8 مارس 8 مشاهد عادية



عبد الإله بوحمالة
2010 / 3 / 15

مشهد 1:
الوقت مبكر جدا بالنسبة لخروج امرأة من بيتها وحيدة..
وقد تعودت حينما أوقف سيارة الأجرة، ألا يكون في العادة من بين ركابها المتوجهين إلى عملهم نساء إلا حينما تكون تلك السيدة، فهي استثناء بين الذاهبين إلى العاصمة بعد الفجر بقليل.
حينما أفتح باب السيارة لا أميز عادة هوية ركابها، إلا أنني أعرف بطريقة ما أنها موجودة. ربما كان ذلك من خلال رائحة الطين الطري التي تنبعث من حذائها وملابسها.
اليوم هي تجلس فعلا في الركن الأيسر من المقعد الخلفي للسيارة، مكانها المفضل دائما خلف السائق مباشرة، وهي سيدة في حدود الخمسين من عمرها، حرفتها التقاط كل أنواع البقوليات البرية من الحقول والبساتين وبيعها في أسواق العاصمة.
في صبيحة هذا اليوم، كانت تتجاذب أطراف حديث عابر مع راكب بجوارها، نبرتها الهادئة مفعمة برضا تام، ففصل الشتاء هذه السنة كان بالنسبة لها كريما بما فيه الكفاية، والأرض جادت بكل خيراتها، وهي ابنة الأرض والمطر كما تعبر عادة وهي تتنهد.
كانت تحمد الله وتشكره باطمئنان واضح في كلامها مع الرجل، وحين خفضت نبرتها فجأة كأنها تفشي سرا خطيرا، قالت بأن هذه السنة ذكرتها بسنوات بعيدة حين كانت "البقول" تنبت على قارعة الطريق وبين خضروات الحقول ولم يكن ينتبه إليها أحد أو يحفل بها أحد إلا سكان المدينة.
وكعادتها كل يوم، نزلت في منتصف الطريق لتستقل الحافلة المتوجهة إلى الرباط.. أخذت كيسها من صندوق السيارة، وقبل أن أنزل بدوري، في المحطة الموالية، أخبرنا الرجل، الذي كان يخوض معها في الحديث، أنها تحصل من تجارتها هاته البسيطة على ما يفوق مائة درهم يوميا ومع ذلك فإنها عادة ما تستغل فرصة عودتها منتصف النهار لتتسول دراهم إضافية في الحافلة.
والعجيب، يقول الرجل، أنها تجد بين الركاب كثيرا من المتعاطفين الذين يغدقون عليها أكثر مما يفعلون مع غيرها من المتسولين، قبل أن يستطرد: في الحقيقة ليس هناك في الأمر عجب ولا يحزنون، لأنها حينما تستجدي، سبحان الذي خلقها، تكاد تبكي الحجر الصلد من كثرة الشفقة.
مشهد 2:
في أحد شوارع الرباط الكبيرة، وأمام مقر لشركة اتصالات معروفة، يقف شاب وشابة مراهقين في مقتبل العمر في ركن محاد لباب الشركة ومواجه لباب عمارة سكنية، كانا ملتصقين تماما، ويبدو أنهما قضيا وقتا طويلا على هذه الوضعية.
كان يقبلها ويلعب بخصلات شعرها بيده اليسرى ويجوس في صدرها باليد اليمنى بينما كانت هي تضع يدها بجرأة منقطعة النظير تحت حزامه.
تجاهلهما التام للناس في الشارع، واطمئنانهما من عدم حدوث أية مباغثة لرجال الأمن، جعلهما يبدوان في هذا الوقت المبكر، كأنهما في قداس أو كأنهما يصليان نافلة الصباح بخشوع.
كان كل المارة يسرقون نظرة خاطفة ويمضون بلا مبالاة أو بتقزز، ووددت لو أسألهما سؤالا واحدا، ماذا لو خرج من باب العمارة أب رفقة ابنه أو ابنته ووجدهما على هذه الحال؟
لكني تراجعت حتى عن التفكير في مثل هذا السؤال لأنه قطعا سيبدو لهما سخيفا وفضوليا وتنبعث منه رائحة شيء كان يسمى في زمن ما حياء عاما أو أخلاقا أو شيئا من هذا القبيل وهي أشياء عفا عنها الزمن، وأصبحت، في نظر كل أقرانهما، متلاشيات منبوذة.
مشهد 3:
دخلت بزيها العسكري الداكن وقدها الفارع إلى المقهى.. مشيتها ثابتة ووقفتها تنم عن ثقة كبيرة في النفس..
وضعت جهاز الاتصال اللاسلكي جانبا فوق الطاولة وطلبت كأس عصير برتقال.. وجلست..
سحبت من محفظة كانت معها مرآة وعلبة ماكياج وحدقت مليا في وجهها الذي تسربت إليه ظلال التعب والذبول.. قطبت جبينها فبدت كأنها تطل على نفسها من مكان بعيد.. أو كأنها تتعرف على نفسها في المرآة لأول مرة.
حينما جاءها النادل بكأس العصير أفرغته دفعة واحدة في جوفها ثم أتبعته بحبة دواء لم أتبين نوعها وعادت إلى المرآة وعلبة مساحيقها من جديد..
عدلت ما يمكن تعديله على الخدين والحاجبين وتحت العينين.. وطلت الشفتين السمراوين بلون قرمزي خفيف، ثم طوت مرآتها الصغيرة ووقفت..
سوت حزام بدلتها العسكرية ومسحت المقهى بنظرة فيها نوع من الغيظ والحنق ثم وضعت نظارتها السوداء وارتدت قفازها الأبيض وغادرت المكان..
مشيتها ثابتة وقدها فارع لكن عطرها أنثوي رقيق..
رافقتها نظرات المتلصصين إلى أن اختفت نهائيا بين زحام السيارات..
السلطة منذ الأزل كانت أنثى باردة قاسية وبشعة..
وهذا الصباح، من باب الاستثناء ربما، كانت تحاول جاهدة أن تتجمل قليلا في هذا المقهى القذر لكن للأسف كل الذكور المتواجدين كانوا من الجيفة والمنخنقة وما أكل السبع.
مشهد 4:
في الشارع نحو العمل نساء من مختلف الأعمار يسرن في جميع الاتجاهات، أغلبيتهن من الطالبات الجامعيات أو الموظفات أو التلميذات، مسافة مائتي متر أو أكثر قليلا صالحة لمراقبة عينة منهن والخروج بخلاصة ما..
سبق أن قمت بنفس اللعبة على سبيل التسلية وكانت النتيجة طريفة.
السؤال الذي اخترت الإجابة عنه هو هل لا زالت ظاهرة الحجاب في تزايد داخل المجتمع المغربي؟
وكفرضية خمنت أن يكون الجواب بنعم في ظل المتغيرات العالمية الأخيرة منذ مطلع الألفية الثالثة..
مرت بجواري ثلاثة وثلاثون فتاة وسيدة، ثمانية فقط من بينهن كن يرتدين الحجاب، ثلاث سيدات متوسطات العمر يبدو أنهن موظفات واثنتان من بين الخمسة الأخريات يرتدين حجابا على الموضة.. غطاء الشعر فقط هو الذي يحجب شيئا ما، أما الباقي فلباس عادي لأن الفصل فصل شتاء.
الظاهرة على ما يبدو بدأت في الانحسار، لكن لا يمكن الجزم إلا على سبيل الانطباع العفوي.
مشهد 5:
على سور قصير تجمع عدد من التلاميذ والتلميذات ينتمون إلى مؤسسة تعليمية ثانوية.. ثلاث أشياء مشتركة بين التلميذات الثلاث: علبة عصير وجهاز هاتف محمول من الماركات الغالية الثمن وسيجارة بين الأنامل الفتية..
يجلسن على قارعة الطريق ويتحدثن بصوت عال ويدخنن باحترافية تنم عن خبرة كبيرة وإدمان..
أكيد أن آباءهن من مواليد الستينيات وما بعدها.. لماذا؟
لأن هذا الجيل في نظري، وبلا تحامل، هو أضعف الأجيال في تاريخ المغرب على الإطلاق.. حلم كثيرا وتفلسف كثيرا ونفخ ريشه كثيرا لكنه في الأخير لم يحقق إلا الخيبات والإحباطات والهزائم.. وها هو ينبطح يوما عن يوم وهاهم أبناؤه منحرفون في الشوارع وهاهن بناته القاصرات يتصرفن تحت أعينه كالمومسات في المقاهي والسينمات والشوارع.
مشهد 6:
في المساء، أمام مبنى البرلمان، مجموعة من الشبان والشابات يرفعون لافتات تطالب بالحق في الشغل ويحتجون على الحكومة التي أخلفت ولا زالت تخلف وعودها الانتخابية..
كانوا يضعون على جباههم أشرطة ملونة ويرتدون سترات تميزهم عن العابرين من رواد الشارع حتى لا يتعرض المواطنون لهراوات الأمن..
هذه شهامة نضالية استثنائية لكن ربما كان يفترض بهم تخصيص لون آخر خاص بالشابات المعطلات حفاظا على كرامتهن من أن تنتهك وعلى أجسادهن أن تداس بالأحذية الثقيلة في الشارع العام.
مشهد 7:
في حافلة رحلة العودة مرة أخرى، مجموعة من المراهقين امتنعوا عن تأدية واجب التذكرة.. المبرر: ليس هناك مبرر.. فقط عناد ورغبة في التحرش وإثبات الذات..
مثل هذا الأمر لا يقع عادة حينما يكون محصل التذاكر شابا ذكرا.. تدخل السائق وأنهى مشكلة التذاكر لكن المراهقين تمادوا في معاكسة الفتيات والتلميذات اللائي يصعدن إلى الحافلة..
سخط واضح كان يبدو على ملامح الرجال وغضب مكتوم بين النساء لكن ما باليد حيلة.. هذا الوضع يزداد سوءا يوما عن يوم..
ترحمت امرأة في مقعد أمامي لجارتها على الزمن الماضي، وصفته بزمن الأمن والأمان، ووصفت المغاربة بالشعب "الكاموني" الذي لا يستقيم أمره إلا بالعصا والفلقة.. ترحمت، وهي تخطف نظرة متوجسة على المحيط، على وزير راحل.. قالت إننا لا نستحق الحرية لأننا نجعلها فوضى وأقسمت أن مثل هذا السلوك المنحط لا يردعه إلا ذاك البطش الحازم..
تدخل شاب ساخط ووجه كلامه للمرأة:
ـ يا أمي كل شيء مدروس مهما بدا عفويا.. كل شيء مدروس ومهندس بدقة من زمان صدقيني، نحن يا أمي ندفع دفعا قويا نحو الهاوية.. من يدفعنا؟.. وماذا يريد؟.. ولصالح من؟.. الله أعلم؟.
مشهد 8:
في سيارة الأجرة أخيرا، سيدة شابة وأمها قادمتان للتو من المحكمة..
الشابة حصلت على حكم بالطلاق من زوجها بعد زواج فاشل لم يكمل سنته الأولى..
بدأ الحديث في البداية ثنائيا ثم انخرط فيه السائق ثم راكبين آخرين..
كانت الشابة المطلقة مسرورة غاية السرور وكأن شيئا لم يحدث.. واستغل السائق هذا الظرف ليتهكم على زمن مدونة الأسرة الذي أصبحت فيه للمرأة كلمة وسلطة على الرجل كما يقول..
قالت الأم التي كانت تتنهد حزنا موافقة: المدونة أفقدت المرأة المغربية القدرة على الصبر والتحمل وهي الطريقة الوحيدة للحفاظ على شمل الأسرة ملموما..
قال أحد الركاب مؤكدا: لو تصرفت أمهاتنا بالشكل الذي تتصرف به شابات هذا الزمن لعاش نصف المغاربة في دور الأيتام.. القاضي لا يهمه شيء هو يحكم من ورقة أمامه ولا يشغل نفسه بالبحث في الخلفيات والأسباب والمسببات، وحين يحكم يكون قد شرد طفلا أو أكثر ودمر بيتا بجرة قلم.. الزواج والطلاق في هذا الزمن لم يعد أمرا جديا سواء بالمدونة أو بدونها..
تحرك الراكب الآخر وكانت نبرته واثقة بلا سبب واضح: هناك شابات يبحثن عن الزواج لقضاء هذه الفريضة فقط ثم بعد ذلك يصبح ديدنهن الحصول على الطلاق حلما بحياة أخرى..
فهمت الشابة المطلقة المغزى المشين من كلامه فتدخلت: النساء لسن سواسية كل واحدة لها ظروفها ومن يريد أن يطلق حكما عاما على عواهنه لا ينسى أن يدخل ضمنه أمه وأخته أيضا قبل الأخريات ثم يحكم.
نزلت من الطاكسي، وكانت هذه مصادفة حقيقية لم أخطط لها بالمرة..
تذكرت النقاش الذي دار حول إصلاح مدونة الأسرة، كما تذكرت الطريقة التي حسم بها في الأخير والتي تركت ماء كثيرا في أفواه كثيرة من حساسيات سياسية واجتماعية ودينية.
وطرقت بالي أسئلة ملحة:
ـ هل توبع إصلاح مدونة الأسرة بعد تطبيقه ببحوث واستطلاعات تبين جدواه وانعكاسه الإيجابي المفترض على أوضاع الأسرة والمجتمع؟
ـ هل ظهرت النتائج التي كانت متوخاة من هذا الإصلاح؟
ـ هل تقبل المجتمع هذه الإصلاحات الفوقية أم رفضها وأفرز مناعات بديلة كتأخير الزواج أو العزوف عنه بالمرة؟.