة وبربرية وهمجية لم تعرف فيها المرأة فنون اللباس. والشواهد كثيرة على أن المرأة العربية ارتدت أنواعا مختلفة من الثياب الخلاّبة ذات الألوان الراقية والأشكال الفنية من صنع فناني العراق والشام واليمن، وما جلبه التجار من الهند وفارس والبلاد المجاورة للجزيرة العربية،وقراءة في الأشعار العربية وأخبارها وآثارها تكشف لنا عما اتخذته المرأة من ملابس الزينة،وإظهار الحسن،وتبين لنا ضروب التفنن في ابتكار الأزياء واختيار الألوان التي حبكت من الصوف والقطن والحرير والدمقس والسندس والديباج والإستبرق والخز،يقول اليشكري:
الكاعب الحسناء ترفل***في الدمقس والحرير
وتسمية المرأة العربية في الجاهلية لأشكال الثياب دليل على تفننها وذوقها الرفيع وحسها المرهف،فإنها تسمي مارقّ نسجه ودق خيطه من الثياب:المهلهل والهفاف وما نسج بخيوط الذهب:المذهب يقول سلمى بن ربيعة:
والبيض يرفلن كالدمي***في الريط المذهب المصون
وتسمي المرأة أيضا ما كان نسيجه مكثفا:الصفيف والحصيف،وولع المرأة العربية بالثياب المطرزة بالذهب والمزينة بأصناف النقوش تشهد به الأخبار، وكذلك ولعها بالحلل الشفافة كان كثيرا.ومن الأزياء التي ارتدتها في الجاهلية الدروع وهي قمصان تلبسها المرأة الكبيرة والمجول وهي قمصان تلبسها المرأة الصغيرة، والنوعان دون أكمام،ومن الأزياء النطاق،لباس تشده المرأة إلى وسطها وترخي نصفه الأعلى على نصفه الأسفل ومن فوقه البت يحيط بجسمها ويحجب جزءا من وجهها ورأسها. ويختار هذا الثوب من القماش الرقيق وغالبا لونه الأخضر،ومن الأزياء أيضا الحبرة وهي برد من اليمن موشى من أبهج وأثمن ما لبست المرأة العربية،كما لبست المرط وهي ملاءة ذات شقين من الحرير الخالص،وكذلك من ثيابها الإزار.
وتختار المرأة العربية في زمنها ذاك لباس المناسبات "كجر الذيل"في المناسبات المختلفة كالأعياد وحفلات الزفاف،والحفلات الساهرة،وفي المآدب العامة. في هذه المناسبات ترسل ذيل لباسها النفيس اعتدادا بنفسها وزيادة في التأنق يقول عنترة يصف عبلة وهي تجر ذيل ثيابها الحريرية.
وتظل عبلة في الخزوز تجرها ***وأظل في حلق الحديد المبهم
وشاركهن الرجال في جر ذيول الثياب افتخارا وعلامة على القوة والسيادة.إضافة إلى تفننهن في اللباس، فقد تفننت نساء الجاهلية في التحلي بالجواهر النفيسة، وخصت كل موضع من جسدهن بحلي معلوم:القرط المرصع والمذهب لأسفل الأذن، والشنف لأعلى الأذن،والإكليل عصابة مرصعة بالجواهر للجبين، والجبرة للساعد،والسوار للمعصم، وتنوعت الخواتم بين الخاتم ماله فص، والفتح مالا فص له،ولبست الخواتم في أصابع اليدين والرجلين.
لباس المرأة فى الإسلام :
لماذا اخترت هذه الفترة، لأنها الفترة التي يستدل بها كل من يريد حجب المرأة عن الأنظار، ووصف الإسلام بالدين الذي جمد سمة الجمال في نفوس النساء وفرض عليهن زيا موحدا ومعينا.فهل هذا صحيح؟
جاء الإسلام وجد النساء تفنن في اللباس والزينة، وبالغت بعضهن فخرجت عن الأدب العام في الستر فكشفن الصدور والأعناق والثديين، فدعا إلى الستر، وتهذيب الألبسة الخليعة لتراعي الآداب العامة وقيمة الحياء الاجتماعي أما فصل النساء عن الرجال وحجزهن في حجر منزوية، ومنعهن من المشاركة في الحياة فهذا ليس من الدين الإسلامي في شيء بدليل عمل النساء مع الرجال والتحدث إليهم. فهذه عائشة بنت أبي بكر وزوج النبي صلى الله عليه وسلم تعلم الرجال الحديث، وتشاركهم في الحروب وفي السياسة واشتهرت منهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزينب بنت على (عقيلة بنى هاشم) و سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، وزينب بنت موسى الجمحية وكان لهن باع في البلاغة والفصاحة والشعر والجدال وقوة المحاجة.
من الطبيعي أن يتشكل زى المرأة تبعا لاختلاف الأذواق والبيئة الاجتماعية، والاقتصادية. ومما لا شك أن لكل عصر ولكل مصر زيه الذي يختص به ويميزه عن غيره من الأزياء من هنا سنتتبع تشكل زى المرأة العربية المسلمة في بداية الإسلام إلى العهد العباسي.
رغم أن الإسلام قاوم ظاهرة الخلاعة في اللباس وأمر بالستر فإن النساء تحايلت بطرق مختلفة في حياكة ملابس جديدة تحترم تعاليم الدين من جهة، وتظهر محاسنهم من جهة أخرى مثل زى "القباطي" وهو ثوب ضيق يلتصق بالجسم ويبدي نحافة الجسد من ثخانته ويبرز محاسنه، وثبت أن عمر بن الخطاب نهى عن لبس القباطي ذكر مالك "بلغني أن عمر بن الخطاب نهى النساء عن لبس القباطي لأنها وإن كانت لا تشف فإنها تصف"مما يشهد بأن النساء لبسن هذا النوع من الزى.
ومما اخترعته المرأة- "رغم أن الشريعة أمرت بإسبال الإزار وإرساله قدر ذراعا ليستر قدمي المرأة عند المشي-"اللباس القصير الضيق لتظهر محاسن جسدها وقد احتج علماء ذلك العصر على هذا النوع من اللباس بهذه المقولة "ليحذر العالم من هذه البدعة [لبس القصير والضيق]، التي أحدثتها النساء".
ومما اخترعته النساء في صدر الإسلام "الناهزة"وهي طريقة تعظم بها رؤوسهن تتمثل في لبس الخمر والمقانع على شكل عمامة توضع على الرأس تشبه أسنمة الإبل لتوهم بغزارة شعرها وكثافته تحت الخمار والمقانع، ولتكتمل شروط الزينة لبست النساء الخواتم المتناسقة مع ثيابهن الجميلة .
أما عن الاختلاط بين الرجال والنساء .
لم يكن اختلاطا فقط بل اختلاط لمتبرجات مع رجال غرباء ، كانت سبيعة بنت حارث الأسلمية زوجة لسعد بن خوله العامري ، و كان ممن شهد موقعة بدر والله له ولأصحابه من أهل بدر ما تقدم من ذنبهم و ما تأخر ، و توفى عنها زوجها في حجة الوداع ، فما أن طهرت من نفاسها حتى بادرت بالتبرج و التجمل و التزين و خرجت تمشي بين الرجال طلباً للزواج ، فتقدم لها أبو السنابل بن يعك ، و كهل ، وشاب ، فاختارت الشاب / رواه البخاري و مسلم .
و كانت النساء محل تطلع من الرجال لمعرفة جمالهن وكان جمال نساء القبيلة محل تفاخر بين قبائل العرب ، " من رواية عن يحي بن عبد الله بن الحارث قال : لما دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مكة يوم الفتح ، قال سعد بن عبادة : ما رأينا من نساء قريش ما يذكر عنهن من جمال ؟! فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : هل رأيت بنات أبي أمية بن المغيرة ؟ هل رأيت تربة ؟ هل رأيت هندا ؟ إنك رأيتهن و قد أُصبن بآبائهن " . أي أنك رأيتهن و هن غير متجملات و لا متبرجات حيث كن في حال حداد على آبائهن الذين قتلهم جيش النبي . لذلك لم ترهن في وضع يبرز مواطن جمال بنات قريش . مع الملاحظة أن هندا إحدى اللائي ضرب بهن النبي المثل لجمال القرشيات ، هي هند بنت أمية زوج النبي نفسه و المعروفة بأم سلمة .
كان التبرج لإظهار الجمال ليس هو المفهوم من تبرج الجاهلية الأولى المنصوح بعدم لجؤ المرأة المؤمنة إليه ، كان التبرج المسموح ، كن يضعن الحمرة بسحق الأحجار الحمراء و عملها كمسحوق يشبه بودرة تجميل اليوم ، و قد جملت أم السيدة عائشة بنتها بهذه الحمرة ليلة دخل بها الرسول .
المسألة كانت تغطية الثديين ليس إلا ، لكن أن تلبس المرأة اللافت للنظر و المبرز للجمال فلم يكن شيئاً محرماً ، لأن هذه هي طبيعة المرأة التي فطرها الله عليها ، ولن تر لخلق الله تبديلاً . كانت الأقراط الكبيرة و الطويلة المطعمة من إكسسوارات التجميل اللافتة للنظر من زينة الصحابيات ، و هو ما يأتينا ذكره في خبر أم هانئ بنت عم النبي التي تبرجت بمثل هذا القرط و قامت تسير بين الرجال مستعرضة جمالها ، فتحركت غيرة عمر فقال لها : " إن محمدا لا يغني عنك شيئا " . فغضب النبي ليس لتبرج أم هانئ مطلقاً ، و لا حتى أشار حتى إليه ، كل ما أغضبه أن يقول عمر أن شفاعة محمد لا تلحق أهل بيته . " رواه الطبراني.
مرة أخرى نؤكد أنه لم يكن زمن النبي شيء اسمه الحجاب كما هو مقرر اليوم ، و لم يكن هناك فصل بين الرجال و النساء ، و حديث ما اجتمع رجل و امرأة إلا و كان الشيطان ثالثهما لا يلتقي بالمرة مع واقع المجتمع في الزمن النبوي ، مما يشير إلي تهافته ، و إنه من الموضوعات بعد ذلك بزمان طويل ، أما واقع زمان الدعوة يحكيه لنا الجاحظ فيقول : " فلم يزل الرجال يتحدثون إلي النساء في الجاهلية و الإسلام ، حتى ضرب الحجاب علي نساء النبي خاصة ، ثم كانت الشرائف ( أي الشريفات بمعنى طبقي ) من النساء يقعدن للرجال للحديث ، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عاراً في الجاهلية و لا حراماً في الإسلام " .
و عن خوات بن جبير قال : " خرجت مع النبي في غزوة فخرجت من خبائي فإذا بنسوة حولي ، فلبست حله ثم انتهيت فجعلت أتحدث معهن ، فجاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : يا جبير ما يجلسك هنا ؟ قلت : يا رسول الله بعيري قد شرد ، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمازحه كلما التقاه : ما فعل بعيرك يا خوات ؟!" .
و مثل أم هانئ من بين الشرائف ( أي الشريفات أي من عليه المجتمع ) كانت الصحابية عائشة بنت طلحة ، التي دافعت عن حقوقها ، ورفضت أن يفرض عليها أحد أمراً لم يفرضه القرآن ، و من ذلك رفضها أي لون من الحجب و التحجب ، و كانت شئونها الجنسية تحكي وتذاع علي الملأ في نوادر و طرائف يسمر عليها المسلمون في سهرهم المتواد و المتراحم ، دون أن تشعر بنت طلحة بأي تحرج بل كانت تفخر به . فقد كان لديها يوماً صحابية تزورها ، و إذ بزوج عائشة يدخل متعجلاً فتنهض إليه عائشة و تدخل معه داخلا، وتسمع الضيفة أصوات المتعة الجنسية لعائشة بنت طلحة ، حتى خرجت إليها ترفض عرقاً ، فسألتها الضيفة مستنكرة : أو تفعل الحرة ذلك ؟ فردت عليها : " إن الخيل العتاق تشرب بالصفير " ، فشبهت نفسها بالخيول الأصيلة التي تصدر مثل هذه الأصوات صفيراً في مثل هذا الموقف ، كانت عائشة تعلن فخرها بمتعتها ، دونما أن ينزعج أحد من الصحابة . و من حكايات بنت طلحة المشهورة أنها مرة كانت تحت زوجها في السرير فنخرت نخرة تفرقت منها مائة من أبل الصدقة هلعاً و لم تجتمع مثلها حتى اليوم . و عندما أراد زوجها أبو مصعب عتابها علي تبرجها الشديد قالت له : " أن الله سبحانه و تعالى وسمني بمسيم الجمال فأحببت أن يراه الناس ، فيعرفوا فضلي عليهم ، فما كنت لأستره .
أن زمن النبي ليس بالصورة التي يفهمها المسلمون البسطاء مأخوذة من الدراما التلفزيونية الحديثة ، و يدعمها مشايخنا في وعظهم و فتاواهم ، و هم من أشرف على وضع اللمسات النهائية لصورة المجتمع الإسلامي الأول في تلك الأفلام . لم يكن مجتمع زمن الدعوة كما يقدمونه للمسلمين جيلاً من الملائكة ، بل كان مجتمعاً طبيعياً يعيش فيه الصحابة كما يعيش البشر ، و يعرف أن للمرأة أن تتجمل فقد خلقت بذلك غريزياً ، و لم يكن أمرا ممجوجاً ولا محرماً . كذلك لم يمنع أو يحرم لقاء الرجال بالنساء ، بل هو لم يحرم الغزل بينهما لأنه الرسالة الأولى للتواصل الإنساني بينهما ، يروي البخاري عن عبد الله بن عباس أن أخيه الفضل كان رديف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه ، فجعل الفضل بن العباس ينظر إليها و تنظر إليه ، فجعل رسول الله يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر . و لنلاحظ أن هذا الغزل بين صحابي و صحابية كان في حضرة سيد الخلق الذي أينما كان حاضراً كانت السماء حاضرة ، و في أقدس الأماكن و أقدس الأزمان ، في حجة الوداع .
ولم ينزعج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولم ينهرهما ، بل كان فقط يصرف وجه ابن عمه الفضل بأنامله الشريفة ليناً و لطفاً و تقديراً منه لفطرة الله التي خلقنا عليها ، ولم يصرف وجه الخثعمية عن التملي من الفضل . وإما لم تكن هذه الخثعمية لا مخمرة ولا منقبة ولا محجبة حتى بدت مفاتنها للشاب ، أو كانت مخمرة و محجبة و مع ذلك فإن الخمار لم يستطع أن يمنع نداء الطبيعة و لم يردع الفضل عن الغزل في حضور رسول السماء و الزمن القدسي كله .
و لم يمنع الحجاب ( إن كان قد حدث و هو غير صحيح ) المرأة من التطلع و المغازلة ، فإن لها عيون ترى وآذان تسمع ، و في زمن الخليفة عمر اشتهر نصر بن الحجاج السلمي بجماله الأخاذ حتى فتن نساء المدينة ، و أصبح يقلن فيه الشعر الماجن ، الذي نختصره هنا في معناه لشدة مجونه ، فهذه صحابية تدعو ربها أن يصلها بنصر بن الحجاج ليطفئ نارها وشوقها ولوعتها ، و أخرى تنادي : من لي بابن الحجاج ولو ليلة واحدة ، و هو ما أضطر الخليفة عمر رأفة بالأزواج من الصحابة إلي إبعاده إلي بلاد الشام .
يقولون اليوم أن اختراعهم المسمى الحجاب هو عفة وطهارة، و حتى تعرف المسلمة فلا تؤذى ، أي يحميها من التحرش أو ربما الاغتصاب ، هذا رغم أن كل الميزات التي ميزت بها حرائر الزمن النبوي أنفسهن بإدناء الجلاليب و تخمير الثدي إضافة لعادة تخمير الرأس ، فإن ذلك لم يمنع تعرضهن ليس فقط للإيذاء ، بل للاغتصاب . عن أسباط بن نصر عن سماك بن وائل عن أبيه ، زعم أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح و هي تعمد إلى المسجد ، فإستغاثت برجل مر عليها و فر صاحبها ( أي الذي وقع عليها ) فأدركوا الذي استغاثت به . و هو يقول لها : أنا الذي أغثتك ....الخ / أورده البهيقي في السنن الصغرى . و في خلافة عمر " حدثنا الحسين بن عبد الملك بن مسيرة عن النزال بن سيده قال : بينما نحن بمنى مع عمر رضي الله عنه إذ امرأة ضخمة على حمار تبكي كاد الناس يقتلونها من الزحمة عليها و هم يقولون لها : زنيت .. زنيت ، فلما انتهوا إلي عمر قال ما شأنك ؟ فقالت كنت امرأة ثقيلة الرأس و كان الله يرزقني من صلاة الليل ، فصليت ثم نمت ، و الله ما أيقظني إلا رجل قد ركبني ثم نظرت إليه معقباً ما أدري من هو من خلق الله .
بل و كان في الزمن النبوي من الصحابيات من هي متزوجة لكنها عاشقة رجال " عن عكرمة عن بن عباس قال : جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : أن امرأتي لا تمنع يد لامس ، قال : غربها ، قال :
أخاف أن تتبعها نفسي ( أي أنه يحبها بشدة ) ، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : فاستمتع بها " .
المشكلة في مثل هذه الشهادات التي نقدمها هنا لنعلم هل كان هناك حجاب ؟ وهل منع الحجاب نداء الطبيعة ؟ زمن وجود النبي بنفسه بين المسلمين و في حضرة أبواب السماء المفتوحة و في أقدس الأماكن ؟
المشكلة أن مسلم اليوم لا تقبل نفسه و روحه و ربما عقله بمثل هذه الشهادات لأن وعاظنا صوروا له الزمن النبوي كما لو كان زمناً ملائكياً روحياً لا مجال فيه للخطأ ، كي يلقوا فيه بكل جديدهم اليوم و يستمدوا منه ما يدعم مخترعاتهم اليوم كالحجاب ليلبس قدسية ذلك الزمان ، لأنهم لا يتلقون وحياً لكنهم يريدون لكلامهم القدسية و هم يستمدونه من زمن الدعوة ، لذلك جرى تقديس ذلك الزمن ليعطي فتاوي مشايخنا و قولهم قدسية الوحي ولا يعرجوا أبداً لمثل هذه الأحداث بل و يخفونها عن المسلمين عمداً و قصداً و رغبة منهم عن سبق إصرار و ترصد ، كي يصنعوا المسلم الذي يريدون : الممتثل المطيع الذي لا يعرف سوى قول (آمين) .
و ربما يأتي مسلم اليوم و هو يقرأ هذه الشهادات ليلقي بنفوره على كاتب هذه السطور هنا و ليس على من دون الحدث و لا على من صنع الحدث و لا على المجتمع الذي حدث فيه الحدث ، لأن مشايخنا يصوغون له إسلاماً غير ما كان في زمن النبوة الشريفة ، حتى يلتقي مع ما يريدون الوصول إليه ، و هو الإمساك بدماغ المجتمع كله و إجباره علي الطاعة و التسليم بفروض لم تكن موجودة كالحجاب ، و هو ما يعني أنهم جعلوا المسلمين أكثر طاعة لهم من الطاعة لدينهم و لنبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، حتى فرضوا على أنفسهم بأوامر من نصبوا أنفسهم قيمين على الدين بما لم يفرضه الله .
و بإيعاز مستمر من مدعى العلم ، تصور المسلمون أن ما يسمى بالنقاب فريضة إسلامية من الفرائض العظمى ، حتى أنهم يخرجون في المظاهرات الصاخبة للاحتجاج على أي حديث معلن لا يقول بأن الحجاب/ النقاب فريضة ، كما لو أن هؤلاء المتظاهرين جميعا قد درسوا الأمر و عاينوه في مصادره الإسلامية المعاينة النافية للجهالة ، واقتنعوا بأن الحجاب/ النقاب فرض ، فقاموا يرجمون من قال بغير ذلك . المسلم لا يعلم من شئون دينه ما يجعله يفرز الأحاديث الضعاف من الصحاح المسندة من الآحاد .
بل و يبالغ المسلمون اليوم في عزل المرأة عن المجتمع ، فقاموا يخترعون إضافة إلى اختراع ( الحجاب ) اختراعاً آخر يزري بمخترعه هو(النقاب).
الذي يغطي كل الوجه ولا يترك سوى العينين ، أو ثقباً واحداً لعين واحدة ، و هو النقاب الذي كانت ترتديه المعلمة المسلمة الفرنسية وصاحبة القضية المشهورة التي رفعتها كي تدخل علي تلاميذها الصغار بنقاب له عين واحدة ، مما قد يرعب هؤلاء الأطفال. ثم هناك نقاب لا يسمح حتى بثقوب ولا للعين الواحدة، وهو نوعاً من الاستعلاء علي المسلمين ، و أنه إعلان تميز ، بل هو استعلاء على شرع الله و مزايدة علي الله نفسه ، و إن النقاب إذ يعطي المرأة فرصة التطلع إلي الآخرين و فرزهم واقتحامهم بعيونها ، فإنها بنقابها تمنع عنهم ذات الحق .
و هو ذات الحق الذي تم إعطاؤه للمصليات في المسجد خلف الرجال ، لهذا رفض الشيخ يوسف قرضاوي إمامة المرأة للصلاة بقوله معللاً : " لأن الرجل المصلي قد يسرح فكره .. ما أجمل قوامها .. ما أجمل جسدها .. فالإسلام دين واقعي ينظر للإنسان كإنسان تحركه غرائزه ، لذلك منع الإسلام أن تؤم المرأة الرجال ، فهي ستسجد إمام الرجل بجسمها .
و يستطرد الشيخ شارحاً " في مسجد النبي كان النساء خلف الرجال و لم يكن بينهم أي حاجز ، ( اليوم يقيمون الحواجز في المساجد مزايدة علي النبي !!!) .. و كان معروفاً أن العرب يلبسون إزاراً و رداء و كثير منهم لا يلبس السراويل ، و لذلك قال النبي للنساء : لا تعجلن برفع رؤوسكن .
و الإزارأوالرداء هو قطعة قماش تلف علي الوسط الأسفل للرجل ، و كانوا لا يلبسون السراويل ، و هو ما يعني بروز الأعضاء التناسلية للخلف عند السجود مما يسمح للنساء بالتطلع إليها ، لذلك أمرهن النبي ألا يعجلن برفع رؤوسهن ، و ينتظرن الرجال حتى يقومون من السجدة فيقمن بعدهم . " قال الواقدي عن ثعلبة بن أبي مالك قال : تزوج رسول الله ( ص ) امرأة من بني عامر ، فكان إذا خرج اطلعت علي أهل المسجد ، فأخبرته زوجاته بذلك ، فقال : إنكن تبغين عليها ، فقلن : نريكها و هي تتطلع ، فلما رآها فارقها ، قال الكلبي : كانت عند رسول الله العالية بنت ظبيان بن عمر بن عوف بن كلاب ، فمكثت عنده ما شاء الله ثم فارقها بسبب التطلع " .
المقصود أنه أياً كان الوضع ، حجاباً أم خماراً أم نقاباً ، أو أن يكون أمام أو خلف في الصلاة التي هي وقت القداسة ، أو في المسجد الذي هو قدس أقداس الإسلام ، أو في حضور النبي بشخصه و كرامته ، و مع كل الحرص علي عدم التطلع فقد حدث التطلع و من زوجة سيد المرسلين نفسه ، و لم يعاقبها بشئ عظيم ، فقط فارقها ، لأنه يعلم أنه مع كل الحرص فإن نداء الطبيعة عند البعض أكثر استصراخاً ، و أنه شأن غريزي لا يمكن اقتلاعه .
لباس المرأة أيام الأمويين:
عرف عن المرأة الأموية ولعها بالأردية المختلفة الألوان والأشكال، ونفورها من اللون الأسود، إلى أن أقبل تاجر عراقي على المدينة ومعه خمر ألوانها مختلفة بيعت كلها، وبقيت الخمر السود. فذهب إلى الدرامي الشاعر الماجن بعد أن تنسك وسكن المسجد فاشتكى له كساد هذه الخمر،فقال له الدرامي:
- ماذا تجعل لي على أن أحتال بحيلة حتى تبيعها كلها. فقال التاجر.
- ما شئت
فخلع الدرامي ثياب نسكه ونظم شعرا وطلب من أحد أصدقائه المغنين أن ينشده فغنى به ومن أبياته:
قل للمليحة في الخمار الأسود***ماذا فعلت بناسك متعبد
قد كــان شمر للصلاة ثيابـه***حتى خطرت له بباب المسجد

ولما سمعت النساء هذا الشعر في المدينة المنورة أسرعن إلى شراء الخمر السود قيل "فلم تبق سيدة جميلة في المدينة إلا واشترت خمارا أسود" مما يدل على أن المرأة في ذلك الزمن تطلب المودة، وتتبع الإشهار والدليل على ذلك انتشار لبس الخمور السود بين النساء الأمويات بعد أن كنّ يرفضن ارتداء اللون الأسود.
وكانت لهن طرق في الزينة وإبراز المحاسن منها ما فعلته سكينة بنت الحسن سيدة زمانها فقد ابتكرت تصفيفة جديدة للشعر، فقلدتها نساء عصرها في تلك التصفيفة التي عرفت"بالطرة السكينية" ويصفها ابن خلكان قائلا "كانت سيدة عصرها حسبا ومن أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن أخلاقا.... والطرة السكينية منسوبة إليها".
واشتهرت الطرة السكينية في المدينة حتى قلد الرجال النساء في تصفيف الشعر.
لباس المرأة فى عهد العباسيين :
انتقلت العاصمة الإسلامية من دمشق إلى بغداد في العهد العباسي، فاقتدت العربيات المسلمات بالبغداديات في لباسهن، ثم ابتكرن أزياء روعة في الجمال.وكثرت أشكال الأردية، مما يدل على تنوع الألبسة واختلافها كثرة أسمائها ومنها "الغلائل الدخانية والأردية والرشيدية والطبرية، والقصب الملون، والحرير المعين، والمقانع النيسابورية، وأزر الملحم الخرسانية،والغلائل الممسكة،والقمص المعنبرة والأزر المعصفرة،ومنها ما صنع من الحرير والقز والديباج والوشي".
وتبعا للترف الذي عرفته المرأة في العهد العباسي كثر ولعلها بابتداع الأزياء الراقية ومن خصائصها الأكمام المفتوحة والسراويل البيض المذيلة، والمعاجر السود والمسبلة. وابتكرت المرأة العباسية أيضا"عقد الزنار"يلبسن على الطريقة الآتية: تعقد المرأة في طرف أزارها زنارا وخيطا من الحرير ثم تجعله على رأسها، فيثبت الإزار ولا يتحرك.وأول من اخترعته متيم الهشامية من فنانات البصرة ثم قلدتها نساء العباسيين في عقد الزنار.
ولقد بلغ بهن الترف حد تطريز الخمر بالذهب الخالص قال أبو علي التنوخي يصف ذلك:
نور الخمار ونور وجهك تحته***عجبا لوجهك كيف لم يلتهب
وجمعت بين المذهبين فلم يكن***للحسن عن ذهبيها من مذهب
ومما يدل على الذوق الرفيع لنساء العصر العباسي والمكانة الثقافية أنهن كتبن الأشعار على ملابسهن، حتى أنك لا تجد ثوبا لم ينقش عليه بيتا من مستظرف الشعر يصف محاسنهن، ولم تكن هذه النقوش مقصورة على الجواري والغواني وإنما تجاوزتهن لربات القصور. ومما اختصت به علية بنت المهدي العصائب المكللة بالجوهر حسب نص الأصفهاني التالي "إن السبب في اختراع عليه لهذه المودة أنه كان في جبينها سمة تشين وجهها، فاتخذت العصائب المكللة بالجوهر لتستر بها جبينها فأحدثت والله ما رأيت فيما ابتدعته النساء واحدثته أحسن منه".
وانتشرت مودة علية بين نساء العباسيين، وطورتها فكتبن على العصائب بصفائح الذهب شعرا لطيفا يصف محاسنهن، وذهبن في الترف شوطا بعيدا فكتبن الشعر بصفائح الذهب على أحذيتهن، واخترن من الأحذية الأخفاف التي تصرّ عند المشي ليجلبن الانتباه.
هذه نماذج من أزياء النساء في الجاهلية وفي العهد الأول للإسلام إلى حدود العهد العباسي أردتها شواهد على أناقة المرأة العربية والعربية المسلمة، أناقة لا تتعارض مع القيم ولا مانع للدين، هذا للعلم حتى يعرف من يريد أن يستهجن المرأة ويحتقرها.ويتدخل في لباسها ويقلل من أناقتها.
المرأة ما بعد العباسيين :
مما سبق يتضح لنا أن النقاب عادة قديمة جدا، تعود إلى ما قبل ظهور الديانات كلها اليهودية والمسيحية والإسلام، فقد عرفه الآشوريون والآراميون والبابليون والفرس والتركمان، وكان النقاب معروفا في الجاهلية بين قبائل البدو وليس في الحضر... فالمرأة البدوية التي تعيش في الصحراء وترعى الغنم لا يراها أحد، فهي لا تحتاج إلى غطاء الوجه.. فإذا دخلت المدينة فإنها تشعر بالهيبة من مواجهة المجتمع، فتغطي وجهها، فلما جاء الإسلام.. أمر بتحرير المرأة من كل قيد فيه مذلة لها وحجر على آدميتها، ابتداء من عادة وأدها وهي مولودة، إلى حقوقها وهي ابنة ثم زوجة ثم أم.
وكانت المرأة المسلمة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم- تخرج إلى المجتمع سافرة.. وكانت تشارك في دروس الدين مع الرجال وتحضر الصلاة خلف الرسول، وتشارك في القتال وطلب الحرب، وظل الحال كذلك في الخلافة الرشيدة، ثم الأموية ثم العباسية، وعندما ضعفت الخلافة وساد سلطان المماليك والأغوات في آخر الخلافة العباسية....كان المماليك في شوارع بغداد والمدن الإسلامية إذا أعجبتهم امرأة جميلة في الطريق يخطفونها ويغتصبونها، فاضطر النساء إلى إخفاء وجوههن بالنقاب.
وظل النقاب معمولا به في العالم الإسلامي أثناء حكم المماليك ثم الحكم التركي، وأصبح عادة وليس عبادة، وخوفا من الضرر وهتك العرض وليس تمسكا بالدين ولا الفضيلة، وظل الأمر هكذا حتى ظهر الإمام محمد عبده وتلميذه النابغة قاسم أمين وآخرون الذين نادوا بتحرير النساء ورفع الحرج عنها والتفريق بين ما هو ديني إسلامي وما هو من العادات التي تراكمت حتى أصبحت كالمسلمات من الدين، وبعد أن أتى ثمار هذه النهضة فى مصر، ثم تحررت معظم نساء العالم الإسلامي التي كانت فى وضع يسمح لها بالرقى والتحضر ، وبقية مجتمعات الجزيرة العربية ووسط آسيا على حالها نظرا لتأخرها عن اللحاق بركب الحضارة والرقى .
وقد بلغ هذا الانحطاط الخلقي والديني والانسانى مبلغه فقبل سنوات قليلة نشب حريق في غرفة ملابس أحد مدارس البنات فى مدينة الرياض – عاصمة الوهابية - ففزعت البنات وهربن من الباب وهن كاشفات وجوههن... فشاهدتهن الشرطة الدينية – الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر- فأجبروهن على العودة إلى المدرسة وأغلقوا عليهن الباب، فامتدت إليهن النيران وهن يصرخن ولا مجيب حتى احترقن ، وكأن لسان حال الشرطة تقول خير للمرأة أن تموت بالحريق من النجاة من الموت وهي كاشفة الوجه!!
ويذكر الطبيب الأمريكي سيمون جراي في كتابه "أسرار وراء الحجاب" أن أية امرأة منقبة قد تقبل الكشف للطبيب عن جسمها كله أو بعضه، ولكن بشرط ألا تكشف النقاب عن وجهها.
علما بأنه لا يوجد في القرآن الكريم كله أو الحديث الصحيح أمر يفرض النقاب وقد حاول بعض المفسرين تفسير قوله تعالى : "وليضربن بخمرهن على جيوبهن"، بأن هذا يعني أن المرأة تدلي خمارها من فوق رأسها ليغطي وجهها، وهذا خطأ لغوي وفقهي، لأن الخمار كان يغطى به الرأس ويتدلى على الكتفين، فالأمر هنا ينص كما فسره جميع علماء الفقه "السنة والشيعة" أن تغطي "الجيب" وهو فتحة الصدر ما بين النهدين بطرف الخمار، ولو كان الأمر يحمل معنى غطاء الوجه كما يدعي هؤلاء المعسرون لجاءت الآية "وليضربن بخمرهن على وجوههن". ولكي يحارب الإسلام عادة النقاب ويلغيها من حياة المسلمين، فقد أمر الرسول المرأة بعدم لبس النقاب أو القفازين في مناسك الحج والعمرة، واتفق الفقهاء أن المرأة إذا لبست النقاب في الحج عامدة يبطل حجها. وإذا لبسته من باب السهو أو الجهل فعليها فدية باعتبار أن ما فعلته ذنب وخطيئة في حق دينها، ونص الحديث هو "لا تنقب المحرمة ولا تلبس القفازين" رواه البخاري ومسلم ، والأمر البديهي الذي لا يجب أن يغيب عن ذهن أي قارئ أن هذا التشريع يعني كراهية النقاب والحث على إلغائه، فتحريمه جاء هنا في أقدس وأطهر مكان هو مناسك الحج والكعبة، وفي حضور صفوة الرجال والحجاج وفي حضور الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ). وبهذا يصبح السفور أمرا عاديا في غير الحج، ولو كان النقاب مستحبا كما يدعي المغرضون لكان الأمر بالعكس ولفرضه الإسلام في هذا الموقف الجليل أكثر من أي مكان آخر، ولكن الإسلام يتبع طريقة التدرج كما في النهي عن الخمر. وقد كان نساء الصحابة يحضرن الصلاة في المسجد، وخلف الرسول سافرات الوجوه، وكن يحضرن درس الدين والعلم في مجلسه، ويناقشنه في أية قضية وهن سافرات. وقد جاء في صحيح مسلم :"أن امرأة جاءت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم- وهو جالس بين أصحابه وقالت يا رسول الله جئت أهب لك نفسي، فنظر إليها الرسول، فصعد النظر فيها ثم صوبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت أنه لم يقض شيئا فيها جلست، فقام رجل من أصحابه فقال :" يا رسول الله، إن لم يكن لك حاجة بها فزوجنيها فزوجها له". فهذه المرأة دخلت بلا شك سافرة الوجه في حضور الرسول وأصحابه، وأنهم جميعا قد نظروا إلى وجهها. وفي القرآن الكريم إشارات واضحة إلى كراهية النقاب، من ذلك قوله تعالى : "ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها " النور 64، وقد أجمع المفسرون أنه رخصة للمرأة المسلمة أن تظهر زينة الوجه ولا تخفيه بالنقاب، كما أجمعوا على تفسير قوله تعالى : "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم"، النور، إن هذه رخصة للمرأة بسفور الوجه لأن غض البصر يكون أصلا عن الشيء المرئي وليس عن الشيء الخفي، والأمثلة على سفور نساء الصحابة في عهد الرسول( صلى الله عليه وآله وسلم )لا حصر لها.
النقاب فى مصر المحروسة :
لا يمكن أن يتم النظر إلى قراءة التحولات الحادثة في مصر اليوم دون أن نعتبر تماما بالوعي الجمعي الشعبي، وأن نلحظ تعقد وتعدد مستويات التركيبة السكانية لمصر ومكوناتها الثقافية وخلفياتها الاجتماعية،فالذين يطالعون المشهد المصري من وجهته السياسية أو الاقتصادية أو الدينية يطالعونه من منظور نظري محض، أو من منظور قارىء الصحيفة الجالس على شرفة بحرية في مكان قصي لا تروق له قسوة المكان الشعبي أو ازدحامه، أو اكفهرار أوجه ناسه بمختلف مستوياتهم الشعبية.
من هنا فإن هذه القراءة تسعى لتوصيف المشهد من داخله. فمصر ليست كورنيش النيل أو الساحل الشمالي وقرية مارينا أو الفيلات المسورة فقط، مصر الحقيقية هي الثاوية في الأحياء الشعبية وفي الحواري وفي القرى الريفية، وفي المدن الشعبية المكدسة على ضفاف النيل من الدلتا إلى أسوان، منها تنبع القيم، وتتولد الأفكار، وتنبثق الظواهر.
ولقد أثيرت مؤخرا مسألة النقاب في مصر،وحبرت على لوحته السوداء الكثير من الكلمات والمقالات، وجلها تنظر للمسألة من زاويتين:
الأولى: النظر للنقاب من منظور ديني شرعي، يرى أن النقاب مجرد عادة اجتماعية وليس عبادة، وأن الدين الإسلامي لم يأمر بارتداء النقاب. فيما ترى الجماعات االوهابية وعلى رأسها الإخوان المسلمون أن النقاب فريضة دينية لأنه صنو الحجاب.
- الثانية: النظر للنقاب من منظور سياسي دستوري يتمثل مفهوم : الحرية الشخصية، والمساواة في الحقوق الاجتماعية، ومنها حق اختيار نمط الحياة من مأكل وملبس ومسكن.
بدأت ظاهرة انتشار النقاب في مصر بشكل بطيء جدا، إذ لم تكن ترتدي النقاب سوى " الأخت" المنتسبة إلى جماعة إسلامية/ الوهابية وتجلى ذلك على استحياء في عهد الرئيس السادات. كانت مصر الستينيات في العهد الناصري قد عرفت موجة العري والميني جيب، وانكسرت هذه الظاهرة قليلا بعد هزيمة 1967، وإن تجلت في عدد من الأفلام السينمائية التي أنتجت بعد النكسة التي تخلت عن القيمة بعد أن فقد الجميع مشروعهم القومي.
كما تجلت ظاهرة جديدة بين الشباب والشابات في مصر في السبعينيات في ارتداء الملابس الضيقة والقصيرة والأحذية ذات الكعوب العالية، وإطالة الشعر، فيما أطلق عليه موضة: "الخنافس" واستمرت حتى بدايات الثمانينيات من القرن العشرين، وفي ظل ذلك كله لم يكن للحجاب أو النقاب في مصر إلا وجود بسيط، بدأ ينتشر مع عهد الرئيس مبارك، منذ أواسط الثمانينيات الميلادية، وتجلت الظاهرة التي أخذت ضجتها الإعلامية مع اعتزال بعض الفنانات وارتدائهن الحجاب مثل: شمس البارودي،و شهيرة، ثم عفاف شعيب، وسهير البابلي، وشادية وسهير رمزي، وغيرهن، مما أسهم في زيادة الاتجاه نحو الحجاب (لا النقاب) بين النساء وبنات الجامعة، والمرأة العاملة، خاصة في الأحياء الشعبية.
ومع انتشار شركات توظيف الأموال الإسلامية، وزيادة الحضور الديني (الشعبي) للجماعات الإسلامية، ونشاط الجمعيات الإسلامية الرسمية خاصة: الجمعية الشرعية، والتأثير الخليجي للعائدين والعائدات من الخليج، وانتشار العباءات النسائية السوداء – بتأثير خليجي - كموضة ( شعبية) أولا، ثم كزي إسلامي مصحوب بالحجاب ثانيا، بدأ التفكير في النقاب يراود بعض المسلمات المتدينات، حيث بدأت المنقبات يظهرن في الجامعة، وفي مجال التعليم كمعلمات، ثم في القطاع الوظيفي خاصة قطاع الممرضات، حيث يبلغ عدد الممرضات المنقبات اليوم كما تشير إحصائيات وزارة الصحة المصرية نحو (9500) ممرضة منقبة!!
كانت المنتسبات للجماعات الإسلامية/الوهابية "الأخوات" هن وحدهن من يرتدين النقاب، خاصة وأن آباءهن من أعضاء الجماعات الوهابية تلك يلزمنهن بارتداء الحجاب أو النقاب من سن الطفولة المبكرة، منذ العام الثالث أو الرابع حتى يعتدن عليه. كان المنظر غريبا أن ترى طفلة تسير في شوارع القاهرة أو بعض محافظات مصر وعمرها ثلاث سنوات وهي ترتدي الحجاب .. لكن هذا الأمر أصبح معتادا بعد ذلك.
في حقيقة الأمر لا ترتدي النسوة النقاب في مصر إلا إذا كن ينتسبن لإحدى هذه الجماعات، وكانت أجهزة الأمن المصري تطاردهن، وتعرفهن بشكل محدد،أما اليوم فالظاهرة باتت ملحوظة، خاصة في الأحياء الشعبية المصرية في القاهرة والإسكندرية وبعض المدن الأخرى ذات الكثافة السكانية.
ولأن مصر تمر بأزمة اقتصادية شديدة الوطأة ملحوظة لدى قطاع كبير من الشعب المصري، فإن العامل الاقتصادي والاجتماعي يشكل أحد أسباب انتشار النقاب، فهو زى منخفض التكاليف، وتكرار ارتدائه يعفي الأسر من مسألة معايشة الموضة وغلاء أسعار الملابس النسائية، وغلاء متطلبات المرأة من الماكياج والكوافير والإكسسوارات النسائية، وهو الأمر الذي يفسر انتشار النقاب – وإن بشكل محدود – في الأحياء الشعبية الفقيرة لا في الأحياء الراقية الثرية.
كما أن ارتداء النقاب لا يشترط بالضرورة " تدينا" أو معرفة بالدين أو حتى بالسياسة، ذلك لأن بعض من يرتدينه من النساء في مصر قد يرتدينه لمرورهن بحالات نفسية أو سيكولوجية صعبة، كالعزلة أو الطلاق، أو العنوسة، أو الإحساس بالإحباط واليأس والشعور بالاغتراب، بل إن هناك أميات يجهلن القراءة والكتابة ويرتدين النقاب، بل إن " النقاب" أصبح من سمات تخفي بعض الخارجات على القيم الأخلاقية.
وتشكل القنوات الفضائية الوهابية أحد العوامل الإعلامية في انتشار النقاب، فقد ظهر دعاة وهابيون، لا يقومون سوى بحكي قصص التراث الإسلامي في عهد الرسول يقومون بقص ولزق الأخبار القديمة وتقديمها للمشاهدين على أنها هي الإسلام الحقيقي، ومن بينها الدعوة لـ"النقاب" على أنه عنوان المرأة المسلمة الملتزمة.
تحركت المؤسسة الدينية الرسمية في مصر بشكل متأخر لمحاصرة ظاهرة "النقاب" فيما تابعناه من رأي شيخ الأزهر الشيخ سيد طنطاوي في النقاب وقراره منع دخول المنقبات جامعة الأزهر، واعتباره النقاب عادة اجتماعية وليس عبادة، وهذه طروحات جاءت متأخرة جدا.
لقد سكتت الدولة عن الحجاب، لاعتبارات اقتصادية واجتماعية يعلمها الجميع، والريف المصري، وتطور الحجاب وأصبح" نقابا" وأصبحت ترى بعض الكتل السوداء تسير في الشوارع بشكل عادي ومألوف، على الرغم من أن غالبية المجتمع المصري تنظر لهذه الظاهرة باستهجان، كما أن تناقض العلاقة السيكولوجية بين المصريات والحجاب والنقاب بدأ يظهر فى ارتداء البنات والنساء من الطبقة الثرية والمتوسطة لأحدث خطوط الموضة والأزياء،من التيشرتات والكولونات، والبنطلونات الضيقة، والتنورات الطويلة الضيقة جدا، مع الإبقاء على إيشارب على الرأس يسمينه " الحجاب"، وبالطبع الظاهرة شعبية وليست لها علاقة بالتدين.
وقد أثارت بعض مؤسسات حقوق الإنسان في مصر مسألة: "الحرية الشخصية" في ارتداء النقاب، ويبدو أن القائمين على هذه المؤسسات ومعظمهم يرفض الحجاب ويرفض النقاب، يريدون تأكيد الحضور على الساحة المصرية في أية قضية عارضة أو طارئة حتى لو كانت قضية" النقاب" مبتعدين عن قراءة الأسباب الاجتماعية والاقتصادية لهذه المسألة وضعف التأثير الديني الرسمي مقابل تأثير الجماعات الوهابية في الشارع المصري، فأين شعارات حرية المرأة، وحقوق المرأة، وعصرنة المرأة التي يطلقونها ويرفعونها في شعاراتهم، وأين هو المجتمع المدني الذي ينشدونه؟
الذي عليه أن يقوم بدور تنمية المجتمع والحد من التمايز الديني والطائفي ، لان هذا النقاب وتابعه الحجاب بشكله الذي رسمته الجماعة الوهابية فى مصر ، ما هو إلا لباس طائفيا ليس له علاقة لا بالدين ولا بالشخصية ، بل هو ثياب احترابي وتحريضي يميز صاحبة الحجاب أو النقاب على اعتبار إنها رمز العفة ، ويتهم الأخريات التي لا يرتدين نفس الزى وان كن مسلمات مؤمنات محتشمات ، ولكنهن لا يلتزمن بالزى الوهابي الرسمي .
والله اعلم