(المرأة ومجتمع التناقضات)



نضال شاكر البيابي
2010 / 3 / 17

لعلنا لانبالغ إن قلنا إن مجتمعنا السعودي مجتمع نرجسي متخم بالتناقضات. وبما أن السلطة قائمة على الحكم العشائري فلاغرو أن يتشعب النسيج الثقافي للمجتمع السعودي بأفكار منحازة وشوفينية لـ"جانب الرجل" معززة من سلطته الوصائية وقوامته على المرأة.مما يجعل المرأة وفقاً لتلك النسقية الرجعية تابعة وقاصرا وذا كفاءة أقل من غريمها الرجل على كافة الأصعدة والمستويات.وفي نظر البعض أن التمرد على هذه الأطر الضيقة الجائرة هو تمرد على المسلمات، بمعنى أن التمرد يقتضي الوسم بالخلاعة والتهتك لمن تسول لها نفسها التمرد على السياج الذكورية الشائكة المنيعة!! ومن المفارقات أن بعض دعاة حقوق المرأة في مجتمعنا هم من حماة ذلك السياج !
فالعقلية العشائرية تنظر للمرأة ككائن شيطاني كيدي تحيطه الغواية من كل اتجاه وزاوية ، لأنه موسوم بالاعوجاج منذ بدء الخليقة، فلا غرو أن تنضح من أردانه الفتنة والموبقات السبع !!
ولكي نحافظ على السلم الأهلي للمجتمع والنظم الأخلاقية العليا ؛لابد أن تظل المرأة رهينة لدورها الطبيعي الذي خلقت من أجله كالطبخ والنفخ والسرير!وأما المرأة العاملة-والعياذ بالله- فالمتشددون الذي رضعوا الوصايا العشائرية حتى النخاع ينظرون إليها بكثير من سوء الظن والهواجس القذرة.
وهذه النسقية الرجعية تترشح من عقلية بدوية موغلة في تصورات متخيلة عن سمات العفة والطهارة وفق نظم وعادات اجتماعية غابرة.
وغني عن القول بأن هذه الرؤية الجائرة للمرأة تعبر عن قصور في الوعي بفحوى حقيقة الدين ونظامه الأخلاقي المتسامي وتغافل واضح عن جوهر النصوص الدينية التي ساوت بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات.
وبما أن المجتمع السعودي مجتمع متعدد الأطياف والرؤى ، فإن النظرة للمرأة تتباين حسب كل خلفية ثقافية لشريحة ما .فمقياس العفة ليس ثابتا بين جميع الشرائح ،فمقياس العفة في القرى غيره في المدن،ومايعد في القرى تهتكا وانحلالا ودهسا للكرامة كعمل المرأة واختلاطها بالرجال مثلا، يرى آخرون أن العفة سجية وليست فرضا متكلفا ولايمكن أن تكون العفة حائلا بين المرأة وبين انخراطها في العمل الميداني.
لذلك تخضع محاولة المرأة الانخراط عمليا في الميادين الثقافية والحقول العلمية(وذلك يقتضي الاختلاط البعبع الذي يستنفر حمية الأوصياء)-غالبا- لقيود نمطية تحددها السلطة العشائرية المتسامحة جدا مع المرأة.وأهم هذه القيود أن تكون المرأة العاملة تحت رقابة صارمة في جو مشحون بالتوجس والريبة مع حضور المحرم أحيانا أو عين الرقيب التي لايتسرب إليها الوسن مادامت مسلطة على هذا الكائن الفتنة الذي تمخض اضطراريا من أقبية العتمة لفضاء النور . وعليها على ضوء تلك الرقابة الأخلاقية المتعسفة أن تثبت حسن النوايا والسلوك من خلال تمثيل دور الآلي المنصاع للأوامر والنواهي دون امتعاض أو تبرم ،وعليها أيضا أن تراقب إيماءاتها بحذر شديد وبالخصوص حينما تتعامل مع الذكور لعلها بعد ذلك كله تتجاوز اختبار تحديد مستوى العفة والإيمان!!
ولاشك أن بعض النساء اللائي تمخضن من بيئات متزمتة عمادها الانتقاص من شأن المرأة وتحقيرها تحت مظلة"ناقصات عقل ودين" يكن مرتهنات لازدواجية معقدة تتلخص بين إشباع الرغبات الفطرية الملحة الحسية والمعنوية للأنثى وبين إرضاء النظم المتعسفة للأنا الأعلى المفروضة قسرا كمسلمات غير قابلة للنقاش والمراجعة الموضوعية.
لذلك تعاني بعض النساء اللائي تمخضن من تلك البيئات المتزمتة من شعور بالذنب والخجل والقلق والدونية عند مجرد التفكير المتخيل بالإثم في اللاشعور,مما يجعلهن ذلك الخاطر مرتهنات لقلق أخلاقي متأزم على مستوى الوجدان.
فالفرد إن كان رجلا أو امرأة عندما ينشأ في بيئة أخلاقية سوية قوامها تقديس قيم الاستقلالية ونقد الذات، قلما تعتوره الصراعات الداخلية الحادة كالتردد في اتخاذ القرارات والشعور بالذنب وعقد النقص والإحساس بالدونية أثناء حضور الآخرين.
ولاأعني بذلك أن يكون إنساناً مثاليا ،لكن ما أعنيه بالتحديد أن المترشح من بيئات أخلاقية سوية ومن خلال شعوره بالثقة في النفس( كقيمة عليا معززة منذ الصبا)والإحساس بالاستقلالية ومعرفة أهمية وجوده كفرد ذي تأثير إيجابي في المجتمع ؛ لن ينعق مع كل ناعق ولن يكون سهل الانقياد لرؤية ما دون أن يخضعها لدراسة موضوعية قبل القبول أو الرفض.
لكن بالمقابل من يترشحون من بيئات استبدادية استمرأت وأد النقد الذاتي في المهد واخضعوا قسرا على رؤية أحادية الجانب للعالم الخارجي ،يكونون -غالبا- عاجزين عن التعامل مع صراعاتهم النفسية ومتطلبات الواقع المعاش.بعبارة أخرى ،التعامل مع الأشياء يكون من خلال المسلمات المترسبة في الخرائط الذهنية.فالانغلاق على الذات والشعور بأن ثمة خطر خارجي محدق بالهوية وبالمسلمات المتوارثة جيلا بعد جيل هي أبرز سمات من تستأصل منهم ملكة نقد الذات في مراحل الصبا الأولى.
وعندما تتعارض رغبات الفرد مع رغبات الجماعة أما أن يكيف الفرد نفسه وفقاً للسمات السائدة في مجتمعه كابتا من رغباته شعوريا أو لاشعوريا للحظوة بالسلام النفسي والأمن الاجتماعي بصرف النظر عن مدى مناسبة ماهو سائد لقناعاته الشخصية أو يحاول إثبات الذات ولفت الانتباه من خلال تمرده بمظاهر سلوكية صادمة على ماهو سائد غير مبالٍ بماهو صواب أو خطأ في نظام العرف.
والخلاصة أن المجتمع مؤثر في الفرد ومتأثر به والعكس صحيح،بمعنى أنه لايمكن أن تتمخض ظاهرة سلوكية من رحم مجتمع معين دون أن تكون إفرازا طبيعيا لتضافر عوامل موضوعية من صلب المجتمع نفسه بصرف النظر عن كون هذه الظاهرة إيجابية أو سلبية.
والذين تباكوا هلعا وعويلا وأعلنوا حالة الطوارئ من أجل إضاءة فانوسية خافتة و قالوا في التظاهرة النسائية التي خرجت ضمن فعاليات مهرجان"قطيفنا خضراء" مالم يقله مالك في الخمر أجدهم يحاولون عبثا قسر المجتمع على سمة واحدة ونفسٍ واحد مما يعني مزيدا من الشقاق والقطيعة المعرفية بين أبناء مجتمع متعدد الأطياف والرؤى.
لكن يبدو لي أن التركة العشائرية الثقيلة ماتزال مترسبة في نفوس الكثير منا!